العذاب الأدنى
طلعت خيري
2024 / 4 / 28 - 00:16
العذاب الأدنى عذاب دنيوي اهلك الأمم السابقة ، بعد ان قدم لها الرسل ، ما لديهم من أدلة مادية ، تؤكد على صدق رسالتهم في الدعوة الى الله ، مسلطا عليها أنواع مختلفة من الكوارث الطبيعية ، كالغرق والرياح القطبية والوباء والانهيار الاقتصادي والبراكين ، ومع تقدم المجتمعات البشرية وظهور الكتابة في أقدم الحضارات أنهى الله آلية التعامل بالدليل المادي في دعوة الأمم اللاحقة ،لأنها غير مجدية للإيمان من ناحية الدليل التاريخي ، لأن من المؤمنين الناجين من الكوارث الطبيعية ، تشكلت أمم أخرى كفرت بالله ، غير الله إستراتيجية الرسل ثم اسند الدعوات بالكتب ، كما غير آلية العذاب الأدنى ، كان حكم فرعون فاتحة التغير التاريخي الجديد حيث أنهى الله قدرته العسكرية الساندة لأحكامه قوانينه وأوامره الإدارية ، أما الآلية التي انتصر بها عيسى ابن مريم ، غير الله موقعه الجغرافي ، فبعد محاولة اغتياله على يد معارضيه ، انتقل هو أمه من الصحراء الى الأرض التي بارك الله فيها ، الى مجتمع أكثر انفتاحا حيث لاقت دعوته استجابة واسعة ، وبنفس الطريقة انتصر محمد بعد ان غير الله موقعه الجغرافي ، فانتقل من مكة الى المدينة ، رافقه استعداد عسكري وإبرام الاتفاقيات الأمنية مع أهل الكتاب والمشركين العرب من خارج مكة ، ولكن التغيرات العسكرية والأمنية المفاجئة قلبت موازين العهود والاتفاقيات الى خسائر عسكرية ، العذاب الأدنى ، لا يأتي بشكل مفاجئ ، إنما تسبقه بعض المؤشرات ، كالانهيار الاقتصادي أو النقص في الأمن الغذائي ، أو التهديد الأمني ، وبعض العوامل المناخية المؤثرة على النشاط الإقليمي لمكة ومن حولها ، حتى انتهت عسكريا في سنة ثمانية للهجرة ، هذا هو مفهوم العذاب الأدنى ، ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ، العذاب الأخروي ، لعلهم يرجعون
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{21}
لا تقتصر آيات الله على التي تدعو الى عبادته أو الإيمان بلقائه الأخروي ، إنما كل ما جاء به القران ، من تفاصيل تاريخية وعقائدية منذ بداية الخليقة الى نهاية رسالة محمد ، وتشمل الأمثال التاريخية ، والأنشطة الإيمانية والعملية ، والمسخرات المادية ، والتأثيرات المناجية ، والاختلاف بين الظواهر الطبيعية للمسخرات ، والاعتقادات التاريخية والتراثية ، وسيكولوجية الانقلاب العقائدي تحت تأثير العوارض ، ومصير المكذبين من الأمم السابقة ، وازدواجية المعاير العقلية بين صنمية المادة ، والمادة المتجددة ، وآيات كثيرة أخرى ، فقال ، ومن اظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم اعرض عنها ، أنا من المجرمين منتقمون
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ{22}
قلنا في مطلع سورة السجدة ، ما بعد سورة السجدة ، لن تشير السور الى الآيات ولا الى التنزيل ، إنما الى كتاب ، تنزيل الكتاب ، بمعنى اخذ القران منزلة نهائية ككتاب ، مشابهة لكتابي التوراة والإنجيل ، بما ان القران اخذ منزلة كتاب ، دخل على خط الحوار الميثولوجي المكي ، الدين السياسي على استناد هم أصحاب كتاب موسى ، ونظرا لارتباط المصالح السياسية والاقتصادية بين الميثولوجيا المكية ، والدين السياسي ، توحدت الآراء حول إنكار البعث والنشور الأخروي ، بمعنى لا صحة للقاء الله الأخروي ، أدى الاصطفاف السياسي الى زعزعت إيمان محمد بلقاء الله ، يا محمد لقد امن موسى من قبل بلقاء الله وبكتابه ، ولقد أتينا موسى الكتاب ، كما أتيناك الكتاب ، فلا تكن في مرية من لقائه ، والمرية التذبذب بين مصدق ومكذب ، وجعلناه هدى لبني إسرائيل
