|
لغة الهيمنة: هيمنة اللغة ،
سالم العوكلي
الحوار المتمدن-العدد: 1740 - 2006 / 11 / 20 - 09:42
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
من نص الريكويرمنتو إلى مجلس الأمن : بناء أنظمة اللغة وتوليداتها كان دائماً وراء ارتباك الحوار بين الحضارات وخلط المفاهيم ، حيث شكل مناخاً لتمرير أعظم حالات الإبادة والمصادرات، تحت مسميات مناقضة ، تندرج تحت ما يعرف بالألعاب اللغوية ، التي تعيد توظيف جزئيات اللغة تحت إطار براغماتي ، لا علاقة له بقيم العدل والجمال ، بل تمارس فوق ذلك نوعاً من التلذذ الشاذ بتحطيمها . اللغة ليست كمنطوق فقط أو مفردات ، ولكن بمعناها السيميوطيقي ، أي الإشاري ، الذي يشكل منظومة التبادل والعلاقات داخل أية جماعة إنسانية ، متمثلة في الطقوس والبنى الاقتصادية والأنماط الاجتماعية والفنون والآداب والملبس ولغة المعمار وكل أنماط الاستهلاك ، التي جعلت التعامل الغربي الكولينيالي مع العالم الآخر مبنياً على هيمنة منظور ولغة ، ومحاولة تعميمه،عبر خلق رؤيا أحادية تجاه المجتمعات المستهدفة ، بنيت على منظومة من الدراسات والبحوث التي تبلور عنها ما يعرف بالخطاب الاستشراقي الذي كان دائماً عرضة للنقد فيما يخص منهجه ونواياه . ومن هذا المنطلق فإن (( تزيفيتان تودروف )) يذهب في كتابه المهم (( فتح أميركا .. مسألة الآخر )) إلى استخدام علم السيميوطيقا في تحليل الوقائع التاريخية ، وهي نقلة مهمة في التعامل مع التاريخ السردي ، تأتي بعد محاولات ابن خلدون الجادة من اجل دمج الفلسفة مع التاريخ . وإذا كان ابن خلدون يستخدم الإنسان كائناً عضوياً في استعارته الجذرية للتاريخ الإنساني مؤكداً على مراحل الطفولة والشباب والكهولة والموت التي تمر بها الحضارات خالقة بذلك دورات تاريخية تعود عبر منحنياتها إلى النقطة نفسها ، فاستعارة تودروف الجذرية تأتي من الإنسان باعتباره كائناً لغوياً . وهذه النقلة الزمنية المهمة هي التي شحنت الفعل الحضاري بفاعليات العقل والوعي والاكتشاف والتوليد ليقدم هذا التكرار في التاريخ في فعله (( اللولبي )) الذي يصعد مع الاستدارة والناتج عن إمكانات المعرفة والإدارة المرتبطة بالإنسان ككائن ناطق وجدلي ، بدل استدارة ابن خلدون المنطلقة من الجسد الإنساني الفاني وصيرورته العدمية . وهذا التفاوت في الأنظمة المعرفية واللغوية هو الذي يحدد الآن مستوى التفاوت في الصراع مع الغرب متمثلاً في ابرز نماذجه أميركا سليلة المنظومة المعرفية الفوقية والمتعالية التي اكتسحت عالم الازتيك الهادىء منذ عام 1492م بكل طقوسه وثقافته ولغاته وعقائده لتقدمه إلى العالم على أنه مكان متوحش لا وجود ل(( الإنسان )) فيه . إن قصة المرأة التي يسردها تودروف في كتابه ، وهي من الهنود المايا تم إلقاؤها من قبل الغزاة إلى الكلاب لتنهش جسدها لأنها رفضت مطاوعتهم والاستجابة لهم ، مازالت حاضرة بدلالاتها حتى عصرنا الراهن وبأشكال مختلفة . دول ومتجمعات إنسانية كاملة تقدم لحومها إلى الكلاب المعدنية تحت شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية