شيخ المثقفين السوريين
فهد المضحكي
2024 / 5 / 25 - 11:31
أنطون مقدسي مُفكر وفيلسوف سوري (1914-2005)، توفي عن عمر يناهز 91 عامًا، ليترك وراءه مجموعة من الأطروحات الفكرية والثقافية.
وبحسب موقع «الباحثون السوريون»، فإن مقدسي لقّب بـ«شيخ المثقفين السوريين» و«الأستاذ» كونه كان أكثر من أديب وكاتب كبير، بل كان محاورًا فذًّا ومنارة ثقافية عالية أيضًا.
تتوزع ثقافته بين الفلسفة والسياسة والأدب والفن والاقتصاد، وهو حاصل على إجازة في الفلسفة وشهادة في الأدب الفرنسي من جامعة مونبليه في فرنسا، إضافة إلى أنه نال شهادة الحقوق والعلوم السياسية من مدرسة الحقوق الفرنسية في بيروت. عمل مدرسًا للفلسفة في حمص ابتداءً من عام 1940، ومدرسًا للفلسفة اليونانية في جامعة دمشق طوال عشرين عامًا.له دور فاعل في إغناء الثقافة السورية عن طريق آرائه وأطروحاته في مختلف الشؤون الفكرية.
إنها لطريقة سُقراطية عاشها المفُكّر، إنه يُعلَّم ويتعلَّم ويبذل حياته في التفكير والتأمل ليوزع بطاقات الولوج إلى عالمه الثقافي، فقد كان يرى أن الثقافة هي المُحدد الأول لسلوك المجتمع وقيمه وقدرته على فتح آفاق جديدة باستمرار، في حين أنه ينظر إلى الشِّعر على أنه طريق بين الحاضر الغائب والغائب الحاضر، فيشق الإنسان به طريقه للتعرف إلى هويته القومية والإنسانية.
وقد عمل مقدسي على وضع علاقة وطيدة بين الأدب والفلسفة والرموز، إذ يجب أن يتفاهم ويندمج مع رموز التاريخ والحاضر، لنصنع مستقبلاً يفوقهم في ثقافته وحداثته. فهو يرى أن الفلسفة وُلدت من مشكلة العدالة في المجتمع، أي الظلم. ويُعزي ذلك في مجمل كتاباته إلى فلسفة أفلاطون التي أنطلقت ضد الظلم والتمرد، ومن ذلك الحين، اتخذت الفلسفة طريقها للإجابة عن سؤال يستثير الآخر، وهكذا كان يعتمد على العلوم النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحقوقية أيضًا، بقية تحقيق العدالة وإزاحة الظلم.
كان مقدسي يعتقد أن المشكلة في المجتمع العربي لا تكمن في تقليده الفكر الغربي أو الشرقي، بل كان من مناصري الحداثة بمفهوم ثقافي لا ينسلخ عن أصالته، ولكن، وبرأيه، تكمن المشكلة في طريقة التقليد ذاتها، وردَّة فعله عن الأحداث الراهنة. ويرى أن الفكر الصحيح يجب أن يستبق الأحداث ويستثيرها لتخضع لإرادته عوضًا عن أن يخضع لها، إضافة إلى أنه طالب بضرورة المجتمع المدني والحرية الفكرية سبيلاً إلى ذلك.
عمل أنطون مقدسي في وزارة الثقافة مسؤولاً عن مديرية الترجمة والتأليف منذ عام 1965 إلى غاية عام 2000، أسس اتحاد الكتاب العرب عام 1969، وقد ظل عضوًا في مكتبة التنفيذي حتى عام 1996. وحقق طموحه بأن يجعل إصدارات وزارة الثقافة أهم إصدارات في الوطن العربي، إذ أدخل الحداثة وكافة التيارات النقدية إلى روح الثقافة السورية، وأشرف على أهم ما عرفته المكتبة العالمية منذ منتصف القرن الماضي. وحدد مواطن الضعف في الفكر العربي عن طريق دراسة المرحلة التاريخية القائمة في سماتها وتحدياتها، وكما يقول المصدر سالف الذكر، أجاز ذلك في أربعة محاور:
أولاً، التقنية: ولم يقصد بذلك المجال الصناعي فحسب، بل الرأي العام والأفكار والإنسان ذاته، فهو يرى أن معاملتهم تستند إلى تخطيط مسبق، وهذا ما سماه بالطغيان لأجل غسل أدمغة الشعوب.
ثانيًا، العلمية: حاول تحليل المنهج العلمي المتبع في الوطن العربي على أنه قاصر عن تحقيق التقدم المرجو منه، وأنه يجب أن يكون أداة لتسخير الطبيعة لصالح الإنسان.
ثالثًا، العالمية: يدعو إلى مفهوم «التجريد والتطبيق»، ويصفه بأنه جوهر الحديث والحداثة، وأن تحقيق هذا يعود إلى الخاصتين السابقتين «التقنية والعلمية»، ويجب أن يكون التجريد غير مقتصر على الزمان والمكان تعريفيًا، فالحضارة الحديثة يجب أن تكون في طبيعتها.
رابعًا: يقظة الشعوب والقوميات: يرى أن هناك ردة فعل بمنتهى الخطورة إذ ما سُيطر على الإنسان «فردًا وجماعةً» وأُلحق بالآلة وسُطح دوره، وأجرى العمل على نزع خصائص الشعوب الذاتية منها، ولهذا أن الشعوب في الشرق والغرب تحاول أن تصل إلى العالمية وكل ما هو حديث دون أن تفقد الأصالة والتاريخ الأدبي.
ويصف هذه السمات بأنها تحوي على وجهين: إيجابي وسلبي، فهي تُعطي الإنسان القدرة على النهوض بإنسانيته وحضارته وثقافته، ولكنها تهدده - في الوقت ذاته - بالانسحاق إن لم يكن على قدر المسؤولية.