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ{23}
وصل الدين السياسي الى القرن السادس الميلادي ، وهو يحمل خلافات سياسية وعقائدية على التراث الديني ، ما بين مؤمنين حقيقيين ، وبين مؤمنين بالدين السياسي ، ولكي يطلع الله الطائفة السياسية على طبيعة إيمان إسلافهم ، قال ، وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا ، وكانوا بآياتنا يوقنون ، هكذا كان إيمان المؤمنين الأوائل والمعاصرين للدعوة القرآنية ، أما رد الله على الطائفة السياسية التراثية المعارضة لتوجهات المؤمنين الحقيقيين ، ان ربك يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ{24} إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ{25}
في دعوة جديدة ، طرح التنزيل على الطائفة السياسية مصير الأمم السابقة ، لاستلهام العبرة قبل ان يحل بهم العذاب الأدنى ، أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون ، يمشون في مساكنهم ، ان في ذلك لآيات أفلا يسمعون ، وفي طرح أخر دعاهم الى الانتباه على التغيرات الموسمية التي تطرأ على الأرض ، كدليل مادي على عظمة الله في تغير شكل الأرض ، فقال أولم يروا أنا نسوق الماء الى الأرض الجرز، وهنا الخاصية الفيزيائية للماء التي تنساب مع الانحدارات ، باتجاه الأرض المنبسطة ، فيستغله الإنسان لزراعة الحبوب ، الأرض الجرز المحروثة بعد حصادها ، فنخرج به زرعا تأكل منه ، أنعامكم وأنفسكم أفلا يبصرون
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ{26} أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ{27}
منذ بداية الدعوة وعد الله المؤمنين بالله واليوم الأخر ، بفتح عظيم ، ينهي به معاناتهم واضطهادهم ، ولكن ما هو شكل الفتح ، هل سينهي الله المشركين بعذاب أدنى كالأمم السابقة ، أم لديه آلية أخرى ؟ لا احد يعلم ، عندما طرح التنزيل على الطائفة السياسية مصير الأمم السابقة ، والأرض الجرز ، استشعروا بالخطر فبادوا الى الاستفسار ، لا عن الإيمان بالله واليوم الأخر، إنما عن مصير المصالح السياسية والاقتصادية المرتبطة بتجارة الأوثان ، وما هو نمط الوضع الاقتصادي الجديد ما بعد الفتح ، فالطائفة الرأسمالية السياسية لا تريد ان تتخلى عن تجارة الملائكة بنات الله ، حتى تتأكد متى الفتح ، قالوا ، ويقولون متى هذا الفتح ان كنتم صادقين ، بمعنى البحث عن وقت حقيقي فعلي للفتح لإنهاء نشاطهم الاقتصادي مع الأوثان ، ثم بعد ذلك يفكرون بالإيمان بالله واليوم الأخر ، قل يا محمد يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ، ولا هم ينظرون ، النظر في أمرهم الى وقت أخر
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{28} قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ{29}
غلقت الطائفة السياسية أفق الدعوة بشكل كلي ، ووصل الحوار معها الى طريق مسدود ، اعرض عنهم يا محمد ، وانتظر، انتظر الفتح ، أنهم منتظرون ، منتظرون الفتح أيضا ، كان فتح مكة في سنة ثمانية للهجرة ، نهاية الظلم والاضطهاد للمؤمنين ، ونهاية الرأسمالية الميثولوجية المكية ، وحليفها الدين السياسي ، فالعذاب الأدنى الجديد ، هو انهيار اقتصادي وسلطوي وعقائدي وجغرافي ومجتمعي شامل
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ{30}