مسائل المادية: دور الفلسفة في العلم
دلير زنكنة
2024 / 5 / 27 - 09:06
بقلم كيران شليغل أوبراين | 20 فبراير 2024
توضيح قصير قبل أن نقرأ المزيد: أنا مادي. المادية هي فرع من فروع الفلسفة تدين له العلوم، وخاصة العلوم الفيزيائية وعلوم الحياة، بالكثير. تفترض المادية أن العالم المادي – matter – موجود، وكل شيء في الكون، بما في ذلك الوعي، مصنوع من المادة أو هو نتاج لها. و ان الواقع الموضوعي موجود ويمكننا أن نفهمه. بدون المادية لن تكون الفيزياء والكيمياء والأحياء كما نعرفها موجودة.
فرع آخر من الفلسفة، المثالية، يتناقض بشكل مباشر مع المادية. تنص المثالية على أن العقل والوعي، بدلاً من المادة، أساسيان للواقع؛ أنهما غير ماديين وبالتالي مستقلين عن العالم المادي.
الكثير من العلماء والباحثين ليس لديهم فلسفة واعية بالضرورة، أو لا يعتبرون الفلسفة ذات أهمية لعملهم اليومي. ولكن من خلال عدم وجود فلسفة واعية، يمكن للعلماء - مثل أي انسان آخر - أن يلتقطوا دون وعي فلسفات ووجهات نظر أخرى في المجتمع من حولهم. وقد أدى هذا إلى وضع حيث الفلسفات المثالية، بوعي أو بغير وعي، تزحف في طريقها مرة أخرى إلى العلوم، وخاصة في الفيزياء النظرية، مما يؤدي إلى تفسيرات خاطئة لطبيعة الواقع والكون.
لست وحدي مع هذا الرأي. كتب الصحفي العلمي جون هورغان في مجلة Scientific American في عام 2019 : “إن ما يسمى بالعلوم الخالصة ،ليست خالصة. يستمر علماء الفيزياء البارزون في الترويج لأفكار جذابة ولكن غير قابلة للتأكيد مثل نظرية الأوتار، والتضخم، ونظريات الكون المتعدد، والمبدأ البشري (الذي ينص على أن الكون يجب أن يكون كما نشاء ان نراقبه، وإلا فلن نكون هنا لمراقبته). في علم العقل، يدافع علماء النظرية عن نماذج مبنية على ميكانيكا الكم ونظرية المعلومات، تجعل الوعي عنصرًا أساسيًا في الواقع. ومثل المبدأ الانساني ، تعكس نظريات العقل-الجسد هذه إصرارنا النرجسي على أننا محور الكون.
أفكار مثل عدم وجود شيء اسمه حقيقة موضوعية؛ بعض الاستنتاجات المستمدة من تفسير كوبنهاجن لميكانيكا الكم والمبدأ البشري المذكور أعلاه، كلها أمثلة على المثالية في العلم.
ولكن من خلال رفض المادية واحتضان المثالية، لا يمكن للعلوم الفيزيائية أن تتقدم أكثر. يحتاج العلماء إلى التأكيد من جديد على أن الواقع موجود، وأنه موضوعي، ويمكن التحقيق فيه وفهمه. إن رفض أي من هذه الافتراضات أو جميعها يعني رفض المنهج العلمي بشكل أساسي. ولذلك فقد حان الوقت لكي يستعيد العلماء والباحثون المادية.
القضية ضد المثالية
عند قراءة الأدبيات العلمية الشائعة، لا يمر عام دون نشر كتاب أو مقال يدعي – استنادًا إلى أحدث التجارب في ميكانيكا الكم – نظريات مثيرة، مثل عدم وجود حقيقة موضوعية ، أو أن مراقبتنا للكون هي التي تجلب الكون. إلى الوجود ، أو حتى أن الواقع المادي نفسه غير موجود على الإطلاق .
