حكايتي مع التوقيف: من حنة الى أخرى..


حسن أحراث
2024 / 5 / 11 - 04:52     

اعتُقلت يوم الاثنين 27 فبراير 1984 بمنزل الأسرة بحي ديور المساكين بمراكش إثر انتفاضة يناير الشعبية. وكنت حينذاك طالبا أستاذا بالسنة الثالثة بالمدرسة العليا للأساتذة (ENS)، شعبة الرياضيات. صدر في حقي ليلة 25 ماي من نفس السنة حكمٌ بخمسة عشر (15) سنة سجنا نافذا والتهمة "المؤامرة الغاية منها قلب النظام".
قضيت حوالي ثماني (08) سنوات مُوزّعة على دهاليز وسجون وكاشوات (CACHOTS) مراكش واسفي والدار البيضاء وكذلك مستشفيات هذه المدن (ابن زهر ومحمد الخامس وابن رشد). تخلّلت مدة اعتقالي عدة إضرابات عن الطعام، من بينها بالخصوص الإضراب اللامحدود الذي استشهد إبانه الرفيقان بوبكر الدريدي ومصطفى بلهواري سنة 1984 والإضراب اللامحدود الذي استمر من 23 يونيو 1985 حتى 16 غشت 1991.
غادرت السجن (مستشفى ابن رشد) في 16 غشت 1991، والتحقت مرغما بجحيم العطالة والبؤس. فبعد سنوات التعذيب والحرمان من أبسط الحقوق وشروط الحياة الإنسانية وبعد تشريد العائلة، عانيت مرارة التوقيف عن متابعة الدراسة والعمل وعشت فترات الإحباط ومحاولات القتل البطيء والسريع..
في صيف سنة 1992، أي بعد فترة "انتشاء" عابرة، وبمساعدة سيدة فرنسية (Sœur Française) صديقة للأستاذة/الطبيبة حكيمة حميش مشكورتين (إنها حكاية أخرى قد أعود اليها)، استقبلتني سيدة بلجيكية (Conseillère Pédagogique) بمدرسة ابتدائية بمراكش (أبناؤنا) لصاحبها المقاوم المعروف عبد السلام الجبلي.
قضيت بالمدرسة المذكورة موسما دراسيا ونصف الموسم مُدرّسا للغة الفرنسية، مستوى السادس. كانت بالنسبة لي تجربة غنية ومُفعمة بالحب من طرف زملائي الأستاذات والأساتذة والتلاميذ أيضا. ولا أخفي أني عجزت عن مواصلة العمل بسبب الضغط وظروف العمل الصعبة رغم كل التقدير الذي كنت أحظى به، خاصة من طرف المستشارة التربوية البلجيكية ومدير المؤسسة وصاحبها الجبلي وابنه الفقيد نزار.
مرت حوالي سنتان، ذقت خلالهما مرارة الحرية التي لا ولم تكن تحمل غير الاسم. الجميل حينذاك هو دعم الجميع، الأسرة والأصدقاء وبعض الرفاق (البعض فقط). والأجمل هو التزام رفيقتي وتضحيتها الى جانبي داخل السجن وخارجه. لقد ارتبطت بي رسميا والأمواج العاتية تتقاذفني سنة 1993.
كان التوقيف بعد الاعتقال محنة حقيقية. لكن الصمود يهزم المحن وكل أشكال المعاناة. لا أتحدث من فراغ أو من الأبراج العالية ولا أسوق الوهم. إنه الواقع والتجربة، إنها دروس نضالية تفقأ عيون الانتهازيين وتفضح التجار باسم النضال، سياسيا ونقابيا وجمعويا..
وماذا بعد؟
قدمت استقالتي وغادرت مؤسسة "أبناؤنا" ودموع الزميلات والزملاء لم تغب عن عينيّ حتى الآن. وبفضل الفقيدة والدتي التي قامت ببيع أرضٍ في ملكيتها من أجلي وبدعم رمزي لرفيقين عزيزين عبد الغني القباج وعبد الحفيظ الحبابي (معتقلين سياسيين سابقين بالسجن المركزي بالقنيطرة) وجنود خفاء آخرين، توليت تسيير مكتبة بحي الداوديات بمراكش (مكتبة عزيز).
كانت تجربة أخرى قاسية، خاصة أني بعيد عن المجال ولا أملك "الذكاء"/الحس التجاري المطلوب (Esprit Mercantile)، الأمس واليوم..
راسلت الجهات المعنية وقمت بعدة زيارات لمصالحها بالرباط. ناضلت الى جانب باقي الموقوفين ومن بينهم الرفيق محمد فخر الدين. وبعد ذلك واصلت المعركة الى جانب الرفيق العزيز الفقيد لحسن مبروم..
