سكان غزة ومؤامرة التهجير
فهد المضحكي
2023 / 11 / 18 - 12:25
بذلت إسرائيل قصارى جهدها على مدى العقود الماضية لإعادة تعريف عمليات التطهير العرقي التي ارتكبتها بحق سكان فلسطين العرب في العام 1948 من خلال تصوير ما حدث على أنه كان نتيجة لإقدام العرب على ترك بيوتهم طواعية، أو إذعانهم لأوامر قادتهم بالمغادرة. ولإيضاح ذلك، في مقال نُشر بموقع «Carnegie» يرى الكاتب بصحيفة ديلي ستار اللبنانية مايكل يونغ، هكذا سعى الإسرائيليون إلى تقويض الاتهام بأن إسرائيل أقيمت على أساس ممارسة تُصنَّف بأنها جريمة ضد الإنسانية. مع ذلك، لا يتوانى كبار القادة الإسرائيليين وبعض المسؤولين السابقين اليوم عن خوض في نقاش علني حول التهجير الجماعي للفلسطينيين قسرًا من غزة إلى مصر.
قالت صحيفة فاينانشيال تايمز، نقلًا عن مصادر، إن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يسعى إلى قناع القادة الأوروبيين بالضغط على مصر لقبول اللاجئين من قطاع غزة في أراضيها. وإذ حاول دبلوماسي غربي حصر نطاق هذا التصريح بالقول إن نتنياهو يريد من المصريين استضافة الفلسطينيين «على الأقل خلال فترة الصراع»، إلا أن نتائج محاولة الإيضاح هذه عبثية. فنتنياهو لا يكترث إطلاقًا بما فيه خيرُ الشعب الفلسطيني الذي يرتكب جيشه مجازر بحقه. بل إن ما يريده هو أن تفتح مصر أبوابها كي يتسنّى لإسرائيل إغلاقها بشكل دائم بمجرد خروج الفلسطينيين من ديارهم. هذا ما حصل في العام 1948، وأحمق من يعتقد أنه لا يمكن أن يحدث مجدّدًا.
تتزامن هذه الضغوط التي يمارسها نتنياهو مع تقارير متواترة عن إصدار وزارة الاستخبارات الإسرائيلية وثيقة أوردت فيها قائمةً من الخيارات المطروحة أمام السلطات الإسرائيلية للتعامل مع الفلسطينيين في غزة. من ضمن هذه الخيارات أن تعمد إسرائيل إلى «إجلاء السكان من غزة إلى سيناء» و«إنشاء منطقة عازلة بعمق كيلومترات عدة داخل الأراضي المصرية، وعدم السماح بعودة الفلسطينيين إلى النشاط أو السكن بالقرب من الحدود الإسرائيلية». وتضيف الوثيقة أن هذا المشروع يستوجب من إسرائيل بذل جهود مكثفة من أجل استقطاب الدعم الدولي لها، ولا سيما من الولايات المتحدة. حتى مع الإقرار بأن ترجمة «Google translate» غير دقيقة، فإن دقة هذه التوصية لا تقبل الجدل نظرًا إلى أن نتنياهو يروج للفكرة عينها.
لهذا السبب تحديدًا، يرى يونغ، لا يمكن تصديق الادعاءات الإسرائيلية بأن الوثيقة الصادرة عن وزارة الاستخبارات هي مجرد «ورقة مفهومية» أو طرح افتراضي. فالكثير من الأفكار الجديدة وغير المسبوقة في الحكومة تبدأ بشكل غير ملحوظ، تحديدًا لأن هذه هي الطريقة المنطقية والبيروقراطية كي لا تُلغيها على الفور البيروقراطيات المتنافسة. في الواقع، إنه لأمرُ صادم في ذاته أن تقر إسرائيل بأن التطهير العرقي بات الآن جزءًا من حزمتها المفهومية للتعامل مع الفلسطينيين.
وإن كان ثمة شكوك في هذا الصدد، فالمقال المنُفِّر الذي كتبه الرئيس لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي جيورا إيلاند، كفيل بإخمادها. فقد طرح إيلاند في مقاله «خيارات» الخاصة لمعالجة مشكلة الفلسطينيين في غزة. أحد هذه الخيارات هو «تهيئة الظروف لجعل الحياة في قطاع غزة غير ممكنة»، ما يؤدي إلى «التهجير الجماعي لسكان القطاع إلى مصر أو الخليج». الهدف النهائي هو «أن تتحول غزة إلى مكان لا يمكن لأي إنسان العيش فيه، وأنظر إلى هذه النتيجة باعتبارها وسيلة وليس غاية. أقول ذلك لأن ما من خيار آخر لضمان أمن إسرائيل، فنحن نخوض حربًا وجودية».