بل إن مثل هذه التفسيرات المثالية للنتائج التجريبية ذهبت إلى حد تحويل الخيال العلمي إلى بحث علمي جاد، مع ادعاءات مثل أنه من المرجح بنسبة 50% أننا جميعا نعيش بالفعل في محاكاة حاسوبية كبيرة واحدة. إن أخذ هذه الأفكار على محمل الجد هو أحد أعراض الأزمة التي يواجهها العلم.
وبصرف النظر عن الأسئلة الأكثر وضوحا التي تنشأ من هذه النظريات (ما هي طبيعة الواقع قبل تطور الحياة الواعية؟ ألم يكن هناك شيء موجود قبل تطور الحياة الواعية؟)، يمكن استخلاص نتيجة أخرى من خلال إنكار الواقع الموضوعي: إذا لم يكن من الممكن معرفة الواقع الموضوعي، أو انه غير موجود، فلا يمكننا تغيير العالم من حولنا. وقد يذهب البعض إلى أبعد من ذلك ويخلصون إلى أنه لا جدوى من المحاولة.
وفي عصر الانقراض الجماعي والكوارث المناخية، يعد هذا تهاونًا خطيرًا، إن لم يكن تواطؤًا صريحًا في التهديد الوجودي الذي يواجه مجتمعاتنا. ولكن بقبولنا المادية، فإننا نتقبل أننا قادرون، بل ويجب علينا، أن نغير العالم نحو الأفضل.
المادية والعلم
العلم والمنهج العلمي متجذران في المادية. لقد بنيت الثورة العلمية في أوروبا وأمريكا الشمالية في القرنين السابع عشر والثامن عشر على حجر أساس المادية. في عصر الثورة والنضال ضد النظام الإقطاعي القديم، بدأ الفلاسفة والعلماء في التشكيك في الأفكار الراسخة في المجتمع، بما في ذلك أفكار ستُعرف فيما بعد بالعلوم الطبيعية.
وكما كتب فريدريك إنجلس في عام 1883 عن هذه الفترة، فقد كان "الوقت الذي كان في حاجة الى عمالقة وأنتج عمالقة - عمالقة في قوة الفكر، والعاطفة، والشخصية، في العالمية والتعلم".
أصبحت التجريبية المنهج العلمي الأساسي. ينص على أنه لا يمكن اكتساب المعرفة إلا من خلال الملاحظة والقياس والتجربة، وليس من خلال أشياء مثل المنطق والحدس وحدهما، أو في الواقع من خلال ما قاله لك البابا.
وهذا مفيد جدًا للعلم، وكان بمثابة حافز كبير للتقدم والاكتشاف، ولكن له حدوده أيضًا. على سبيل المثال، إذا كان كل ما فعلناه هو الاعتماد على ملاحظاتنا لحركة السماء لفهمها، فيمكننا بسهولة استخلاص استنتاج مفاده أن كل شيء في السماء - الشمس والقمر والكواكب والنجوم - يدور حول الأرض، وهي ثابتة. وبطبيعة الحال، ظل الناس يعتقدون ذلك منذ آلاف السنين، ومن يستطيع أن يلومهم؟ إن فكرة أن الأرض تدور حول الشمس كانت تتعارض مع “الحس السليم” وجميع الأدلة التجريبية في ذلك الوقت. علاوة على ذلك، لا يمكنك أن تشعر بأن الأرض تتحرك، لذا فإن المنطق السليم سيخبرك أنها يجب أن تكون ثابتة.
فقط من خلال أدوات أفضل، وقياسات أكثر دقة، وملاحظات جديدة، بدأ علماء الفلك في مراقبة الأشياء التي لا تتناسب تمامًا مع وجهة نظر الكوسمولوجيا عن مركزية الأرض، والمعروفة أيضًا باسم النظام البطلمي - على اسم عالم الفلك السكندري بطليموس.