يوما، وبحضور الرفيق عبد الإله بنعبد السلام، قال لي أحد المسؤولين بالموارد البشرية بالرباط المكلف بملف الموقوفين، "لن تسوى وضعيتك، عكس وضعية فلان (حالة موقوف مدعوم سياسيا). ابحث عن جهة لدعمك".
خرجت "مكسور الفؤاد" والألم يعتصر قلبي وباقي أعضائي الحيوية وغير الحيوية. فأحسست أن الأمل في العودة الى العمل بوزارة التعليم قد تبخر نهائيا. وكان الألم يكبر عندما كنت أستحضر الأفق المسدود لمشروعي التجاري، أي المكتبة التي ساهم العديد من "الرفاق" في إغراقها..
للإشارة، فمن يكرر السنة الثالثة بالمدرسة العليا للأساتذة لمرتين كان يعين بالسلك الأول (التعليم الثانوي الإعدادي حاليا). وحصل أن تم السماح للأساتذة الذين كرروا السنة الثانية مرتين بالالتحاق بالسنة الثانية بالمراكز التربوية الجهوية (CPR). بالنسبة لي داخل السجن، تم السماح لي بمتابعة الدراسة بالسنة الثالثة بكلية العلوم، شعبة الرياضياتّ؛ إلا أن ظروف الإضرابات عن الطعام والتنقيل من سجن الى آخر لم تسمح لي باجتياز الامتحانات..
رغم ذلك، كان إصراري قويا لمواصلة معركتي العادلة. لم أيأس، ولم أرفع الراية البيضاء. وأشكر بالمناسبة كل من ساهم في تعزيز صمودي ومشاركتي معركة التحدي..
وأخيرا، انتصرت..
كنتُ في أحد مساءات دجنبر سنة 1995 بمكتبة عزيز، فإذا بالهاتف يرن..
آلو؟
الرفيق حسن؟
نعم..
معك عبد الإله بنعبد السلام، هنيئا..
لقد عُينتَ أستاذا للرياضيات بإعدادية جمال الدين الأفغاني بأغمات..
اختلط علي الأمر، ولست أذكر هل شكرت الرفيق عبد الإله أم لا. أشكره الآن بحرارة..
مباشرة، أغلقت باب المكتبة الصغيرة/المتواضعة؛ وامتطيت "سرج" دراجتي الهوائية وقصدت مستعجلات مستشفى ابن زهر (المامونية) حيث كانت تشتغل رفيقتي نعيمة لأزُفّ لها خبر الانتصار. وبدون شك قطعت المسافة قبل أن "يرتدّ الي طرفي"..
انتهت محنة، وانطلقت فصول محنة أخرى..
اشتغلت بأغمات، حوالي ثلاثين (30) كلم عن مدينة مراكش، لمدة حوالي ثلاث سنوات دون راتب..
استمر نضالي بمفردي والى جانب باقي الموقوفين..
صارت قطارات مراكش-الرباط، والرباط-مراكش تعرفني ورفيقي الغالي لحسن مبروم..
كم تقاسمنا الألم والفرح، خاصة أننا معا من حي ديور المساكين سابقا..
وأسجل بالمناسبة أن أستاذات وأساتذة إعدادية جمال الدين الأفغاني وإدارتها وحارسها بأغمات كانوا خير سند لي. لهم جميعا كل شكري وتقديري..
سويت وضعيتي سنة 1999 بدون شرط أو قيد، أي بدون مجالس/محاكمات..
التحقت سنة 2000 بمركز التوجيه والتخطيط التربوي بالرباط، وعُيّنت سنة 2002 بمدينة شفشاون مستشارا في التوجيه التربوي، وانتقلت سنة 2008 الى مدينة تمارة، حيث تقاعدت سنة 2021 مفتشا في التوجيه التربوي. ضاعت فرصٌ، وانتزعْتُ فرصا أخرى من موقع قوة ومثابرة وبدون محاباة أو ركوع أو خضوع وعلى رؤوس الأشهاد..
إنها حياة المناضل، كفاحٌ مستمرّ...
كانت تهمتي "المؤامرة الغاية منها قلب النظام"، وما هي يا ترى "تهمة" الموقوفين/ات الآن؟
لم أتلق توبيخا ولا إنذارا ولا...
ليس منحة من النظام، بل الحق يُنتزع ولا يُعطى..
إنها "معلومة"/قرصة في أُذن من وقعوا على قرار توبيخ الموقوفين/ات بسبب ممارسة حقهم المشروع في الإضراب كباقي زملائهم..
قد تشربون يوما من نفس الكأس..
النظام القائم يُجرِّم النضال (الإضراب)، وأنتم تزكون إجرامه..
للحديث بقية لا ريب...