عالم بلا مشاكل: رسالة آلان وودز للعام الجديد 2024
آلان وودز
2024 / 1 / 6 - 23:30
“بولونيوس : ماذا تقرأ يا مولاي؟
هاملت: كلمات، كلمات، كلمات”. (شكسبير)
“وعندما صنعوا الخراب أطلقوا عليه اسم سلام” (تاسيتس)
يا له من عالم رائع هذا الذي نعيش فيه! في يوم رأس السنة، استيقظت فجأة لأجد أنه لا أحد لديه أية مشاكل. نعم فعلا، لقد قرأتم ذلك بشكل صحيح. إذ بعد طول انتظار، لم تعد لدينا مشاكل، فقط “مسائل”. صحيح، يبدو أنه من الممكن أن تموت بسبب مسألة ما. لكن دعونا لا نتطرق إلى موضوع غير سار.
تصير الأوضاع أحسن فأحسن باستمرار. وعندما تنهض من سريرك في الأول من يناير، بعد أن تكون قد تناولت كميات مفرطة من الطعام والشراب أثناء الاحتفال بالانقلاب الشتوي، قد تقلق بشأن بعض الوزن الزائد الذي اكتسبته نتيجة لذلك.
كلا! لم تعد سمينا بعد الآن، فأنت فقط تعاني من زيادة الوزن أو ربما شيء من البدانة. لكن كلا! ولا حتى ذلك. لأنه لا يوجد بديل صحيح سياسيا ومستساغ لكلمة “سمين”. كما أنه ليست هناك أي حاجة لذلك البديل. لأن السمنة هي مجرد طريقة أخرى للإشارة إلى الجسم الجميل. لذلك لا داعي للقلق.
في هذا العالم الجديد الرائع الذي تختفي فيه كل الأشياء غير السارة إلى الأبد، نرى عددا لا حصر له من التطورات العظيمة التي تتفوق على كل الاكتشافات التي حققها الجنس البشري حتى الآن.
فعلى سبيل المثال، لم يعد الناس يضيعون وقتهم الثمين في التحدث مع بعضهم البعض، ـوالتي هي ممارسة لا معنى لها على الإطلاق ابتلي بها البشر منذ اللحظة الأولى التي اكتشفوا فيها لعنة اللغة. في عالم ما بعد الحداثة الجديد والمثير هذا، اكتشف الرجال والنساء طريقة ممتازة للتخلص من هذه اللعنة بشكل جذري وإلى الأبد.
وإذا شعرنا فجأة بالرغبة في التواصل مع شخص ما، فإننا نخبره بأننا نرغب في “مشاركة شيء ما معه”. في أيام شبابي البعيدة، كان في إمكان المرء أن يشارك سرا أو كيسا من الحلوى، لكن لم يعد الآمر كذلك بعد الآن، على ما يبدو.
كما أننا لن نعاني بعد الآن من المكالمات الهاتفية المزعجة. وبدلا من ذلك، سيتم إبلاغنا بأن شخصا ما ينوي “مد يده إلينا“. في الماضي، كان من الممكن مد اليد لشخص معرض لخطر الغرق أو السقوط. لكن وبما أن مثل هذه الأحداث غير السارة قد صارت محظورة من الآن فصاعدا في عالمنا الجديد الرائع، فإن المرء فقط “يمد يده”.
إن مثل هذه التحولات المعجزة في اللغة أصبحت الآن شائعة جدا، لدرجة أن هناك خطرا جسيما من أنها ستستقر بشكل دائم في النفس البشرية. لكن إذا كنتم، مثلي، منزعجين إلى حد ما من هذا الاحتمال، فلا تقلقوا. انظروا! أبشركم بالبهجة والسلام على الأرض والخير لجميع سكان كوكب الأرض.
من هذا اليوم فصاعدا، لن يُقتل أحد في أي حرب. سوف “يؤخذ” فقط. في أيام شبابي، كان من المعتاد أن آخذ صديقتي إلى السهر في الخارج، عادة إلى قاعة الرقص أو ما شابه ذلك من الأماكن ذات السمعة السيئة. لكن الآن، إذا قلت إنني أنوي أن آخذ زوجتي، فهذا ينطوي على شيء شرير محتمل.
