سر الثراء الصيني
مشعل يسار
2024 / 5 / 13 - 23:52
ملحوظة المترجم: عثرت على هذه المقالة التي نشرت بتاريخ 21 سبتمبر 2009 على موقع حزب العمال الشيوعي الروسي وأنا أبحث عن سر نجاح الصين في تبوء المركز الأول اقتصاديا في عالم اليوم. ونظرا لأهميتها في تتبع أسباب وصول الصين إلى جبروتها الاقتصادي الحالي ونحن في العام 2024، أي بعد مضي 15 عاما على كتابتها، قررت أن أترجمها آملا أن تكون فيها فائدة خصوصا لفهم الآلية التي تمكنت بفضلها هذه الدولة العظيمة من تأمين زعامتها الاقتصادية وتحسين مستوى معيشة شعب يقارب عدد سكانه اليوم المليار و500 مليون نسمة. وهي تكشف أيضا أن السوفيات في ظل الاقتصاد الاشتراكي السوفياتي لم يكونوا، كما صورهم الغرب، شعبا يعيش في "فقر مدقع" لأن أجورهم إذا ما قيست بسعر صرف الدولار الأميركي في السوق السوداء أو حتى بسعره الرسمي آنذاك كانت متدنية، غير أن المسألة تتطلب مقارنة صحيحة بين المدخول والمصروف في الحياة اليومية للناس، بين الدخول الاسمية والدخول الفعلية التي تضم التقديمات المجانية الكثيرة في النظام الاشتراكي، ومقارنة القيم الشرائية للعملات في الداخل. وإن الأرقام الواردة في النص تطابق وقائع ذاك العام الذي كتبت فيه المقالة. وهذه المقالة المثيرة للاهتمام من وجهة نظر البيانات الاقتصادية المقدمة، تجعلنا نتذكر مرة أخرى القانون الذي اكتشفه فلاديمير لينين بشأن التنمية غير المتكافئة في ظل الرأسمالية وعواقبها. ففي العالم الرأسمالي، يتم تشكيل "مراكز قوى" جديدة باستمرار، تتجاوز القادة القدامى في المنافسة الاقتصادية. وإن تنافسهم على الأسواق يؤدي إلى تفاقم الوضع الدولي وفي مرحلة معينة يؤدي إلى صراع مكشوف.
تم في الصين اختراع "آلة إثراء سحرية" حقيقية. مصممةٍ ببساطة، مثل كل شيء عبقري. وجوهرها هو الوحدة النقدية لجمهورية الصين الشعبية - اليوان. تُترجم كلمة "يوان" من الصينية إلى "عملة مستديرة" (كما القرش أو الفلس عندنا). في البداية، كانت هذه "القطعة المستديرة" تتدحرج في اتجاه واحد، لنقل غرباً، حيث كانت بالمقارنة مع العملة العالمية - الدولار الأمريكي، تبدو صغيرة بل هزيلة جدًا ويتم تبادلها بحوالي خمسة عشر سنتًا. قليل جداً. لكن تعالوا لا نتسرع في الاستنتاج.
أجر العامل الصيني الأكثر مهارة، في أحسن الأحوال، لا يتجاوز 200 دولار شهريا. في أوروبا حوالي (2000) ألفي دولار، في الولايات المتحدة - 3 آلاف. وبما أن الأجور تشكل العنصر الرئيسي في تكلفة أي منتَج يتم طرحه في السوق، فمع مثل هذه العمالة الرخيصة بل المجانية تقريبًا، وفقًا للمعايير الغربية، كل ما يتم إنتاجه في الصين سيكون أرخص بكثير من ذلك المنتج في الغرب. وهذا يعني أن أي منتَج صيني، في ظروف المنافسة في السوق، سيهزم بالتأكيد أي منتَج أمريكي أو أوروبي، وبالتالي سيضمن ربحًا أكيداً لمصنّعه.