وقد تناول التحديات الحديثة لدول العالم الثالث، وحث على حرية الفكر للوصول إلى الحل ومنطلقاته، وتناول الفكر الفلسفي وناقش مسألة الوجود والوجودية، وهذا عن طريق دراسته «من الوجود إلى الوجودية» التي نُشرت أول مرة بعنوان «من العدم إلى الوجود» في مجلة الآداب عام 1966.
في دراسة له تطرق إلى تحليل كتاب جون بول سارتر «الوجود والعدم»، وشَرَع في تحليل مفاهيم المسألة الأنطولوجية بكافة اعتباراتها وأسئلتها منذ الحضارة الإغريقية.
أهم أعماله: فاسا جليليزوما، تأليف مكسيم غوركي، ترجمة: أنطون مقدسي، مبادئ الفلسفة، مشكلة المعرفة. أهم المقالات المنشورة في الصحف العربية: قضايا الأدب وضرورة إنتاجه، 90 صفحة، مدخل إلى دراسة الأدب والتكنولوجيا، 50 صفحة، من الوجود إلى الوجودية، لينين والفلسفة المادية، 30 صفحة، العقل وغير العقل. له مقالات كثيرة في الاقتصاد وفي الفكر العربي المعاصر، وفي الفن التشكيلي. إضافة إلى أن له أعمالاً عدة في القضايا العربية أهمها:
- حرب الخليج،اختراق الجسد العربي.
- المثقف العربي والديمقراطية.
- الديمقراطية في مواجهة العنف.
وبرأي الكاتب غسان الشحادة، لم يكن أنطون مقدسي مجرد ظاهرة عابرة في حياة الثقافة السورية، وعندما نقول (الثقافة السورية) فهذا يعني، أن له دورًا فيها. فقد مرّ حينُ من الدهر كان فيه متعاطفًا مع الفكرة السورية أو مجمل الحزب القومي الاجتماعي السوري، إذ أنه قد وجد في هذه الأفكار السورية نوعًا ما الإجابة عن الأسئلة أو على الأقل بعض الأسئلة التي كانت مطروحة على الواقع.
ويشير الشحادة إلى أن مقدسي أولى الحداثة الأدبية والفنية اهتمامًا فائقًا حتى ليكاد يكون متجاوزًا لما أولاه من اهتمام للمذاهب الفلسفية المعاصرة ومردّ ذلك إلى أن العرب من شعوب القول أي تحتفل باللغة، وعلى ذلك، فما دامت الذهنية العربية ذهنية قول وبيان فإن المدخل إلى الحداثة لابد أن يكون بالنسبة لأمة مثل الأمة العربية مدخلاً أدبيًا لغويًا وربما كانت هذه الواقعة هي التي تفسر لماذا كتب مقدسي عشرات المقالات وأعطى عشرات المقابلات التي نلتقي بها موزعة ومفرقة في الصحف، ولعل هذا ما جعله يعتقد بأن الحداثة الأدبية والفنية يمكن أن تكون مدخلاً للحداثة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأمر الذي يفسر منح الحداثة الأدبية والفنية الأولوية على سائر صور الحداثة الأخرى.
وعلى الرغم من كل ما توفره الحداثة التكنولوجية من تيسير للعلاقة بين الإنسان والمادة المعرفية: كتب مطبوعة، أقراص ليزري ومدمجة، شبكة الإنترنت بمجملها... إلخ، فقد ظل يحنّ بصورة قوية إلى ثقافة القول وإلى ثقافة التواصل المباشر، للاتصال المباشر بين الأفراد داخل الجماعة الواحدة، التي تستمد وجودها من ثقافة واحدة موحدة. ذلك لأن القول أو الخطاب الشفوي يخلق علاقة أعمق مع الوجود أو الكينونة من ذلك الاتصال الذي توفره الكتابة. فالكتابة والكتاب وسيطان في نهاية المطاف، وأما القول أو الخطاب الشفوي ففسحه مباشرة أو فضاء تتفتح فيه الأشياء وتكشف عن ماهياته ودلالاته مما يعيد للنص مقدرته من جديد على إعادة بناء النص، ما دام كل شيء في هذا العالم إنما هو نص، فهذا يعني أن الحداثة، كما يختصرها الكاتب الشحادة، عند مقدسي ليست سوى نوع من إعادة بناء الوجود أو إعادة بناء لما يدعوه مقدسي بـ(الواقع) وبذلك تصبح الحداثة مرادفة لإعادة بناء الواقع في الاتجاهات المرغوبة أو المفضلة من قبل جماعة بشرية معينة.
يقول أدونيس: «أضع مقدسي بين أولئك المفكرين في العالم المعاصر الذين يعيدون الوحدة بين الشعر والفكر، على غرار ما كان قائمًا في التجارب الإنسانية القديمة التي وصلت إلى أوجها في الفلسفة اليونانية قبل سقراط، عند هيراقليطس بخاصة. وهو بذلك ممن يؤسسون للصداقة الوثيقة بين البصر والبصيرة، بين الحدس والعقل، وبين الحاسة والحلم».
أما الروائي واسيني الأعرج فيقول: «أول نص حقيقي لي في مجال الأدب الروائي كان (وقائع من أوجاع رجل)، ولا أنسى أثر شخصيات ثقافية مرموقة عليّ مثل أنطون مقدسي، وحنا مينه، الذين بفضلهم أصبحت روائيًا، وقد لمست منهم الكثير من الحفاوة والتشجيع، وتعلمت منهم أن أؤمن بأهمية المثقف للكاتب الموهوب، وألاّ يبخل عليه ولا يتهاون معه في الوقت نفسه».