وعلاوة على ذلك فإنه في كل حروب عصرنا الجديد لن تكون هناك مذبحة ضد الأبرياء. فبدلا من سقوط ضحايا من المدنيين (وهو أمر شائع جدا في كل الحروب حتى يومنا هذا)، لن تكون هناك سوى “أضرار جانبية“.
والآن تخيلوا فقط لو أن بابلو بيكاسو (وهو شخصية مكروهة أخرى عند محققي محاكم التفتيش المعاصرين) قام برسم تحفته العظيمة المناهضة للحروب اليوم، فلن يطلق عليها اسم غرنيكا، بل أضرار جانبية. على الرغم من أنه، بطريقة ما، لا يبدو أن لها نفس المعنى تماما.
يمكن اختزال مرض ما بعد الحداثة الذي يصيب أدمغة العديد من الطلاب وجميع أساتذة الجامعات تقريبا، في المفهوم البسيط القائل بأن كل شيء تحدده الكلمات، ولهذا السبب يكررون بشكل دائم كلمة “السردية”.
لكننا ماديون، ولسنا مثاليين، ونفهم أن مجرد تغيير كلمة ما لا يغير جوهر أي شيء. لقد عبر شكسبير عن الأمر بشكل جيد عندما قال إن الوردة مهما كان اسمها ستكون رائحتها زكية. في حين أن بعض المواد الأخرى مهما كان اسمها ستكون رائحتها كريهة.
نقرأ في الكتاب المقدس: “في البدء كانت الكلمة”. وعلى هذا رد الشاعر والمفكر الألماني الكبير غوته قائلا: “في البدء كان الفعل”. وفي هذا الجدل، نميل نحن إلى دعم وجهة نظر غوته./ الصورة: ملكية عامة
نقرأ في الكتاب المقدس: “في البدء كانت الكلمة“. وعلى هذا رد الشاعر والمفكر الألماني الكبير غوته قائلا: “في البدء كان الفعل“. وفي هذا الجدل، نميل نحن إلى دعم وجهة نظر غوته، لأنه من الواضح تماما أن الرجال والنساء قد عملوا -أي شاركوا في تلك الأنشطة العاجلة الضرورية للحفاظ على الحياة- قبل وقت طويل من تطوير ما نسميه الآن لغة.
لكن بالنسبة للأكاديميين من الطبقة المتوسطة، تعتبر الكلمات هي كل شيء. إنها الوسيلة التي بها يعيشون، والهواء الذي يتنفسون، وأخيرا وليس آخرا، التذكرة إلى حياة مريحة. ولذلك فإن السعي لتحسين المجتمع يقتصر في عقولهم البسيطة على شيء واحد فقط: تغيير الكلمات.
ولا يخطر ببالهم أبدا أن تغيير الكلمة لا يغير من الأحوال القائمة شيئا. والأسوء من ذلك أنه بقدر ما ينجح هذا الهراء في التأثير على تفكير الناس، فإنه يؤدي حتما إلى خفضهم إلى مستوى البلهاء (في هذا السياق، يصبح البحث عن بديل صحيح سياسيا أمرا غير ضروري على الإطلاق).
البرجوازية الصغيرة، التي تسير على خطى الإله، تخلق رجالا ونساء على صورتها الخاصة: جيل مستعبد من المخلوقات الضعيفة لكن المدعية، جيل من الخصيان المصابين بفقر الدم، والمصابين بالشلل من أعلى الرقبة حتى أخمص أقدامهم، لا يستطيعون فعل أي شيء سوى الثرثرة إلى ما لا نهاية والنظر إلى سرتهم.
محاكم التفتيش الجديدة
من الواضح أن هذه الثورة المذهلة في اللغة لها أهمية ثقافية هائلة. ذات يوم، كان الفاتيكان يمتلك قائمة طويلة من الكتب في فهرس عنوانه Librorum Prohibitorum (وتعني باللاتينية “فهرس الكتب المحرمة”). كانت تلك الكتب محظورة من قبل سلطة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية باعتبارها خطيرة على عقيدة أو أخلاق الروم الكاثوليك.