أجل، ما الشيء الذي لن يفعله صاحب وسائل الإنتاج ليحقق الربح؟ سوف يفعل، لعمري، أي شيء! ومنذ ما يقرب من ثلاثة عقود (الكلام هذا في عام 2009)، ظل رأس المال العالمي، المتعطش للربح، ينقل بشكل محموم مرافقه الإنتاجية من أمريكا وأوروبا إلى السهول المكتظة بالسكان في الصين، وهو يحظى بالتفهم الكامل من قبل قيادة الحزب الشيوعي الصيني. وها هي الآن هذه العملية باتت قريبة من الاكتمال. فقد هجر الاقتصاد الحقيقي بالكامل تقريبًا العالمين القديم والجديد (أوروبا وأميركا) إلى ضفاف نهر اليانغتسي والنهر الأصفر (خوان خه). ووفقا لخبراء الأمم المتحدة، يتم اليوم إنتاج سبع من بين كل عشر سلع تباع في العالم، في الصين. علاوة على ذلك، نحن لا نتحدث فقط عن الملابس والأحذية وألعاب الأطفال. وليس فقط عن الأجهزة المنزلية المعقدة - أجهزة التلفزيون والغسالات وأجهزة الكمبيوتر المنزلية. بل تنتج الصين أضعاف ما تنتجه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجتمعين من الأسمنت والصلب، بما في ذلك سبائك الفولاذ، والمحركات الكهربائية، ورافعات البناء، وآلات قطع المعادن التي يتم التحكم فيها عن طريق الكمبيوتر، وخطوط التجميع المستمرة. وحتى سيارات الركاب التي كان الغرب فخوراً بها دائماً (أنتجت الصين منها أكثر من أي دولة أخرى في العالم العام الماضي).
والآن أصبح من الصعب أن نقول ما الذي لا تنتجه الصين؟ فيجري بالفعل بناء ناقلات عملاقة لنقل النفط الفنزويلي (الذي يبيعه هوغو تشافيز). ويتم إتقان غزو الفضاء. فترسل الصين بانتظام أقمار الاتصالات من إنتاجها الخاص إلى مدار أرضي منخفض. حسنًا، ربما يكون إنتاج طائرات الركاب للرحلات الطويلة متخلفًا عنه في الغرب. لكن الصين باتت تصنع طائرات للمسافات المتوسطة. ومن حيث الحجم الإجمالي للنقل الجوي للركاب والبضائع، تجاوز "التنين الأحمر" الولايات المتحدة بكثير، ناهيك عن روسيا، التي كانت ذات يوم رائدًة في هذا المجال. وكون العديد من الشركات في جمهورية الصين الشعبية مملوكاً قانونًا لشركات غربية لا يغير في الأمر شيئًا. فليس العمال فقط في هذه الشركات صينيين، بل أيضًا كادر المتخصصين والمديرين، بما في ذلك الإدارة العليا. وفي السنوات العشر الماضية، أصبحت معظم هذه الشركات مملوكة بشكل مشترك من قبل كيانات قانونية أو أفراد صينيين وتخضع لسيطرة كاملة من قبل السلطات الصينية. وأولئك الذين عاشوا وعملوا في الصين يعرفون أن "لا مكان للغرباء هنا!".
"حسنا، وماذا في ذلك؟ - سوف يسأل المتشكك. - كل هذا صحيح، ولم يعد أشد المعجبين بالغرب ينكرون النمو الصناعي الهائل الذي حققته الصين. لكن كل هذه النجاحات تحققت بسبب الاستهلاك المنخفض للغاية من قبل الشعب الصيني. أين هو النمو في مستوى المعيشة هنا يا ترى؟ ستعرفون في الحال أين هو. لقد تدحرج اليوان "المستدير" الصغير إلى الغرب ودمر هناك، بفضل رخص سعره مقارنة بالدولار، جميع منافسي البضائع الصينية تقريبًا. وسحب معه على الفور من العالمين القديم والجديد إلى أراضي "الإمبراطورية السماوية" الآلاف والآلاف من المصانع والمعامل. واليوم نجحت هذه معاً في تحويل الصين إلى "ورشة عمل للعالم" جديدة. ولكن هنا، في أراضي الآباء والأجداد، تحول اليوان الذي كان يبلغ سعر صرفه خمسة عشر سنتا أمريكيا فقط فجأة إلى عملاق يساوي بقيمته الشرائية الدولار الأخضر. لأنه يمكن لأي شخص أن يشتري بمائة يوان في أراضي جمهورية الصين الشعبية نفس كمية البضائع الموجودة في الولايات المتحدة بمائة دولار. (وهي، كقاعدة عامة، بضائع مصنوعة في الصين). بعبارة أخرى، من حيث تعادل القوة الشرائية، اليوان الواحد يعادل أو حتى يتجاوز الدولار.
