|
السيد صَهْ صَهْ
إبراهيم رمزي
الحوار المتمدن-العدد: 7938 - 2024 / 4 / 5 - 10:21
المحور:
الادب والفن
أوْصَل نادلٌ "إكرامية" ـ دسستُها في يده ـ إلى رئيس الفرقة الموسيقية الشعبية ممن يتعهدون تنشيط المناسبات العائلية، ليعلن عن غناء مقطعِ مهدى للسيد (صَهْ صَهْ) *. المقطع جزء من أغنيته المفضلة، التي كان يشرب عليها، ولا يملّ من إعادة شريط التسجيل من أوله. وحين يَطفَح به الكيلُ، كان يقول جملته التي يردِّدها كالمَثل: "اسمعْ وتذوّق يا من لا قلب له". ورغم أن قوله يوحي بمستوى تذوقي مقبول، إلا أن الحقيقة خلاف ذلك. فهو ـ حين يعلو صوته بالغناء ـ يشرد عن إيقاع الأغنية وضوابط اللحن بشكل منفّر، يدعو للإشفاق عليه، والرثاء لحاله. وإذا تمادى أيُّ شخصٍ في تنغيص متْعته أسمَعَه أمْرَه: "صَهْ، صَهْ" الذي صار سبب تلقيبه. أما من يتجاهله ويعانده فقد يُتبِع أمرَه بوصف قدْحي: صه صه.. يا بليد .. يا عديم الإحساس .. يا نخالة الدجاج .. يا حجر قاع النهر .. وقد يفحش فيقول: يا حَزّاقة العُرْس.*. كان ـ في البداية ـ يعترض على لقب "صه صه"، ثم تقبّله ـ على مضض أو رضىً ـ، فقد كان أفضل لديه من تعمّد البعض معاكستَه بتحريف لقبه الأصلي: بو خَرُّوبة، إلى: بوخْرَارَب.*
أكثر السيد (صه صه) الالتفات وتفرَّس وجوه المدعوين، باحثا عمن يعْرف هذا "السر" في حياته. غيّرتْنا السنين الطوال التي لم نر فيها بعضنا البعض. فبينما زاد وزني واندلاق بطني، وسُمْك نظاراتي. غزاه ـ هو ـ الصلع والشيب بما يتجاوز عمره أكثر، وبقي نحيلا ضعيف البنية. صوته ـ الذي دلني عليه ـ هو الذي بقي على حاله كما كنت أعرفه. كان أضعفنا بنية ـ ضمن المجموعة ـ باستثناء صوته الحاد الزاعق. وكنا ـ بسبب ذلك ـ نتجاوز عن كثير من هفواته أو إساءاته لأحد منا بين الحين والآخر .. فيبادر إلى الاعتذار والاستذلال لمن أساء إليه .. وهو السلوك الذي رشحه لنيل العفو والتجاوز عن أخطائه وسلبياته دوما ودون استثناء.