إن المسوغ الأمني الذي ساقه إيلاند لتبرير هذه الأفعال مثير للاهتمام، لأنه المبرر الذي يلجأ إليه الأوغاد في كل مكان لعقلنة ارتكاب الجرائم النكراء. فمن أجل تحقيق أمن إسرائيل، لابد من دفع نحو مليونين من سكان غزة إلى الصحراء وكأنهم قبيلة ضائعة. ومن أجل قتل مسؤول واحد من حماس وتعزيز أمن إسرائيل، لابد من إبادة حي بأكمله في مخيم جباليا للاجئين، وإيقاع خسائر فادحة في الأرواح، ومن أجل حماية إسرائيل، تُطلق يد العصابات من المتدينين في الضفة الغربية، الذين كانوا ليدرجوا في معظم البلدان على قوائم الإرهاب، لطرد سكان القرى الفلسطينية من بيوتهم أو قتل الفلسطينيين العزل وهم يقطفون الزيتون.
ما يثير الدهشة على وجه الخصوص أن البلدان الغربية تشاهد كل ما يحدث راهنًا، ولكنها تستخدم أفعال حماس - التي يعيش كبار قيادتها وعائلاتهم في فنادق مرفهة في دول غنية - في 7 أكتوبر ذريعة للتقاعس. وحتى بينما تُمعن دولة الاحتلال في إبادة الآلاف من سكان غزة، فبينما كثيرون آخرون لا يزالون تحت أنقاض المباني التي سوّتها بالأرض، رفضت الولايات المتحدة والدول الأوروبية الحليفة فرض وقف إطلاق النار في غزة، واستمرّت في التعبير عن استنكارها إزاء القتلى الإسرائيليين.
ما قد يتجلى عن ذلك هو لحظة تأسيسية فارقة لهيمنة الغرب على الشؤون العالمية. فالضحية الأولى لحرب غزة هي من دون شك أوكرانيا، التي صُور الدفاع عنها في البلدان الغربية على أنه يعادل رفض ذلك النوع من الاسترضاء الذي أدّى إلى تسليم أجزاء من تشيكوسلوفاكيا إلى ألمانيا. لقد انهارت الأُسُس الأخلاقية التي قامت عليها السردية الغربية بشأن أوكرانيا على وقع انهيار المباني السكنية في غزة. من سيصدق مجددًا الخطاب الأمريكي أو الأوروبي حول روسيا، فيما الكثير من البلدان الغربية لا يأبه بالقتل الجماعي الذي يرتكبه جيش الاحتلال؟ في هذا السياق، على الأمريكيين أن يلتزموا الحذر. فقد يكتشفون أنهم معزولون عندما يجولون على حلفائهم في العالم لمساعدتهم على منع الصين من ضم تايوان في نهاية المطاف.
يضيف يونغ: يؤلمني أن أذكر الحجّة التبسيطية للغاية التي يسمعها المرء في مثل هذه الحالات، وهي أن الغرب عنصري في التمييز بين العرب وشعوب يعتبرها أكثر شبهًا بالغرب، مثل الإسرائيليين. لا أعتبر هذا التفكير إشكاليًا على الكثير من المستويات فحسب، بل لا يسعني أيضا إلا أن أعترف، نظرًا إلى المظاهرات التي تعم العواصم الغربية تنديدًا بالارتكابات الإسرائيلية في غزة، بأن الكثير من الأمريكيين والأوروبيين، ومن بينهم عدد مفاجئ من اليهود، اختاروا الوقوف على الجانب الصحيح دفاعًا عن جميع الضحايا من دون استثناء متذ هجوم 7 أكتوبر.
لكن للنخب في الولايات المتحدة وأوروبا منظورًا مختلفًا، أصبحت أعداد من شعوبهما تعارضه. هذا المنظور يعتبر في تأسيس إسرائيل تعويضًا عما هو ربما أعظم جريمة في التاريخ، أي الهولوكوست أو (محرقة اليهود)، ويرى أن إسرائيل امتداد ُ للغرب، وحليف موثوق طوال نصف القرن الماضي، وينظر إلى على أنها عصرية وديمقراطية وسط منطقة من التعصب والتخلف. يمكن بالطبع التشكيك في عناصر هذه الزاوية، ولذا عندما نسمع أولاف شولتز يعلن أن «إسرائيل دولة ديمقراطية تسترشد بمبادئ إنسانية للغاية، ولهذا السبب يمكننا أن نتأكد من أن الجيش الإسرائيلي سيحترم القواعد التي يحددها القانون الدولي في كل مايفعله»، نتساءل ما إذا كان المستشار الألماني يصدّق فعلاً مثل هذا الهراء أو ما إذا كان لديه في الواقع جهاز تلفزيون.
فيما يفاقم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الانقسام الذي تشهده المجتمعات الغربية، لا مفرّ من أن يتغير ببطء المزاج السائد في أوساط النخب في أوروبا والولايات المتحدة. ولكن في الوقت الراهن، هذا التبدّل ليس باديًا للعيان على الإطلاق. والدليل على ذلك أن الإسرائيليين يتحدثون الآن صراحةً عن التطهير العرقي بحق أكثر من مليوني فلسطيني في غزة، على مرأى من البلدان الغربية التي تواصل انخراطها في مؤامرة صمت مخزية.