ولكن بما أن النظام البطلمي كان مدعومًا أيضًا من الكنيسة الكاثوليكية، فإن معارضة هذا النموذج كان غير وارد لأنه يعني معارضة الله نفسه. في البداية، بدلًا من إدراك أن النموذج كان خاطئًا، توصل علماء الفلك إلى المزيد والمزيد من التفسيرات الغريبة و الرائعة لهذه التناقضات، وتم إضافة نماذج رياضية أكثر تعقيدًا ومرهقة إلى نموذج مركزية الأرض لدعمه. وكان هذا دليلاً على أن علم كون العصور الوسطى كان يدخل في أزمة - جنبًا إلى جنب مع مجتمع العصور الوسطى بشكل عام - ولا بد من حدوث شيء ما.
في نهاية المطاف، أصبحت الأدلة دامغة للغاية وانهار نموذج مركزية الأرض مع الثورة الكوبرنيكية، عندما اتخذ عالم الفلك البولندي نيكولاس كوبرنيكوس أخيرًا في القرن السادس عشر خطوة جريئة في قول ما ربما كان الكثيرون يفكرون فيه بالفعل ولكنهم لم يجرؤوا على قوله: تدور الأرض والكواكب حول الشمس، وليس العكس.
لقد كانت هذه خطوة ثورية حقًا إلى الأمام في الفكر. شهد القرن السادس عشر بداية نهاية الحكم المطلق في أوروبا وسيطرة الكنيسة الكاثوليكية على حياة الناس والمجتمع ككل، وكما هو الحال في كل العصور الثورية، لم تكن الفلسفة والعلم في مأمن من التغيرات الزلزالية التي حدثت في المؤسسات السياسية والعلاقات الاقتصادية. وليس من قبيل المصادفة أن القرون الممتدة على الثورة الكوبرنيكية وعصر التنوير تزامنت مع حركة الإصلاح الديني، وانحدار وسقوط الإقطاع والاستبداد، والثورات البرجوازية في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
ومع تثبيت نموذج مركزية الشمس في علم الكون، ومع تحرير علم الكونيات والفلسفة من القبضة الأيديولوجية للكنيسة، حققت الفيزياء والرياضيات قفزات كبيرة إلى الأمام، وبلغت ذروتها في الميكانيكا النيوتونية.
لقد عزز فهم مادي ميكانيكي هذه الميكانيكا الكلاسيكية المبكرة. كان يُعتقد أن حركة الكواكب والأقمار تشبه حركة الساعة الميكانيكية، ووصف العلماء العالم بهذا المعنى الميكانيكي الصارم. وكانت التروس والرافعات والبكرات هي الاستعارات الرئيسية في ذلك الوقت، وأخبرتنا الميكانيكا النيوتونية أن هذا الكون المثالي الذي يعمل على مدار الساعة كان يمكن التنبؤ به تمامًا، طالما كانت الرياضيات موجودة لوصفه.
أخذ العالم الفرنسي بيير سيمون لابلاس هذه النظرة العالمية إلى نهايتها المنطقية عندما اقترح فكرة أنه إذا كان على المرء أن يعرف ظروف البداية - الموقع والسرعة - لجميع المواد في الكون، وصولاً إلى كل ذرة، فإن كل شيء في الكون بأكمله سيكون قابلاً للتنبؤ تمامًا.
نحن نعلم الآن أن هذا الافتراض تبسيطي للغاية.
حدود المادية المبكرة
الكون ليس آلة عملاقة تعمل مثل الساعة؛ هناك عيوب، وهناك عدم القابلية على التنبؤ، وهناك عشوائية، وعدد كبير آخر من الظواهر التي لا يمكن التنبؤ بها عن طريق الرياضيات وحدها (أو حتى التنبؤ بها بدقة على الإطلاق). خذ فقط توقعات الطقس كمثال بسيط.