توقف نشر ذلك الفهرس في عام 1966، وتم تحويله إلى وثيقة تاريخية. لكن الآن هناك جيل جديد من محققي محاكم ما بعد الحداثة مشغولون بإعادة إنشاء القائمة سيئة السمعة.
يقوم جيش حقيقي من رقباء “الصوابية السياسية” بتفتيش جميع الأعمال الأدبية بجدية -بما في ذلك جميع تلك الأعمال التي اعتبرت عالميا أعمالا ذات جدارة وعبقرية كبيرة- لتطهيرها من كل آثار الهرطقة.
تمت إعادة كتابة طبعات جديدة من أعمال رولد دال -الروائي البريطاني الأكثر مبيعا والتي تشمل كلاسيكيات أدب الأطفال مثل: “تشارلي ومصنع الشوكولاتة”، و”ماتيلدا وجيمس والخوخة العملاقة”- في محاولة لجعلها أقل تجريحا و”أكثر استيعابا”.
وكان أداء روديارد كيبلينغ أسوء بكثير. فهو بالتأكيد تجاوز الحدود. أجل، من الصحيح تماما أن العديد من أعماله تحمل طابع العقلية المؤيدة للإمبريالية. لكن كيبلينغ كان رغم ذلك مؤلفا موهوبا يمثل تفكير عصره. لينين نفسه أعجب بكيبلينغ لأنه وصف بدقة لغة وسيكولوجية الجندي البريطاني العادي في تلك الأوقات.
ثم هناك شكسبير! لماذا نقرأ له؟ فهو، بعد كل شيء، معروف عنه أنه كان أبيض اللون ويشتبه بشدة في ميوله الجنسية المغايرة. وإذا لم يكن ذلك كافيا لإدانته بشكل كامل، فإن صحيفة نيويورك تايمز تخبرنا أن عددا متزايدا من الأساتذة صاروا يرفضون دراسته.
شكسبير متهم بقائمة طويلة من الجرائم، بما في ذلك الترويج لـ “كراهية النساء، والعنصرية، ورهاب المثلية، والطبقية، ومعاداة السامية، وكراهية النساء السود”، وهو ما يعتبر سجلا غير سيء لأحد أعظم الكتاب في العالم!
ولا تقتصر أنشطة المحققين الجدد على الأدب. فالفنون التشكيلية ليست أفضل حالا. في الآونة الأخيرة، اضطرت مديرة إحدى المدارس في فلوريدا إلى الاستقالة في أعقاب حملة شرسة شنها بعض الآباء ضدها لأنها تجرأت على أن تُظهر لتلاميذها صورة تمثال “ديفيد” لمايكل أنجلو، وهي صورة لذكر جميل عاري مثل آدم في اليوم السابق للقائه بحواء.
تم التنديد بذلك باعتباره “موادا إباحية”. لذا فإنه ليس بعيدا ذلك اليوم الذي سنجد فيه، كما كان الحال في العصر الفيكتوري، كل تمثال مغطى بورقة تين كبيرة جدا لإخفاء أعضائه الجنسية، من أجل حماية المشاعر الرقيقة والوازع الأخلاقي للناظر من أن تجرح.
والآن، إذا كان على المرء أن يحكم على الفن والأدب برمته من وجهة نظر التحيزات الحالية، فلن يتبق سوى القليل مما يمكن ذكره.
وبعد أن يتم هدم الصرح الرائع للثقافة الإنسانية الذي تم تشييده على مدى قرون عديدة، لن يبق سوى عدد قليل من الأعمال عديمة اللون، والمبتذلة، والمملة إلى ما لا نهاية، المنضبطة للصوابية السياسية. وستصير الإنسانية أكثر فقرا نتيجة لهذا التخريب الثقافي الذي لا معنى له.
صحيح أن هؤلاء المحققين المعاصرين لم يتوصلوا بعد إلى الاستنتاج المنطقي الذي مفاده أن مثل تلك الأعمال يجب أن تُرمى للنيران. لكن تحلوا بالصبر! فغدا لناظره قريب.
وبينما ننتظر بفارغ الصبر نيران محاكم التفتيش التي سترمى فيها بلا رحمة جميع الأعمال الأدبية العظيمة الموروثة من الماضي من أجل إنقاذ أرواحنا الأبدية ونقائنا اللغوي، يتم تنفيذ تدابير أخرى أقل جذرية، لكنها ربما بنفس القدر من الفعالية.