هذه القوة الشرائية الهائلة لليوان في جمهورية الصين الشعبية هي التي تسمح للعامل الصيني الماهر، الذي يحصل على مبلغ 1400 يوان، أي 200 دولار (بحسب سعر الصرف)، أن يعيش بنفس المستوى الذي يعيش به أمريكي يتلقى 1400 دولار في الولايات المتحدة، وهذا الراتب في الواقع ليس بالقليل جدًا بالنسبة لأمريكا نفسها. ويعترض خبراؤنا (الروس) في شؤون الصين، بعد أن قرأوا العديد من المقالات الأمريكية المترجمة، تلك التي كتبت قبل ربع قرن قائلين: «نعم، ولكن هذا هو الحال فقط في المدن الكبرى! . أما في القرية الصينية ففقر مدقع. عن أي إقبال على الاستهلاك يمكن التحدث؟”. لكن الواقع هو أنه في السنوات الأخيرة، بعد إلغاء ضريبة الأراضي، ارتفع مستوى معيشة الفلاحين الصينيين بشكل كبير. إذ يبلغ دخل عائلة الفلاحين العادية اليوم حوالي 500 يوان شهريًا، أي حوالي 70 دولارًا بسعر الصرف. يبدو هذا قليلا جدا. ولكن في الواقع، يمكنك به شراء نفس الكمية من البضائع، على سبيل المثال، في روسيا بمبلغ يعادل 350 دولارًا. ليس بالقليل إذن. ويعيش في الريف الصيني أكثر من 200 مليون أسرة. وجميعهم يشترون. جميعهم يخلق إقبالاً على الاستهلاك.
واليوم، في أبعد قرية صينية، أصبح كل منزل تقريباً مزوداً بإضاءة كهربائية، وجهاز تلفزيون، وغسالة، وهاتف محمول، وطبق لاستقبال الأقمار الصناعية، وينمو اقتناء السيارات بسرعة. لقد نسي الصينيون المجاعات منذ فترة طويلة، ولكن كل هذا بالنسبة للملايين من الناس في آسيا الحديثة، بما في ذلك، على سبيل المثال، في الهند الناجحة نسبيا، حلم بعيد المنال! في وجبة الغداء، أي عائلة فلاحية صينية تسمح لنفسها أن تتناول اللحم مثلا. بينما في روسيا، على سبيل المثال، لا تستطيع كل عائلة فلاحية إلى هذا سبيلا. لذلك، بالطبع، لا توجد أنهار اللبن والعسل في القرية الصينية، ولكن لا يوجد فقر هناك أيضًا. أو هو بالأحرى موجود، ولكن فقط في مقالات بعض «الاقتصاديين الرصينين».
سوف يسألك محاورك: "ولكن كيف أصبح ممكنا في الصين، يا ترى، هذا المستوى المنخفض لأسعار السلع ، مقارنة بأمريكا وأوروبا وروسيا؟". بداية، بفضل تعمد الدولة الحفاظ على الأسعار المحلية منخفضة لمصادر الطاقة: البنزين والمازوت والكهرباء. من الواضح أنها مدرجة في سعر أي منتج وتجعل إنتاجه رخيصًا، وبالتالي فإن اليوان الصيني قوي بشكل لا يصدق، مما يعني ازدياد قوته الشرائية. وتؤدي القوة الشرائية العالية لليوان إلى زيادة الطلب الاستهلاكي الهائل داخل الصين نفسها، وهو ما يؤدي إلى تشغيل الآلية العملاقة للاقتصاد الصيني. ومع بداية عام 2008، لم تتجاوز الصادرات إلى الولايات المتحدة 6% من الناتج المحلي الإجمالي الصيني. ويصدر ما يقرب من 6 في المائة أخرى إلى جميع بلدان العالم الأخرى، بما في ذلك أوروبا. أما بقية الناتج المحلي الإجمالي في الصين فقد تشكل نتيجة للطلب الداخلي، وليس الخارجي على الإطلاق.
في الأشهر الأولى للأزمة، توقع جميع الاقتصاديين الليبراليين والرصانة على وجوههم أن ينتهي الاقتصاد الصيني بمجرد انخفاض الطلب الاستهلاكي في الولايات المتحدة وأوروبا، لأنه يعيش فقط على الدخل من تصدير سلعه إلى دول "المليار الذهبي". فما الذي حدث بالتحديد؟ لم يكن هناك انهيار للاقتصاد الصيني. نعم، في نهاية العام الماضي (2008 أي عام الأزمة)- بداية هذا العام (2009)، بعد انخفاض الطلب في الغرب، اهتز الاقتصاد الصيني، ولكن ليس كثيرًا. وانخفض معدل النمو بشكل طفيف من 9 إلى 6 بالمائة. ولكن في الربع الثاني من عام 2009، استؤنف النمو القوي مجددا. والآن لا يشك أي من الاقتصاديين، حتى أولئك الذين يحبون الغرب، في أن يصل نمو الاقتصاد الصيني بحلول نهاية هذا العام، إلى 8 في المائة على الأقل، وهو حلم رائع اليوم بالنسبة لأي دولة غربية. علاوة على ذلك، فإن التحليل الموضوعي للعمليات التي تجري في العالم يظهر بشكل لا يقبل الجدل أن التنين الأحمر في المنافسة بين اقتصاديات الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية، لم يعد منذ فترة طويلة دولة لحاق بالركب.