بعد انتهاء المقطع الغنائي، سِرتُ نحوه، ابتسمت ابتسامة عريضة وأنا أحييه، كنت أنتظر أن يقف لآخذه في أحضاني .. لكنه اكتفى بمد يده لي .. وقال ببرود: أأنت صاحب هذه المزحة السَّمِجة؟ .. لم أهتم كثيرا بأبعاد قوله، واعتبرته تنبيها مؤدَّبا عند إثارة شيء خاص به، دون استشارته، رغم أن الناس لا يعرفون من هو السيد صه صه، ولا يهتمون بتحديد شخصه بين الحاضرين، فالمدعوون منخرطون ـ جماعات، جماعات ـ في أحاديث مشتركة بينهم عن الذكريات والأصدقاء ومشاغل الحياة ... مرّر يده على أرنبة أنفه. عادةٌ لصيقةٌ به لم يفرّط فيها. تدل على وقوعه في ضيْق وحيرة. حاولت أن أكون أكثر حماسا وحرارة في حديثي. ولكني لم أَلقَ منه تجاوبا مماثلا. وحاولت معرفة شيء من أخباره وحياته ولكنه كان كتوما، بل أشعرني أنه لا يرحب بتاتا باستعراض الماضي. وأن إثارتي ـ لبعض الذكريات ـ سلوك مستهْجَن ومقيت. لم يدْعُني للجلوس، فانحنيت نحوه، وخفَضت صوتي إلى حد الهمس، لألعب بآخر ورقة بقيت لي، وقلت: ـ يمكن أن أعتذر لك بكيفية ترضيك، إن شئت ورافقتني إلى خارج قاعة الحفل، ففي سيارتي زجاجة فاخرة من النوع المفضل لديْك، تركتُها هناك مراعاةً لِتزمّت صاحب الحفل .. انتفض في وجهي، وقاطعني، راسما على ملامحه سخريةً واحتقاراً،.. وقال: ـ هناك تصرفات تموت، فتخلفها أخرى مناقضة لها. لم تعد الصحة تسمح، وصارت تفرض علي أشياء كثيرة، وتمنعني من أشياء أخرى. وكأنما ضاق بالتلميح، فأفصح عن تغيير جلده، وأعلن سَأَمَه مني، فقال بنبرة صارمة آمِرة: ـ عد إلى مكانك .. ربما نتحدث لاحقا. صعقت من نبرته، وبقيت ـ لبعض الوقت ـ جامدا كتمثال زخرفته الطيور بذَرَقها في حديقة مهجورة. ما أسوأها من صدمة تخرجك من رحاب الأوهام، لتطوي الأشرعة بميناء "الحقيقة".
حثّتْني النشوةُ ـ التي منحتْني إياها الكؤوس التي حسَوْت من قبل، بمتعة ولذة ـ على الاستسلام وابتلاع الصدمة، وتجنّب التصعيد. فعُدت أجرّر أذيال الخيبة. والإحساس بالأسف على اندفاعي الحماسي الذي قابَله تصرفٌ صَلِفٌ أرعن. داخِلي يَغلي، يفور، يتمزق، .. وحريق كالنار في الهشيم يلسع أعصابي وحناياي، والعَرق البارد يتفصّد من مسامّي، ويلبّد ثيابي الداخلية على جسمي .. ارتميت على الكرسي خوف أن أسقط من دوار ودوخة. أيُّ ذعرٍ يعتريك يا "صديقي" وأنت تراني قائما أمامك، شاهدا على ماض بعيد؟ لعلك تخاف من انجلاء بعض أسرار صفحاته، أو تخجل من انكشاف بعض ملابساته، بين العالمين؟ ومن قال بأننا "نشبه الملائكة" حتى لا تكون لنا "عثرات" مؤسفة من إملاء جرأتنا واندفاعنا وطيشنا، وحتى من "حمقنا" الأهوج؟
بعد فترة من الوقت، أحاط به ـ حيث يجلس ـ ثلةٌ من القوم. كان النجم بينهم. أشعرتني مجاملاتهم أن الرجل ـ ربما ـ يدِلُّ برتبة مجتمعية عالية. فكّرت في أن أقصده ـ وسط حوارييه ـ لأنغّص عليه جلسته، ولأقول لهم: هذا كان صديقي سالفا، فهل أحدّثكم عن حياته القديمة كيف كانت متواضعة قبل ثلاثة عقود آفِلة؟ ثم استسخفت الفكرة، واستبعدتها .. إذ تبيّن لي أن لا فائدة ترجى من تصرفٍ صبياني، سوى الإساءة لشخصي. لو فعلتُ، فهل سأبثّ الروح في "جثة" صداقةٍ "يتنكّر" لها، و"أفرضها" أنا عليه؟ صارت اسما بلا مسمى، وتلاشت الوشائج التي كانت تمد حبلا سُرِّيا لإنعاشها وتغذيتها. يستحيل أن تحيي وردة لعق التسوس والتصحر ما تبقّى من رُوائها. أو أن تحوّل السرابَ ماءً.