فمع كل يوم يمر، تضاف عناوين جديدة إلى قائمة الأدب الهرطقي: كلاسيكيات مثل قصص غريم الخيالية، وشكسبير، وجحيم دانتي، وغيرها الكثير، تخضع لرقابة تجعل الرقابة التي مارسها جوزيف ستالين تبدو متسامحة بالمقارنة.
لنأخذ مثالا واحدا فقط، ففي حكاية بيضاء الثلج الشهيرة في حكايات غريم، تقضي الشابة المعنية بعض الوقت في العيش بسعادة في الغابة مع سبعة أقزام.
والآن، حسب ما أتذكر، لم يحدث أي شيء غير مرغوب فيه خلال تلك الفترة من المعاشرة. كان الأقزام السبعة جميعهم سادة صغار محترمين تماما، وكانوا يتمتعون بتصرفات ممتعة وسعيدة ومفيدة للغاية. وعلاوة على ذلك، ففي الحكاية، مثلها مثل معظم القصص الخيالية، ينتهي كل شيء نهاية سعيدة سعادة دائمة. وحدها الساحرة الشريرة هي التي وصلت إلى نهاية سيئة مستحقة.
كان معظم الناس، على مدى القرنين الماضيين، سعداء جدا بتلك الحكاية الممتعة والمفيدة. صحيح أنها تحتوي في نسختها الأصلية على بعض التفاصيل المروعة. لكن هذه سمة مشتركة بين كل حكايات الفولكلور الأصيل، الذي تمتد جذوره إلى الأساطير والاحتفالات الوثنية القديمة.
معظم الناس لا يدركون أن الأخوين غريم كانا عالمين حقيقيين. وعلى عكس دجالينا ما بعد الحداثيين، فقد كانا عالمي لسانيات حقيقيين جمعا القصص الخيالية، ليس من أجل تسلية الأطفال، بل من أجل دراسة تطور اللغة واللهجات الألمانية.
وفي واقع الأمر، فإن نسخة حكايات غريم المعروفة عموما قد خضعت للرقابة منذ فترة طويلة لإزالة الجوانب الأكثر إثارة للقلق والخوف، ولا يوجد، حتى الآن، دليل يذكر على أن هذه الحكايات الرائعة كان لها أي تأثير سلبي على عقول الأطفال الصغار.
كان الجميع، في الواقع، سعداء جدا بها. وذلك حتى وصول محققينا اللغويين، مسلحين بالجرس والكتاب والشمعة ومقص كبير جدا لتقطيعها.
المشكلة، كما ترون، هي أنه في عالمنا الجديد الشجاع لم يعد الأقزام موجودين. والآن، بدلا من أصدقائنا القدامى، حُكم على بياض الثلج بقضاء ما يبدو وكأنه وقت كئيب إلى حد ما بصحبة “أشخاص ذوي تحديات عمودية“.
قد تقول إن كل شيء جيد ورائع، لكن ما الذي يمكن عمله مع الكتاب المقدس؟ قد يبحث المرء عبثا في جميع سجلات الأدب العالمي للعثور على عمل يمتلئ بقصص الرعب عن القتل والاغتصاب وسفاح القربى وأشكال التعذيب القاسي وجميع أنواع الأشياء الكابوسية، التي تقفز إلينا من كل صفحة من صفحاته.
من المؤكد أن الوقت قد حان لحذف هذا النص الفظيع الكاره للنساء والعنصري والعنيف، حتى لا يستمر في إلحاق الضرر النفسي بالشباب؟
لكن رقابتنا اللغوية صامتة بشأن هذه المسألة. فعلى الرغم من أنهم يظهرون أنفسهم كمبتكرين عظماء عندما يستخدمون المقص ضد أعمال أدبية عظيمة، وبالتالي يخصون مؤلفين توفوا منذ زمن بعيد وصاروا غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم، فإنهم، على ما يبدو، ليسوا شجعانا بما يكفي عندما يتعلق الأمر بمواجهة المصالح الثابتة للكنيسة والطبقة السائدة.
