الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
المناضل-ة
2024 / 4 / 19 - 10:53
باتت الحركة النقابية المغربية تدور، منذ سنوات، في حلقة مفرغة. حلقة من الضعف والهوان. يمر العام بتضييع طاقة النضال في مناوشات مطلبية في حالة من التبعثر، والانطواء المهني والفئوي بالغ الضيق، في أحسن الأحوال؛ وفي استجداء «الحوار» ضمن سياسة أضاليل «الشراكة الاجتماعية». وهذا ما يفسر الوتيرة الجهنمية لسير المخططات العدوانية للبرجوازية ودولتها، ومن ثمة استمرار تردي وضع الشغيلة الاجتماعي.
على هذا الإيقاع تجرى الأمور اليوم في الساحة النقابية، وها هو العام يمضي ونحن على مشارف فاتح مايو نعاين حركتنا النقابية بلا خطة نضالية، تجر أذيال الخيبة، وقياداتها تجعل ما يسمى «الحوار الاجتماعي» محور الحياة النقابية، غاية الغايات.
ضعفنا له أسباب في واقع ما تعرضت له طبقتنا، ضحية لارتفاع نسبة البطالة وتعميم هشاشة الشغل، وقتل أجنة التنظيم بالقمع، وتخريب الوعي الطبقي بالأدوات الإيديولوجية البرجوازية التي تلقى دعما من قيادات المنظمات العمالية ذاتها. وإلى جانب عوامل الضعف هاته، ثمة عامل الخط السائد في الحركة النقابية، خط التعاون الطبقي مع البرجوازية ودولتها. هذا الخط الذي جعل «الحوار الاجتماعي» بديلا عن النضال، وأحله عوضا عن مبرر وجود النقابة، محولا إياها إلى ملحق بأجهزة الدولة، حيث تنهض البيروقراطيات النقابية، بدور تسهيل تمرير سياسات برجوازية.
لم يبق دور النقابة كفاحا من أجل تحسين القدرة الشرائية، وتجويد ظروف العمل، ومن أجل الظفر بالحريات، وبلوغ مجتمع العدالة الاجتماعية. جرى عبر عقود مسخ دور النقابة، لتصيح تأطيرا [بمعنى تحكما وضبطا] لقسم من الشغيلة، قسمهم الواعي بضرورة انتزاع الحقوق، كي لا يتطور كفاحه صوب وجهة تهدد نظام الاستغلال. وذلك بآلية «الحوار الاجتماعي» التي اندمجت فيها بالكامل النخب المتحكمة في النقابات.
خلق العمال النقابات لتوحيد قوتهم بوجه رأس المال، الذي جعل قوة العمل سلعة مسترخصة. وخلقت الدولة، بما هي ممثل جماعي للرأسماليين، آلية «الحوار الاجتماعي» لإبطال مفعول النقابة. فالحوار الاجتماعي، كما يصرح مهندسوه أنفسهم، وسيلة لتحقيق «الاستقرار والسلم الاجتماعي». استقرار ماذا؟ استقرار نظام الاستغلال والقهر، النظام الذي حول حياة ملايين الكادحين إلى جحيم يومي. وما السلم الاجتماعي؟ إنها الحرب الدائمة التي يخوضها البرجوازيون بدولتهم على الشغيلة وعامة المقهورين. حرب من أجل الأرباح، تبدأ بفرط الاستغلال في أسوء الظروف، وبالغلاء، وبخصخصة الخدمات العامة، وباستئصال أجنة التنظيم العمالي والشعبي، ولا تنتهي.
بدأت آلية «الحوار الاجتماعي» تتوطد منذ أن استشعر الحسن الثاني خطر الحركة العمالية في سياق انضافت فيه حركات نضال من شأن تضافرها مع النقابة أن تهدد استقرار نظامه. كان ذلك لما اشتد عود حركة المعطلين، وبدأ العالم القروي المهمل تململه نحو نهوض شهدناه منذئذ ممتدا حتى حراك الريف. فكان أن أحدث الملك مجلسا استشاريا خاصا بـ «الحوار الاجتماعي» دام زهاء ست سنوات. ومنذئذ لم تنقطع أشكال «الحوار الاجتماعي» بدمج القيادات النقابية في عدد من المجالس والمؤسسات وصولا إلى ما جاء في اتفاق 30 أبريل 2022 بشأن «مأسسة الحوار الاجتماعي»، لتزكية السياسية المعادية للطبقة العاملة وعامة الشعب المقهور.