في الواقع، من بين ما يقرب من 14 تريليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي (مقدار القيمة المعروضة في السوق للبيع)، أكثر من 5 تريليون دولار هي حجم تداول الأوراق المالية في بورصات نيويورك، وثمة حوالي 6 تريليون دولار هي عبارة عن تجارة التجزئة، أما في قطاع الخدمات، فإن ما يقرب من تريليون دولار "إيجار مفترض أو تقديري imputed rent"، أي ما يشبه الإيجار الذي يدفعه أصحاب الشقق والمنازل لأنفسهم. باختصار، كل ما سبق هو هواء فارغ. أما بالنسبة للاقتصاد الحقيقي، الذي ينتج السلع، فلا يزال هناك، في أحسن الأحوال، حوالي 2 تريليون دولار. ولكن هذا في أحسن الأحوال، وفي الواقع هو أقل من ذلك، حيث تستخدم إحصاءات الولايات المتحدة حوالي عشرين مما يسمى "معامِلات المتعة hedonic coefficients" التي تزيد من أرقام الإنتاج المبلغ عنها. وماذا عن الصين؟
يقدر إجمالي الناتج المحلي الإجمالي اليوم (عام 2009) بنحو 3 تريليون دولار. وكل هذا هو تقريبًا إنتاج حقيقي للسلع، نظرًا لأن الإحصاءات الصينية لا تشمل مجال مبيعات التجزئة والخدمات وتكلفة الأسهم والأوراق المالية الأخرى المباعة في البورصات، وخاصة الإيجار الوهمي. ولكن مع القوة الشرائية الحقيقية التي تجعل يوانًا واحدًا يساوي دولارًا واحدًا، فإن ثلاثة تريليونات يوان من الناتج المحلي الإجمالي الصيني تنتج ما لا يقل عن سبعة أضعاف السلع التي ينبغي حسابها بمعدل خمسة عشر سنتًا. أي أن 3 تريليون يجب ضربها بسبعة على الأقل. وهذا يقرب من 21 تريليون دولار. هذا هو مقدار ما ينتجه الاقتصاد الحقيقي للصين اليوم. ومن الواضح أن ما يتوقعه الاقتصاديون الرصينون من أن تغيير القائد الاقتصادي على هذا الكوكب لن يحدث في المستقبل القريب أو البعيد، قد حدث بالفعل. ومنذ وقت طويل. منذ عام 2000 تقريبا. كل ما في الأمر أن الغرب رفض بعناد ملاحظة ذلك قبل انهيار الاقتصاد العالمي. ولكن الآن، بعد أن كشفت الأزمة الكوكبية عن الحالة الحقيقية لكل الاقتصادات وحصتها الحقيقية في الإنتاج العالمي، بات يتعين علينا أن نلاحظ ما هو واضح للعيان وضوح عين الشمس.
إذن، سر «آلة الرخاء الصيني» يكمن في الفجوة الهائلة، التي تعمدت الدولة الحفاظ عليها، بين قيمة سعر صرف العملة الوطنية في الأسواق العالمية، والقوة الشرائية للعملة الوطنية داخل البلاد. ومن أجل الحفاظ على هذه الفجوة، لا يرغب الصينيون بعناد في جعل "قطعتهم المستديرة" قابلة للتحويل. لماذا؟ لأن هذه الفجوة المربحة ستختفي على الفور. وهكذا فإن الدولار، بقيمة سعر صرفه الوهمية، يجعل السلع الصينية قادرة على المنافسة بشكل فائق في الأسواق العالمية، وبالتالي يخدم في الواقع جمهورية الصين الشعبية وسكانها البالغ عددهم مليارا ونصف مليار نسمة.
هل كان يمكننا إنشاء مثل هذه الآلة السحرية لإثراء البلاد في اتحادنا الروسي؟ بالطبع كان يمكننا ذلك. ولكن هذا يتطلب شرطا واحدا لا غنى عنه. يجب على الطبقة الحاكمة أن تحب وطنها الأم. أن تحبه أكثر من الأموال الموجودة في حساباتها الأجنبية، ومن الفيلات القائمة على ضفاف بحيرة جنيف، ومن اليخوت التي يبلغ طولها 170 مترًا مع طائرتي هليكوبتر وغواصة، مثلما عند أحد أوليغارشيينا في لندن. بدون هذا الشرط التافه لن ينجح شيء.