لديهم طبعا رد جاهز ضد هذا الاتهام. سيقولون إن هدفنا هو تجنب الإساءة إلى حساسيات الناس. وبما أن الدين هو القضية الأكثر حساسية، فيجب علينا أن نضع آرائنا جانبا، ونستمر في السماح له بتسميم عقول الملايين من الناس، كما فعل على مدى آلاف السنين الماضية.
قصة حربين
وبالحديث عن الدين، دعونا نحول انتباهنا إلى الأحداث التي تتكشف أمام أعيننا اليوم. تتمتع الأساطير بسلطتها الخاصة على عقول الرجال والنساء، حتى أولئك الذين هم في العادة عقلانيين وأذكياء. وقد استُخدم التعصب الديني لقرون عديدة لتبرير أبشع الفظائع. وما زال الحال كذلك حتى الآن.
بينما أكتب هذه السطور، يتم حشد القوة العسكرية لدولة غنية وقوية من أجل سحق شعب صغير وفقير ومضطهَد تم إجلاؤه بعنف من وطنه وأجبر على العيش في منطقة صغيرة مكتظة بالسكان تقع بين إسرائيل ومصر.
تزعم الزمرة الإسرائيلية الحاكمة، بقيادة بنيامين نتنياهو، أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها. وهكذا كان. لكن يحق للفلسطينيين كذلك الدفاع عن أنفسهم، وهو ما يسعون بجهد جهيد إلى القيام به في مواجهة صعوبات رهيبة.
كيف يبرر نتنياهو الإخلاء القسري للفلسطينيين من الأراضي التي سكنوها منذ أجيال؟ من خلال الاستشهاد بالكتاب المقدس. إنه يؤكد ببساطة أنه في وقت ما في الماضي الأسطوري البعيد، “أعطانا الله هذه الأرض”. وبما أن الله للأسف غير متوفر حاليا لكي يؤكد أو ينفي هذا الادعاء، فمن المتوقع منا أن نكتفي بتصريحه على أنه دليل.
لكننا، نحن الماركسيين، لا نصدق الأساطير، سواء كانت دينية أو غيرها. يجب أن نبحث عن أسباب الحرب في عوامل مادية لا علاقة لها على الإطلاق برجل غير مرئي يوجد فوق السحاب لم يتحدث منذ آلاف السنين ولو بكلمة واحدة مع أي إنسان، وبالتالي يمكن تفسير إرادته بأي شكل يختاره المرء.
ليس للهجوم الإسرائيلي على غزة أية علاقة بالدين أو بالدفاع عن النفس، إنه يتعلق بالانتقام ورغبة الزمرة الحاكمة في إسرائيل في تدمير غزة بالكامل ودفع سكانها إلى الصحراء المصرية.
وإذا ما أخذنا هذا الأمر إلى جانب تكثيف القمع الوحشي ضد ما يسمى بالدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية، والأنشطة العنيفة التي تمارسها عصابات “المستوطنين” شبه الفاشية، فيمكن وصف ذلك بأنه محاولة نتنياهو للتوصل إلى حل نهائي للمشكلة الفلسطينية.
من الطبيعي أن يقابل هذا الادعاء بموجة من السخط العنيف من جانب الزمرة الحاكمة في إسرائيل ومؤيديها. لكن بصراحة نقول إن مراعاة مشاعر الناس هو اعتبار ثانوي تماما بالنسبة لنا، نظرا لخطورة الوضع.
يقف النفاق الكلبي للقوى الغربية عاريا تماما بفعل التناقض الصارخ في موقف وسائل الإعلام الغربية تجاه الحربين في غزة وأوكرانيا. وهذا ما أثبتته الأحداث الأخيرة مرة أخرى.
في 28 دجنبر، شنت روسيا أكبر ضربة بالصواريخ والطائرات المسيرة منذ بداية الحرب. وضربت أهدافا في جميع أنحاء أوكرانيا، وصولا إلى لفيف على الحدود مع بولندا. وكان ذلك يستهدف قاعدة تدريب للقوات الغربية في أوكرانيا.
ووفقا للأوكرانيين، فقد تجاوز العدد الإجمالي للصواريخ والطائرات المسيرة 160.