وقد لقي النظام منذ البداية استجابة من المعارضة البرجوازية، ممثلة أساسا بالحزب المهيمن عبر نقابته على قسم من الشغيلة المنظمين (ك.د.ش)، ومن البيروقراطية التاريخية (إ.م.ش) التي حولت النقابة الأم منذ عقود الى أداة لإفساد وعي الشغيلة وكبح نضالاتهم «بسياسة الخبز». وقد أوجز الملك القصد والتجاوب معه بقول:
«وما إنشاؤنا «لمجلس استشاري» بجانبنا لمتابعة الحوار الاجتماعي إلا إبراز للأولوية التي نوليها للتوافق والتآزر بين قوى الإنتاج من رأسمال وشغيلة. وفي هذا الصدد، لا يفوتنا أن ننوه بما يتحلى به من منظمة رجال الأعمال، والمنظمات العمالية من روح المسؤولية في سعيها لإيجاد الحلول التوفيقية للمشاكل التي تنشأ بينها» (خطاب 3 مارس 1996)
سيكون لتلاقي الإرادة الملكية تلك مع سياسة قيادات النقابات، لاسيما مع تهيئ الاتحاد الاشتراكي لدخول حكومة الواجهة، أثر مدمر للحركة النقابية الضعيفة أصلا، ضعفا ليس كميا وحسب بل وهذا أخطر، ضعف سياسي، يجد تعبيرا عنه في وزن اليسار العمالي الثوري نقابيا.
فكان أن ترافق تصعيد الهجوم النيوليبرالي مع تطوير «الحوار الاجتماعي»، برعاية من البنك العالمي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوربي، وبتدريب مباشر من هيئات فكرية امبريالية من قبيل مؤسسة فردريك ايبرت التي وضعت برنامجا، منذ 1996 بتعاون مع منظمة أرباب العمل والمركزيات النقابية الرئيسة الثلاث، «لمرافقة الشركاء الاجتماعيين المغاربة في جهودهم لترسيخ ثقافة الحوار «.
فكان انجرار القيادات في مسلسل «الحوار الاجتماعي»، لتمرير خطط مدمرة لمكاسب تاريخية، منها ما سمي ميثاق التعليم، ثم نسف ما تبقى من مجانية خدمات الصحة، ومدونة الشغل، وصولا الى «إصلاح» التقاعد، وأخيرا وليس آخرا نظام المآسي الذي أطلق أعظم حراك شهده قطاع التعليم.
نال الهجوم الفكري بأضاليل الشراكة الاجتماعية، ومنها «الحوار الاجتماعي» من وعي قسم كبير من الأطر النقابية، ممتدا إلى اليسار الجذري ذاته، مفرغا باستمرار العمل النقابي من كل نفس كفاحي، وغدا روتينا من التحركات المضبوطة، المشفوعة بالتماس لا يكل « للحوار الاجتماعي». لا بل أن الممارسة النقابية لمعظم اليسار الجذري حالت دون انبثاق ونماء يسار في المنظمات النقابية ذائد عن المنظور الطبقي النقيض «للحوار الاجتماعي».
وكان أهم لحظة تاريخية جنى فيها النظام ثمار «الحوار الاجتماعي»، وضمنه التزام البيروقراطيات النقابية بـ»السلم الاجتماعي»، إبان دينامية 20 فبراير السياسية وما وازاها من حراكات شعبية.