لا لوم على السيد "صه صه" في ممارسة سلوكٍ يمارسه أيُّ واحد منا ـ مختارا أو مضطرّا ـ إزاء أبناء عمومته أو خؤولته، وما تناسل منهم. فهم ـ كلهم أو بعضهم ـ شخوص شبحية .. قد يعلم بوجودهم وبأخبارهم، وقد لا يعلم .. حتى أسماؤهم، ربما يعرفها وربما لا يعرف .. فما بالك بالغرباء ومن ينتحل انتسابا، ظنا منه أنه يخدعك لقضاء مآربه .. في إحدى المرات، اعترض طريقي شاب أنيق الهيئة والملبس. ناداني باسمي. نظرت إليه متسائلا. بدّد استغرابي بابتسامة ثعلبية وهو يقول: أنا ابن بلدتك، وكلنا أبناء حي واحد .. ما زلت أذْكُرك .. كان المرحوم ـ أخى الأكبر ـ صديقا لك ... أجبت إجابة مجاملة مبهمة تشعره بأنه "مجهول وطفيلي" بالنسبة لي. ثم وصلنا لبيت القصيد عندما قال: ـ أنا في ورطة مالية، فهل تتفضل بإعطائي مبلغ (كذا). مددت له ورقة مالية صغيرة، كما لو أني أسعف بها أي شخص كان، دون اكتراث بأي سبب "يفرض" عليّ المساعدة. ومضيت في طريقي دون التفات. ودون اهتمام بما كان يقول. لم أسأله عن اسمه، ولا عن اسم أخيه. ألم أكن ـ في هذه الحالة ـ نسخة من السيد صه صه؟؟
استحضرتُ أحوال الأصفياء الذين يصيرون ـ تحت تأثير الزمان ـ غرباءَ عن بعضهم البعض، فالتمست له عذرا فيما صدر منه. فالصورة الشبابية التي أحتفظ بها عنه تغيّرت أو انطمست. حين كان نزَقُ الشباب يجمعُنا في أوقات متعددة، ومغامرات متنوعة، وظروف مشتركة، .. ثم رمى بي الاشتغال على السفن التجارية إلى الاغتراب بموانيء العالم، فلم أره منذ مدة طويلة، كانت كافية لتحفر بيننا خندقا أعرض من مضيق جبل طارق، لا يمكن تخطيه بقفزة بهلوانية.
رجعتْ عيناي إلى الحاضر بعدما اخترقت غيْمات الماضي، ونظرتُ إليه وهو يتوسط مجموعته، التقت ـ بالصدفة ـ نظراتنا. لاحظت أنه اضطرب وأكثر من تمرير يده على أرنبة أنفه. ففضّلتُ الرحيل. لم أبال بأجواء الحفل .. وتجاهلتُ أن أجامل صاحبُه أو أستأذنه. خرجت نحو سيارتي .. حيث تناولت عدة كؤوس متتابعة .. أحاول أن أغسل بها المهانة التي تمرّغت فيها، وأدفن مرارة اندفاعي الطائش، ..
أتذكّر .. وأعبّ .. خطرتْ ببالي الكثيرُ من صور الماضي .. أشخاص من الحقبة الشبابية .. كان بيننا الكثير من الود والصداقة، والكثير من "الحروب" العبثية، والتصرفات الصبيانية السخيفة .. التي تثير اليوم سخرية وضحكا، ولذة وحنينا، .. أتذكر مغامرات، فيها الفاشلة وفيها الميمونة .. وكلما تذكرت .. أعبّ .. وأتنهد .. وأستنشق الهواء بعمقٍ ومِلءَ رئتيّ، حتى لا يخنقني ثقل الذكريات الجاثمة على صدري ..