اكتسح ذلك الهجوم الدفاعات الأوكرانية. وفضح نقاط الضعف الحاسمة في الدفاعات الجوية الأوكرانية وأحدث ضررا كبيرا (لم تعلن كييف عن تفاصيله). لكن كم عدد الأشخاص الذين قتلوا؟
في البداية، كان الرقم المعلن هو 18 حالة وفاة. وقد زاد هذا بعد ذلك إلى حوالي ثلاثين. وكعادته دائما لم يضيع ممثل الأمم المتحدة أي وقت في وصف ذلك بأنه جريمة حرب فظيعة وانتهاك صارخ للقانون الدولي.
هناك شيء غريب في كل هذا.
ربما كان الهدف من الهجوم هو زيادة إضعاف دفاعات أوكرانيا، بحيث تصبح غير قادرة على مقاومة أي تقدم روسي كبير. وهذا الآن احتمال واضح. لكن ومهما كانت نية ذلك الهجوم، فمن المؤكد أنه لم يكن لذبح المدنيين.
إن إطلاق أكثر من 160 صاروخا وطائرة مسيرة (وفقا لمصادر أوكرانية) في هجمات في جميع أنحاء أوكرانيا يجعلنا نتوقع عددا كبيرا جدا من الضحايا، يصل عددهم إلى عدة مئات على الأقل. لكن الأرقام التي قدمتها المصادر الرسمية الأوكرانية لا تتجاوز الثلاثين.
الآن من النافل القول إن وفاة شخص واحد هي مأساة. لكن إذا قارنا هذه الأرقام بالمذبحة الدموية التي يتعرض لها المدنيون في غزة كل يوم بسبب القصف العشوائي الذي تشنه القوات المسلحة الإسرائيلية، فإن التناقض واضح بشكل لافت للنظر.
نلفت انتباهكم إلى الحملة الصاخبة التي استمرت عدة أشهر من أجل إرسال فلاديمير بوتين إلى لاهاي لمحاكمته كمجرم حرب. لكن لا توجد حملة مماثلة لتوجيه الاتهام إلى نتنياهو بارتكاب جرائم حرب والانتهاك الصارخ لما يسمى على سبيل المزاح بـ”القانون الدولي”.
إن هذا الصمت المطبق يخبرنا بكل ما نحتاج إلى معرفته عن المعايير الأخلاقية لمن نصبوا أنفسهم مناصرين للديمقراطية وتقرير المصير وحقوق الإنسان.
كانت حكومة جنوب أفريقيا هي الوحيدة التي تجرأت على اتهام الإسرائيليين بشن حرب إبادة ضد شعب غزة. وقد كان رد فعل الحكومة الإسرائيلية متوقعا تماما، فسخطهم الشديد كان بدون حدود. “ماذا؟ نحن؟ معتدون؟ لكننا نحاول فقط الدفاع عن أنفسنا ضد العدوان. أليس من حقنا أن ندافع عن أنفسنا؟”.
هذا مثال على النفاق في أبشع صوره. لن نجادل بشأن الكلمات، إلا أننا نقول إنه إذا لم تكن هذه إبادة جماعية، فمن المؤكد أنها تقترب منها كثيرا.
لقد وقع الحمقى والسذج في الفخ الذي أعدته لهم الزمرة الحاكمة في إسرائيل. فقد استخدموا بشكل منافق ولعقود طويلة المحرقة والجرائم الوحشية التي ارتكبت في الماضي ضد الشعب اليهودي.
من الطبيعي أن يدين كل إنسان سوي تلك الجرائم ويقف ضد سم معاداة السامية. لكن هذا لا يمكن ولا يجب أن يفسر على أنه شيك على بياض لنتنياهو والرجعيين المتوحشين في حكومته اليمينية المتطرفة لارتكاب جرائم قتل جماعية.
إنهم يشيرون إلى عمليات القتل التي ارتكبتها حماس وجماعات أخرى في 07 أكتوبر. لقد كانت تلك فظاعة مروعة. لكنه لا يمكنك تبرير فعل مشين بالإشارة إلى فعل آخر.
لقد أودت المذبحة الدموية ضد الرجال والنساء والأطفال في غزة حتى الآن برقم يقترب من 30 ألف ضحية، دون حساب هؤلاء المدفونين تحت أنقاض الشقق والمنازل التي تم قصفها. وهذا لا علاقة له بمحاربة حماس.