تمامًا كما هو الحال مع النظام البطلمي، رأى العلماء لفترة طويلة مثل هذه الملاحظات التي ألقت بظلال من الشك على النظرة الميكانيكية للعالم، وكان هناك منتقدون منذ البداية. وعلى عكس ما تشير إليه ميكانيكا نيوتن، عرف الناس أن بعض الأشياء لا يمكن عكسها. قد تكون قادرًا على غلي الماء، والتقاط البخار، وتكثيفه مرة أخرى و ارجاعه الى ماء، ولكن إذا أسقطت بيضة في ذلك الماء المغلي، فلا يمكن إعادة البيضة الى حالة ما قبل التحول. لقد شهدت تغييراً نوعياً لا رجعة عنه. والبيض ليس وحده في هذا. والعالم من حولنا مليء بمثل هذا التحول.
وهذا لا يعني التقليل من شأن نيوتن ولابلاس وغيرهما من علماء زمن التنوير. نيوتن، على سبيل المثال، كان ينظر إلى حركة السماء - والتي تبدو للوهلة الأولى ميكانيكية تمامًا - ولم يكن يقضي وقته في غلي البيض. وكانت مساهماتهم في العلوم قفزة كبيرة وتقدمية للأمام في فهمنا للعالم الطبيعي، لكنهم لم يتمكنوا من العمل إلا بالمعرفة ووسائل البحث التي كانت متاحة لهم في ذلك الوقت.
لن يحدث ذلك حتى بداية القرن الماضي عندما أستبدلت الميكانيكا الكلاسيكية، ومعها النظرة المادية الميكانيكية للعالم، بتحولات نموذجية أخرى في انماط ربما أكثر النظريات شهرة في القرن العشرين: النسبية وميكانيكا الكم.
ظهرت أيضًا تطورات جديدة أخرى، مثل نظرية الفوضى والتعقيد، لمحاولة فهم العشوائية الموجودة في الكثير من الأنظمة الطبيعية، وتذهب هذه التطورات إلى أبعد من ذلك بكثير في وصف عمليات العالم الطبيعي بنمط أفضل مما يمكن أن توفره رؤية عالمية جامدة تشبه عمل الساعة. وبطبيعة الحال، في مجال علم الأحياء، أخذت نظرية التطور نظرة مادية للحياة وقدمت تفسيرا لكيفية تطورها وتغيرها.
المادة في حركة
ولذلك اكتسب العلم رؤية مادية جديدة، اقرت بأن المادة والحركة ليستا ثابتتين لا متغيرين إلى الأبد. المادية اليوم لا تدعي فقط أن المادة هي كل ما هو موجود، بل إنها مادة متحركة، في حالة من التغير المستمر. ويمكن العثور على هذه الفكرة أيضًا في الفلسفة، حيث تعود إلى العصور القديمة.
ولكن بحلول نهاية القرن الثامن عشر، كانت هذه الأفكار الفلسفية حول التغيير قد تراجعت عن الموضة في الفكر الغربي، وتم نسيانها في كثير من النواحي، ودُفنت تحت وطأة ميكانيكا نيوتن السائدة. لقد تطلب الأمر من الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل، الذي كتب في أوائل القرن التاسع عشر، أن "ينقذ" هذا الأمر ويسلط الضوء عليه مرة أخرى.
أطلق هيغل على فلسفته اسم الديالكتيك، وهي كلمة كانت تعني حتى تلك اللحظة كتابة الحجج الفلسفية في شكل حوار، أو "جدل". الآن، عند هيغل، كان الديالكتيك يعني فلسفة التغيير.
في المقالة التالية، سنرى كيف يمكن للديالكتيك، إلى جانب المادية، أن يوفرا نهجًا إرشاديًا قويًا لفهم قوانين وظواهر العالم الطبيعي المكتشفة في القرن التاسع عشر وما بعده.
كيران شليغل-أوبراين
كاتب ومحرر ورسام في مدونة أخبار العلوم المتقدمة Advanced Science News.
المصدر
Advanced Science News