الريح والجن وسليمان بين الدين السياسي والتنزيل
طلعت خيري
2024 / 5 / 6 - 09:36
لم يبعث الله في قوم من نبي ولا رسول إلا منهم ، ولم يستعين بأحد من غيرهم ، لإلمامهم بثقافة وطباع وعقائد مجتمعاتهم ، فعندما يأمر الله احدهم بالدعوة ، سيتوجه بكل سهولة الى الأفكار والأعمال المراد تصحيحها ، لهذا السبب جعل الله لكل نبي أو رسول خصوصية تختلف عن غيره ، وفقا للثقافة والفكر والعمل ، داوود وسليمان من أنبياء ما قبل التاريخ ، عاشا في مجتمع يعتمد على الصناعة الحرفية كنشاط معيشي ، ولقد فضل الله داوود بثلاث خصوصيات ، ولقد أتينا داوود منا فضلا ، والفضل هو فضل الخصوصية التي لم يعطيها الله لأحد من قومه ، ولا لأحد من البشر ، ولقد أتينا داوود منا فضلا يا جبال أوبي معه ، أوبي ارجعي الى الله ، والطير ، وألنا له الحديد ، طوعنا له الحديد بعد تحويله من خام الى مادة قابلة لصناعة السلع ، فعلم الله داوود حرفة صناعية يرتزق منها ، ان اعمل سابغات ، سابغات اللوازم المكملة للحياة البشرية ، والدروع العسكرية والأسلحة ، وقدر في السرد ، ضع القياسات الصناعية للسلع ، حسب الحجم الذي يحتاجه كل فرد أو أسرة ، واعملوا صالحا ، وأتقنوا الصنعة بعيدا عن الغش الصناعي ، إني بما تعملون بصير
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ{10} أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ{11}
طور سليمان صناعة المعادن ، فلم تقتصر على الدروع والأسلحة العسكرية التي كان يصنعها والده داوود، إنما شملت الأواني ، والتحف المنزلية ، وجواب أعلاف الحيوانات، وخزانات الماء ، وقدور الطهي ، ولكي يوسع سليمان صناعة المعادن ، احتاج الى أفران للصهر، وأيدي عاملة ، ومعدن جديد غير الحديد يتلاءم مع تطوير الإنتاج ، فسخر الله له النحاس لصناعة بعض السلع الثقيلة ، ولطلي الصناعات الحديدية ، لمنع الصدى والتآكل والتأثيرات البيئية ، أفران الصهر تحتاج الى تيار هواء عالي ، ولسليمان الريح ،الرياح تطلق على المعدل الطبيعي لنشاطها ، أما الريح فتطلق على الرياح عالية التي تفوق المعدلات الطبيعية ، ومن المعروف ان المناطق المفتوحة لها خطوط رياح تنشط في مناطق ، وتخمل في أخرى ، سخر الله لسليمان خط ريح عالي لزيادة الأوكسجين ، لرفع درجة حرارة أفران الصهر لان النحاس يحتاج الى درجة حرارة أعلى من الحديد ، فعبر الله عن سرعة تدفق الهواء ، بالريح غدوها شهر ورواحها شهر، فما تقطعه الريح في شهر واحد ذهابا وإيابا تقطعه في يوم واحد ، وأرسلنا له عين القطر، العين هي فتحة في كورة الصهر يخرج منها النحاس المذاب، القطر النحاس ، سخر الله لسليمان الجن كايدي عاملة ، ومن الجن من يعمل بين يديه ، بإذن ربهم ، بأذن ربهم ، تشير الى ان الجن مسخر بأمر الله ، وليس بأمر سليمان ، ومن يزغ منهم عن أمرنا ، يخالف أمر التسخير ، نذقه من عذاب السعير
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ{12}
سخر الله لسليمان الجن كايدي عاملة طوعية بأمره ، يصنعون له السلع المختلفة ، قسم سليمان صناعة المعادن الى قسمين ، صناعات ثقيلة وصناعات خفيفة ، الخفيفة ويعملون له ما يشاء من محاريب مفردها محراب نوع من الأسلحة كالحراب ، وتماثيل ليس تماثيل للأوثان، أنما تحف منزلية رمزية معبرة ، أما الثقيلة ، الجفان أحواض كبيرة كالخزانات ، والجواب مفردها جابية تستخدم للعلف الحيواني والماء ، وقدور كبيرة للطبخ ، راسيات ثابتة توضع في مكان واحد ، اعملوا آل داوود شكرا ، الشكر لله الذي علمكم صناعة المعادن ، وقليل من عبادي الشكور
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ{13}
كانت إحدى طوائف الدين السياسي في صدر الإسلام ، تؤمن بعلمية عالم الجن الغيبي، وتأثيره على الحياة البشرية ، مستنبطة عقيدتها من أقوال شياطين الدين السياسي ، الذين حرفوا ما سخره الله لسليمان من جن ، لصالحهم سياسيا ، واتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ، يحاول منظر غيبية عالم الجن إثبات وجوده فكريا وليس ماديا ، فأكثر الراويات التي تدعي وجود الجن تشير الى أماكن يعجز الإنسان الوصول إليها ، كالسماوات وباطن الأرض ، وأعماق البحار والجبال الوعرة ، والمناطق المهجورة والصحاري ، عبر روايات بشرية ميثولوجية مساندة للعقيدة الظنية ، عول الدين السياسي على العلمية الغيبية للجن ، الكثير من الأمور التي لم يحققها الإنسان في حياته ، فالمعتقد ألغى علمية الله ، كعالم للغيب والشهادة ، ولكي يصحح الله العقيدة الظنية قال ، فلما قضينا عليه الموت ، المقصود سليمان فعبارة الموت ، ألغت إلوهية سليمان بموته ، كما ألغت العلمية الغيبية للجن ، كان سليمان يجلس على كرسي عرشه فيضع منسأة بين يديه يسند عليها رأسه ، ومن ذلك الوضع يأمر الجن بالعمل ، فاعتادوا عليه ، ولما مات على كرسي عرشه استمر الجن بالعمل على اعتقاد لازال حيا ، فبقى سليمان ميتا على ذلك الوضع ، حتى سخر الله حشرة الأرضة أكلت منسأته ، فسقط من على كرسيه ، فلما خر تبينت ان الجن لو كانوا يعلمون الغيب ، ما لبثوا في العذاب المهين ، وبهذه القصة صحح الله العقيدة الظنية لاغيا إلوهية سليمان ، وعلمية عالم الجن الغيبي ، وتأثيره على الحياة البشرية
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ{14}