الدين السياسي تاريخ مخزي للشعوب


طلعت خيري
2024 / 5 / 10 - 10:21     

مملكة سبا حضارة تاريخية عريقة يعود تاريخها الى 1500 ق.م ، أقيمة الى جانب حضارات أخرى في المنطقة العربية ، كحضارة وادي الرافدين، ومملكة تدمر، كانت المملكة تتمنع بنظام سياسي ديمقراطي برلماني ، بالإضافة الى القدرات العسكرية الهائلة التي بنتها الملكة لردع الأخطار عن البلاد ، لقد كان في نبذ ميثولوجيا عبادة الشمس والإيمان بالله واليوم الأخر، دور كبير في توسيع قدرات المملكة الصناعية والزراعية والتجارية ، ففي مجال الزراعة تم انجاز سد مأرب ، لزراعة الأشجار المثمرة على جانبيه ، لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ، كما ان اكتشاف الحديد والنحاس على يد داوود وسليمان احدث طفرة نوعية في مجال الصناعة ، فاستبدلت الصناعة الفخارية بالصناعة المعدنية ، ذلك مما ساهم في تطوير القدرات العسكرية في مجال التسليح والدروع ، فتحولت المملكة الى مركزا صناعيا للمستلزمات العسكرية والبشرية والحيوانية ، كالجواب والقدور والحراب وللوازم المنزلية ، وبعد التطور الحضاري الواسع على كافة الأصعدة ، أصبحت المملكة جاذبة للاستيطان ، فتشكل على الحور الإقليمي الممتد الى الحضارات الأخرى ، قرى كثيرة ارتبط نشاطها الاقتصادي والتجاري بالمملكة ، وبفضل الإيمان بالله واليوم الأخر ، ساد الأمن التجاري بين الإقليم والمركز والحضارات الأخرى ، فكانت القوافل التجارية تسير ليالي وأيام أمنة

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ

بعد موت سليمان انفصلت مملكة سبا عقائديا عن قرى المحور الإقليمي ، لتنفرد بعقيدة جديدة مخالفة لعقيدة الإيمان بالله واليوم الأخر ، صنعها الدين السياسي تستند على عقيدة ظنية ادعت علمية عالم الجن الغيبي ، مستمدة أفكارها من ما سخره الله لسليمان من جن، فأهمل الدين السياسي المظاهر الحضارية والصناعية والاقتصادية والزراعية ، متوجها الى الخرافات والأساطير والنصب والاحتيال باسم عالم الجن ، فمن المشاريع التي أهملت سد مأرب ، حيث توقفت إدامته من الرواسب الطينية التي تنقها مياه الإمطار من الأودية والمنحدرات ، كما أهملت فتحة تصريف الماء الزائد ، ولما اعرضوا عن الإيمان بالله واليوم الأخر، سلط الله عليهم السيل العرم ، فدمر السد بالكامل ، ذلك أنهى النشاط الزراعي ، فتحولت الأشجار المثمرة والبساتين الى أشجار صحراوية كالأثل والسدر

فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ{16}

رغم توقف آلية العذاب الدنيوي بالكوارث الطبيعية ، إلا ان خيارات العذاب الأدنى، مفتوحة للإطاحة بمصالح الدين السياسي ، الاقتصادية والسياسية والأمنية ، مملكة سبا أنموذج على تدمير الدين السياسي ، لأعظم حضارة في التاريخ

ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ{17}

حافظت قرى المحور الإقليمي على الإيمان بالله واليوم الأخر، فلم تتأثر عقائديا بمركز المملكة السبئية ، وبعد تدمير السد ، نزح سكانها الى القرى الآمنة ، ففي النزوح عبرة وفرصة لهم للعدول عن عبادة الجن والإيمان بالله واليوم الأخر ، من المميزات التي تفضل الله بها على القرى ، انه قسمها الى قسمين ، قرى بارك الله فيها ، أي متكاملة اقتصاديا وزراعيا وتجاريا وعمرانيا ، وقرى ظاهرة جديدة النشأة مستقرة استيطانيا لكنها غير متكاملة اقتصاديا ، وبهذا التفاوت الاقتصادي والعمراني ، شكل نشاطا تجاريا بينها ، كما ان أيمانهم بالله واليوم الأخر وفر لهم أمنا إقليميا ، فلا مؤوى لعصابات السلب والنهب داخل القرى تعترض الطريق التجاري ، فالقوافل التجارية كانت تسير ضمن قدر مؤمن، كتبه الله ليكون سببا في انتعاش اقتصاد القرى ، وقدرنا فيها السير ، سيروا فيها ليالي وأياما امنين

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ{18}

توزع النازحون من مملكة سبأ على القرى التي بارك الله فيها ، وعلى القرى الظاهرة ، فلم يعتبروا مما حل بهم من دمار شامل ، بل أردوا الإطاحة بسكانها ، من خلال التنظير السياسي لعبادة الجن ، بعد طمس الإيمان بالله واليوم الأخر، ولما فشلت محاولاتهم قالوا ، فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا ، أي اجعل القرى بعيدة بعضها عن بعض ، إبعاد هذا القول ، هو للإطاحة بالنشاط الاقتصادي والتجاري للقرى ، لينزحوا منها ، وظلموا أنفسهم مرة أخرى ، فمزقوا وشردوا مرة أخرى بعد طردهم من جميع القرى ، فجعلناهم أحاديث ، اي أصبحوا مثلا يضرب على شتاتهم ، ومزقناهم كل ممزق ، ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور

فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ{19}

المحور الفكري للعقيدة الظنية ، يتمحور حول علمية عالم الجن الغيبي، للتشكيك بالبعث والنشور الأخروي ، لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ، فإبليس الأول شك بالبعث والنشور الأخروي ، لذا اعرض عن الإيمان به ، فاختار الدنيا على الآخرة ، وبنفس الطريقة ، إبليس منظر الدين السياسي للمملكة السبئية ، شكك بالبعث والنشور الأخروي من خلال ادعائه الكاذب بعلمية عالم الجن الغيبي ، على استناد ان جن سليمان اخبره بان لا وجود للآخرة ، فجاء بفكر ظني سياسي مطابق لما يظنون به ، ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه ، إلا فريق من المؤمنين ، وما كان له عليهم من سلطان ، ليس عنده دليل فكرية أو مادية يأمرهم بذلك ، غير انه جاء بفكر ديني سياسي ظني يتلاءم مع أهوائهم ورغباتهم الدنيوية ، المفرغة من الإيمان بالله واليوم الأخر ، وما كان له عليهم من سلطان ، إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو في شك منها ، وربك على كل شيء حفيظ

وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ{20} وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ{21}