من الواضح أن قصف الأهداف المدنية ليس عملا عرضيا. إذ يتم استهداف جميع السكان بشكل متعمد، لأنهم، وفقا للصقور الإسرائيليين، جميعهم سيئون مثلهم مثل حماس، ويستحقون كل ما يتعرضون له.
إن تعرض شعب ما للقمع في الماضي لا يمنحه أي حق في ممارسة أعمال العنف والقمع ضد شعب آخر اليوم. لقد حدث في كثير من الأحيان في التاريخ أن تحول الشعب الذي كان مضطهدا ومستعبدا في السابق إلى أكثر المضطهِدين وحشية.
لقد كانت الولايات المتحدة نفسها ذات يوم مستعمَرة مضطهَدة من طرف بريطانيا. لكن الوضع لم يعد كذلك. أصبحت الإمبريالية الأمريكية اليوم قوة اقتصادية وعسكرية جبارة تحاول إخضاع العالم بأسره لهيمنتها، وتسحق بشكل منهجي أي أمة تحاول مقاومتها.
هل هناك أي قاسم مشترك بين دولة إسرائيل الحالية وبين هؤلاء اليهود المساكين المضطهَدين الذين عاشوا في الأحياء اليهودية في أوروبا الشرقية قبل الحرب العالمية الثانية؟ إن السؤال في حد ذاته غريب وسخيف.
النفاق الإمبريالي
لن يكون للدعوات المطالبة بمحاكمة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي نتيجة تذكر.
ومن الناحية العملية، لا توجد طريقة يمكن من خلالها تنفيذ ذلك. وعلى أية حال، فإن المناشدات بـ”القانون الدولي” أو “القانون الإنساني” جوفاء تماما. قال سولون الكبير، مؤلف الدستور الأثيني: “القانون يشبه شبكة العنكبوت. الصغير يعلق فيه أما الكبير فيمزقه”.
وبعد مرور أكثر من 2000 عام، ليس هناك الكثير مما يمكن إضافته إلى ذلك البيان الموجز والواضح. لا الإمبرياليون ولا النظام الإسرائيلي الرجعي لديهم أدنى اهتمام بالقانون أو بأي اهتمامات إنسانية على الإطلاق. لقد أظهروا ذلك بوضوح شديد من خلال حربهم الوحشية على شعب غزة.
إن سلوك إدارة بايدن في حرب غزة يذهب إلى أبعد من مجرد التواطؤ. إن الإمبريالية الأمريكية هي مشارك نشط في الهجوم الدموي على شعب غزة الأعزل. والحقيقة هي أن هذه الحرب العدوانية الإجرامية لا يمكن أن تستمر يوما واحدا دون الدعم النشط من واشنطن.
صحيح أن المذبحة الوحشية للمدنيين في غزة كان لها تأثير كارثي على صورة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وفي جميع أنحاء العالم.
لقد أظهرت الأمم المتحدة أنها عاجزة تماما عن فعل أي شيء لتنفيذ القرارات المتكررة بشأن قضية فلسطين. ومع ذلك، فإن نتائج العديد من عمليات التصويت في الأمم المتحدة تسلط الضوء على عزلة الولايات المتحدة المتزايدة في العالم.
وعلى الرغم من هذه الحقيقة، فإن إدارة بايدن تحافظ بعناد على دعمها غير المشروط لإسرائيل في حربها ضد الشعب الفلسطيني. وحقيقة أنها اضطرت، تحت ضغط الرأي العام، إلى الدعوة إلى اتباع نهج “أكثر اعتدالا” من جانب إسرائيل وزيادة “المساعدات الإنسانية”، لا تعني شيئا على الإطلاق.
وافق مجلس النواب الأمريكي على تخصيص 14,5 مليار دولار كمساعدات عسكرية لإسرائيل. إنهم يسلحون الإسرائيليين حتى الأسنان بجميع أنواع أسلحة الدمار التي يتم استخدامها لتنفيذ مذبحة عشوائية ضد سكان غزة.