ضحكت عندما تذكرت تلك الفتاة ذات الخال الفاتن المتربِّع على خدها، والابتسامة الخلابة، والشعر الطويل المنسدل على جسمها الممتليء .. واستعانة "صه صه" بكتابٍ ينقل منه "طلاسم وتعاويذ" للَفْتِ انتباهِها وتَأْخيذِها،.. ولكن "الفاتنة" ما أعارته اهتماما، ولا "رحمت" تقرُّبَه، .. بل كانت تشعل النيران في القلوب وهي تبادل ذاك الفتى الأسمر الاستلطاف والود، رغم أنه لم يكن الوسيم ولا الميسور .. بل يمكن اعتباره مفرط الطول مقارنة بقامتها .. له أنف مفطح يستعمر "مساحة مهمة" من وجهه .. لا يتميز إلا بابتسامة تفتر لها شفتاه الغليظتان، عن أسنان مرتبة ناصعة البياض .. وكان صاحبنا يُغرق خيبتَه وشجنَه في مواكبة أغانٍ رومانسية، يردد مَقاطِعها بلا كلل، ثم يفرّغ أصداء آهاته ومواجعه في قاع كؤوس من شراب محلِّيّ الصنع، ويدمن لفافات تبغ رخيص، تخلّف صفرتَها على أسنانه وشاربه ويديه. في حالات نادرة كان السكر والنشوة يستبدان به، فلا يشعر بحرج أن يرقص على إيقاعات أغانيه المفضلة رقصا مخنثا، ويأتي بحركات خليعة .. ويَجْبَه ـ بتهور ووقاحة ـ من يفاجئه على هذه الحال بأن الفن الرفيع لا حدود لتأثيره. ولكنه في الأحوال العادية كان يستغرق في السماع، ومواكبة الأغاني بصوت قد شرخه الشراب واستهلاك السجائر.
كان له غياب مفاجيء في فترات غير محدودة وغير منتظمة. لا يفصح عن مكان اختفائه، ولا سبب ذلك. كان يعود وهو في قمة السعادة والنشوة .. طلق المحيا .. بشوش الوجه .. كثير الدعابة والمرح .. بعد الضغط عليه، ومحاصرته بالأسئلة .. أجاب كالمتضايق ذرعا من هذا الإلحاح: ـ كنت عندها. ـ من هي؟ ـ مدرستي الأولى في الحب وفنون العشق واللذة الجسدية الرعناء التي لا ضفاف لها. والتي أرشدتني إلى عالم "الموضة" المبني على البساطة وأساليب الأناقة المناسِبة لضيق ذات اليد. وأنا المولع بالوقوف أمام واجهات المحلات التجارية لأغازل ـ عن بعد ـ الأقمصة وربطات العنق والسراويل والمعاطف ... وأتمنى لو اقتنيتها لولا أثمنتها الصاروخية. ـ حدثنا عنها.
ـ تكبُرني ببضع سنين .. كانت ـ عندما تعارفنا ـ شابة حديثة التأيم بعد موت زوجها في حادثة سير .. وكنت غرا أخطو في عنفوان المراهقة .. لم تكن لها مطامع مادية في جيبي المثقوب. كان همّها ـ مثلي ـ هو المتعة. علمتني منها صنوفا وأطيافا، وأرتني منها ألوانا وألوانا .. ربما فاقت ما أحاط بها علم الشيخ النفزاوي .. جعلتني أترقب أوقات الخلو بها بفارغ الصبر .. كل خلوة معها كانت شهر عسل، كنت أرجو ألا ينتهي. وانتقلتْ ـ بعد نضوب مواردها المالية ـ للعيش في الحي "الموبوء". تزامنا مع انخراطها الرسمي في أقدم مهنة معروفة في التاريخ. ولم يمنعني ذلك من زيارتها، كلما أتيحت لي الفرصة وأحرقتني الغريزة. فأغدو إليها محمّلا ببعض المقتنيات بعد أن أصبح لي شغل ودخل.