وأدى تراجع نضالية الحركة النقابية، وفقدان القيادات المصداقية، إلى اتخاذ طاقة النضال لدى الشغيلة مسارات أخرى، منها بالأخص انتشار ظاهرة التنسيقيات، بخصائصها المتناقضة، إذ أنها تحرر طاقة النضال التي تكبحها البيروقراطية لكن بنحو فئوي مبعثر لا أفق له.وطرح هذا على الدولة، إلى جانب تطور حراكات شعبية متنوعة، مشكلة قصور «الحوار الاجتماعي» مع القيادات النقابية عن لجم الاحتجاجات، وتجليات الصراع الطبقي المتعددة. فقد باتت آلية الحوار القديمة المقتصرة على عالم الشغل غير كافية. سيدفع هذا ولا شك إلى تطوير أدوات احتواء النضالات بـ»الحوار» بمقاربة جديدة، لها أشكال أولية في «الوساطات» وفي أدوار أقطاب «مجتمع مدني» كالذي قام بدور إطفائي لتجارب نضالية في محيط مناجم ورزازات. وسيُصار إلى «ميثاق اجتماعي» طالما نودي به على أعلى مستوى، وإلى مزيد من قنوات/مؤسسات استعمال نخب حركات النضال لإفشال النضال. وهذا ما أتى به نقابيا، مشروع قانون النقابات التي يرسم لها دور « المشاركة في بلورة السياسة الوطنية في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي عبر مختلف المؤسسات الوطنية التي هي عضو فيها ومن خلال الهيئات والمجالس الاستشارية ثلاثية التركيب» (مادة 74من صيغة المشروع المحينة، 2020). المشاركة التي دلت التجربة، بعد المنطق الطبقي، أنها تمرير للتراجعات الاجتماعية، وخدمة لأغراض تراكم رأس المال بأقل كلفة اقتصادية وسياسية.
المشاركة التي حولت أدوات مقاومة وتوعية إلى أدوات للتحكم الاجتماعي المتيحة إعادة إنتاج للنظام الاجتماعي القائم.
هذا الإقرار بحقيقة «الحوار الاجتماعي» التاريخية لا يزيد مناضلي الطبقة العاملة ومناضلاتها، حاملي الوعي العمالي الطبقي، غير مسؤولية جسيمة في التصدي لأيديولوجيا «الحوار الاجتماعي» البرجوازية، برفع راية المنطق الطبقي عالية، والتمسك بعلة وجود المنظمات النقابية، علة تحسين أوضاع الشغيلة بالنضال، النضال الذي يفرض تفاوضا حقيقيا مؤسسا على ميزان قوى.
الجماهير تتعلم بالتجربة أساسا، وها هي التجربة كشفت نتائج «الحوار الاجتماعي» الكارثية: مصائب تلو أخرى، وأخريات قادمة: تخريب مكاسب التقاعد من جديد، قانون منع عملي للإضراب، تفكيك قانون الشغل بمراجعة المدونة؛ وكلها ضربات نوعية بالغة الخطورة على تماسك طبقتنا ومقدرتها النضالية.
الغضب المتراكم بين شغيلة القطاع الخاص، المكتوم بفعل قصور النقابات عن حد أدنى من دورها، والغضب المتفجر مؤخرا في حراك التعليم، والنضالات المتتالية لعدد من القطاعات، جماعات محلية، الصحة…، كلها أمارات الكمون الكفاحي الهائل الكفيل بقلب ميزان القوى لصالحنا، ومن ثمة وقف العدوان البرجوازي والسير لانتزاع مكاسب حقيقية وصونها.
استنتاج دروس حراك التعليم، وما ابتدع من سبل نضال وتنظيم، وتعميمها على الشغيلة المتقدمين، وإبراز جوانب الضعف لتقويتها، ومد جسور التعاون بين القطاعات، وبين الحركة النقابية وسائر التعبئات الشعبية، وإعلاء شأن المنطق الطبقي الوحدوي، هذا سبيلنا لتعزيز ثقة أبناء طبقتنا وبناتها في قوتهم الجماعية، هذه الثقة التي ما أحوجهم/هن إليها وهم /هن على مشارف معارك ضارية. وجلي أن هذا المنطق الطبقي المفقود لا يكتمل إلا سياسيا، بوجه الدولة بما هي أداة برجوازية، عبر تزود الشغيلة بمنظمة سياسية خاصة بهم تجسد استقلالهم السياسي عن القوى البرجوازية وعن البيروقراطيات المتعاونة معها.