ويبذل الأميركيون كل ما في وسعهم لتخريب الدعوات لوقف إطلاق النار، التي لا ينوي نتنياهو الموافقة عليها. في حين يدلون، في الوقت نفسه، بتصريحات منافقة، ويطلبون بأدب من الإسرائيليين بذل كل الجهود لتجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين أثناء قصفهم الوحشي للسكان.
وهذا السلوك يشبه القاتل الذي يطعن ضحيته الأعزل حتى الموت، ويتوسل إليه ألا يصدر الكثير من الضجيج، لأن ذلك قد يزعج الجيران ويضر بسمعة القاتل.
لكن الصقور في واشنطن، والذين لم يرضهم ذلك، يضغطون بشدة من أجل شن هجوم على إيران. وليس سرا أن الإمبريالية الأمريكية كانت ترغب منذ فترة طويلة في إلحاق هزيمة عسكرية قاسية بإيران، التي تعتبرها أخطر عنصر لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط.
وبمجرد أن بدء الصراع في غزة، أرسل الأمريكيون حاملتي طائرات إلى المنطقة: واحدة إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، والأخرى إلى البحر الأحمر. وكانت النية واضحة تماما: شن ضربة جوية مدمرة ضد إيران.
لكن نتنياهو، بل وحتى ذلك الرجل العجوز في البيت الأبيض، يدركان أن الصراع العسكري مع إيران لن يكون سهلا. ولهذا السبب فقد تصرفا بحذر حتى الآن.
لقد ترددا لبعض الوقت. لكن الآن كل العوامل تشير إلى صراع مفتوح. تهدد إسرائيل بالعمل على إبعاد حزب الله من الحدود مع لبنان إذا استمرت هجمات الجماعة المسلحة. وكل هذا يؤدي إلى تأجيج المزاج العدائي وإعداد السكان للحرب.
يبقى أن نرى النتيجة النهائية. لكن الشرق الأوسط برمته أشبه ببرميل بارود ينتظر الشرارة. من المحتمل أنه بحلول وقت نشر هذا المقال، ستكون مرحلة جديدة ودموية من الحرب قد بدأت بالفعل.
وهكذا يبدأ عام 2024 كما انتهى عام 2023: صور للمعاناة الشديدة، والأزمة الاقتصادية، وانخفاض مستويات المعيشة، والحروب والأهوال من جميع الجوانب.
هذه مؤشرات واضحة على دخول النظام الرأسمالي في مرحلة من الانحطاط النهائي الذي يهدد وجود الحضارة والثقافة وربما حتى مستقبل الحياة على الأرض.
يصادف هذا الشهر الذكرى المئوية لوفاة فلاديمير إيليتش لينين، الذي هو، مع ليون تروتسكي، أعظم ثوري في العصر الحديث. وكان قد حذر من أن استمرار النظام الرأسمالي يمثل أخطر تهديد للإنسانية. وقال إن الرأسمالية رعب بلا نهاية. وقد أثبت التاريخ صحة كلماته بشكل كامل.
ليس لدى الرأسماليين وممثليهم السياسيين أي حل للأزمة الحالية. وهم من خلال أفعالهم يجعلون الوضع السيء أسوء ألف مرة. إنهم يتخبطون من كارثة إلى أخرى مثل رجل أعمى يتعثر منحدرا نحو الهاوية. ويهددون بجر العالم كله معهم.
إن النظام يحتضر ولا يمكن لأي قدر من الإصلاحات أن ينقذه. إن التغيير الجذري الكامل هو الحل الوحيد الممكن.
يقال إنه في لحظة حاسمة عشية المعركة، رفع الإمبراطور المسيحي الأول قسطنطين راية رسم عليها رمز الصليب، وحشد قواته بصرخة الحرب التالية: In hoc signo vinces (بهذا الرمز سننتصر).
أما اليوم فإن راية لينين وتروتسكي، راية الثورة الاشتراكية والشيوعية، هي المؤهلة لقيادة العمال وجميع الجماهير المضطهَدة والمسحوقة إلى الأمام نحو عالم جديد وأفضل حيث ستصير الحروب والفقر والظلم مجرد ذكريات سيئة من الماضي.
آلان وودز
لندن، 01 يناير/كانون الثاني 2024
ترجم عن النص الإنجليزي الآتي:
A world without problems: Alan Woods’ New Year message 2024