بعد غيبة له، عاد كسير الفؤاد، محطم الجناح، .. كان يرفض الإفصاح عما أصابه وغيّره. كان يغرق في شرابه وأغانيه .. لا يأكل إلا قليلا. كثير الآهات والزفرات .. يغمغم باحتجاجات ومعاتبات. كالراهب حين يمارس طقوسه في صمت وخشوع .. كان السيد صه صه يغوص في غياهب التهيؤات.. قد يستغرق في ذلك فترة طويلة .. فإذا أخرجته من "عالمه التعبّدي الخاص" ليأكل طعاما أو يتناول مشروبا .. ثار في وجهك كأنك اقتحمت على متصوف خلوته، وقطعت مناجاته وأوراده، وعاتبك على إخراجه من بحار الوَجْد و"الكرامات" .. فإذا اعتذرت أنك تقصد أن يوفي جسده حقه مما به استمرار الحياة، .. قال: لا تثقل جرابك بمزيد من الذنوب حتى تملي عليّ أيّ سلوك معين؟ وبعد هذه الثورة "المصطنعة" يقبل على الطعام والشراب بِشَرهٍ زائد، ونَهَمٍ لا يوصف. ورغم ذلك كان النحول ملازما له. وذاك ما كان يعرِّض "شَبحَه" لسخرياتنا: هيئة الملعقة .. فصالة القلم .. قامة السفود .. بئر بلا قاع .. أَلِفُ ابنِ مُقْلَة.
بعد فترة ضيقٍ ومعاناةٍ صامتة، دَلَق ما في مِزْوده ـ مما يثقل على نفسه ـ : زرت بيتها عدة مرات خلال الشهور الأخيرة .. ولم أظفر بلقائها ولا رؤيتها .. في كل مرة يقال لي: إنها غائبة. وعندما احتججت ـ في باديء الأمر ـ بأني أسمع صوتها في الداخل .. تم طردي شر طردة، وتهديدي بسوء العاقبة إن عدت إلى ذلك البيت. ورغم ذلك عدت وعدت .. ولكن بدون فائدة .. إلى أن قيل لي: إنها ماتت.
يختلط نشيجه بضحكه وهو يقول: ـ من تناقضاتها أنها كانت تغار علي، ولا تسمح لي بأن أغار عليها. أزورها فتسرع في إبعادي عن الفتيات الأخريات المشاركات لها في بيت الدعارة، كأنها تضن عليهن برؤيتي، أو تضن علي أن أراهُنّ، وأتفرّس في أجسادهن .. يبتعدن قائلات وهن يتغامزن ويتضاحكن: جاء السيد الأمير. في إحدى المرات، شاءت العبث بي، بعد معركة من عدة أشواط، خرجت منها مرتخيا متكاسلا .. حاولت استنهاضي/ـه فما أفلحت .. فدعَتْ باقي الفتيات: ـ هيّا لحصّة ترويضٍ مجانية. فلم يدّخرن جهدا في الإتيان بكل صنوف الغنج والدلال واللمس والغمز والكبس والقول الفاحش الساخر من رخاوة الكسلان المتقاعس عن المبارزة. ولست أدري كيف أفْلت عقلي ووعيي ـ من مخالب مجونهن ـ حتى أتساءل: ـ هل حوريات الجنة يعطلن الدحم، ويمهلن الرجل ـ على الأقل ـ حتى يسترجع أنفاسه، ويستعيد جُهده؟ يتنهد بعمق، ويقول: كانت رائعة .. كانت تمتنع عن استقبالي حفاظا على سلامتي .. حتى لا تُعْديَني بمرضها .. أليس ذلك أكبر دليل على وفائها لي؟ أشعر ـ الآن ـ بالضياع في متاهة لا نهاية لها، حتى الاتجاه الصحيح ـ الذي عليّ اتّباعُه ـ لا أعرفه .. كل قواي محطمة أو صارت متدنية مشلولة في مقاربة: فَهْم الحياة، وتفسير غاياتها، وتحليل تقلباتها، وتعليل ظواهرها .. ثم لا يتحرج في ترديد ازدرائه لعبثية القضاء والقدر، وخبطاته العشوائية المسلّطة علينا، .. فلا هي ـ في نظره ـ موعظة ولا هي ابتلاء .. والأوْلى أن تُعتبَر عقابا مجانيا، وحشيا، مؤلما، قاسيا، .. لا يتناسب حتى مع درجة "الذنْب"، فما بالك إن لم يكن هناك ذنب .. قلت: مهما يكن فأنت أحسن حالا مني .. تجربتك العسلية تفضُل تجربتي الحنظلية .. كنت إذا قابلت حبيبتي بنيران أشواقي المشبوبة، صبّت علي جرادل أمواه مثلجة .. أسافر بشوقي وحنيني ولوعتي لألقى حبيبتي .. فتخلف ميعادنا .. وأعود أدراجي خائبا .. أتألم من رحلة المئات من الأميال ذهابا وإيابا .. كنت إذا كتبتُ لها رسالة في صفحات متعددة .. "تكرّمتْ" عليّ ببضعة أسطر جوابا .. كأنها تغرف الحروف من دواة البخلاء .. لو أن حبيبتي بادلتني عُشْر جنوني .. لكُنّا محسودين على سعادتنا .. حبيبتي كانت أبرد من الصقيع وعصف الزمهرير .. شُلّتْ عواطفُنا .. فتجمّد كل منا في قطبه .. وما تزال برودة عواطف حبيبتي تلفعني من حين لآخر .. هي برودة جارحة، مؤلمة، قاتلة .. مخدِّرة. تجاهل محاولتي تعزيته، وتخفيف حزنه .. وقال ـ بعدوانية ساخرة ـ : سببٌ كافٍ ومقنِعٌ لتبرير تخلّفك عن الرَّكْب. لم أر فائدة في مجادلته، فلُذْت بالصمت أرسف في أغلاله ـ رغم مَضاضَته ـ.
عندما أيقظتني لسعات الفجر الباردة، والصوت الأجش المنبعث من مكبر صوت المؤذن، وجدت نفسي في السيارة، متوقفا أمام العمارة التي أسكن فيها. لا أعرف كيف قطعت مسافة لا بأس بها، ولا كيف وصلت. مثانتي كانت على وشك الانفجار، وتزحمني بلا إشفاق، ولا يمكن أن تمهلني وقتا إضافيا. ولـِـ"تنفيس كربتي، وستر فضيحتي حتى لا أبلل ملابسي"، ساهمتْ قارورةٌ بلاستيكية في منحِي ـ رغم وقاحتي ـ إحساسا بالارتياح، لما أوْعَبت فيها "الضاغط" الساخن. نظرت إلى محتوى القارورة .. وقلت: في نظر السيد "صه صه"، أنا وأنت سواء، وليذهب الاندفاع بالصداقة "الوهمية" إلى بئر النسيان وهاوية التنكر والإنكار. من يدّعي أن الغربال لا يحجب ـ بميوعةٍ واقتدار، وتحت تأثيرات مختلفة ـ "شمسَ" العلاقات الاجتماعية؟ فيسمّمها، ويحولها إلى أوهام؟
*صه ـ عند النحاة ـ اسم فعل أمر بمعنى: اسْكُتْ، * بوخرارب: مجرى مياه الصرف الصحي. أما الخرّوب فنوع من الأشجار. * حزاقة العرس: من تزعج الملتئمات في عرس بضراطها، فيضطرٍرْن للتفرق، نفورا من رائحتها.
#إبراهيم_رمزي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اعتقال الموتى
-
باب البغاء
-
تعليل
-
تلقين تاريخي
-
التهاني بين الأمس واليوم
-
كبرياء أنثى
-
بلال
-
بأي ذنب؟
-
الولايات الإسرائلية
-
شكز
-
أسماء
-
كان يا ما كان .. وِسامُ عِرفان
-
تجميل الدعارة
-
نضال عَفِن
-
مهمة سريّة
-
نادي المرتشين
-
حراس المعبد يزْحَرون
-
رشيدة ... التي كانت ..
-
حرب النجوم
-
لحظة حميمية
المزيد.....
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|