ومحاربة الإرهاب كما كانت تقدم في ذلك العصر تحت شعار نشر المسيحية والتسامح والقيم الإنسانية ، والاهم من ذلك فإن تودروف في تحليله لهذه القصة لا يُغيب القمع الداخلي الذي تتعرض له تلك المرأة من قبل زوجها الذي يصادر مسبقاً إرادتها ورغباتها ، وهذا ما ينطبق أيضاً على شعوبنا التي تعاني القمع المزدوج أو بالأخرى قمعاً داخلياً يجعلها لقمة سائغة للأطماع الخارجية . إن عقدة الهنود الحمر ما زالت تحدد نهج التوجه الاميركي ، لأن الإبادة التي تعرض لها هذا المجتمع والإحلال الذي تم على حسابه لم يعودا مجرد واقعة تاريخية عنصرية بشعة بل تحولا إلى طريقة تفكير و منظومة عقلية مرتكزة على رغبة لا تعرف الحدود من اجل تفريغ العالم من مضامينه التاريخية وزحزحته جغرافياً . إن كولمبوس الذي غزا هذا العالم من أجل الذهب والتجارة تحت أقنعة دينية ـ وما يتعلق بنشر الدين المسيحي ـ يتحول الآن إلى شركات كبيرة وتوكيلات ضخمة تغزو العالم بحراسة الأساطيل والرؤوس النووية لتفرض عليه لغتها الجديدة وثقافتها البراغماتية المبنية على التقاء التأثير العالمي الاستهلاكي بالمزاج الذاتي الفردي ، والعمل على التفكيك القومي والاجتماعي والاختلال الجغرافي والخلخلة الديمغرافية والاحتفاظ بحق التدخل العسكري في أي مكان وأي وقت باسم حقوق الإنسان والمجتمع قِناعها الجديد . لقد تطور الصراع وتطورت معه آليات الهيمنة عبر تغليب الرؤيا الأحادية للعالم ، وكان على القوى التي خرجت منتصرة في الحرب العالمية الثانية أن تصوغ شكلاً قانونياً ومنظومة جديدة من العلاقات التي تحافظ على مكاسبها . ولم تجد أفضل من إحياء فكرة (( عصبة الأمم )) بقيام منظمة الأمم المتحدة ، والتي كانت تعكس في البداية مطلباً إنسانياً ملحاً يضع حداً لويلات الحروب والإبادة . ورغم تعدد ثقافات الدول المنتصرة واختلاف نواياها إلا أن السيطرة الأميركية المطلقة كانت في طريقها لأن تفرض خطابها الأحادي اعتماداً على معطيات كثيرة لا مجال هنا لذكرها ـ وهكذا كان على أميركا زعيمة الدول المنتصرة أن تدس تعويذتها الشيطانية في ثنايا هذا المنجز الإنساني الجديد فكانت فكرة إنشاء مجلس الأمن والأعضاء الدائمين وحق النقض للدول القوية وهو جهاز ذرائعي جديد يتكون من مجموعة من الصياغات اللغوية والقانونية المنتقاة بعناية لتعبث من جديد ما يسمى قديماً نص (( الريكويرمنتو ـ (( Requerimientoالشهير،وهي الوصية التي صـاغهـا الحـقوقـي المـلـكي (( بالاثيوس روبيوس )) عام 1514م من أجل تنظيم الفتوحات وتوفير أساس قانوني لإشباع رغبات التدمير لدى الغزاة ،ويقول هذا النص الذي يلقى في حضور أحد ضباط الملك ومن دون ترجمة مخاطباً الهنود بأنهم إذا اقتنعوا بهذه التلاوة فلن يتم أخذهم كعبيد أما إذا لم يقبلوا فسيلقون مصيراً قاسياً . يقول النص : (( فإن لم تفعلوا ذلك أو إذا ما طلتم عن سوء نية في اتخاذ قرار فإنني أشهد لكم أنني بعون الرب سوف أغزوكم غزواً قوياً وسوف أحاربكم من جميع الجهات وبجميع ما في وسعي من أشكال وسوف أخضعكم لنير وطاعة الكنيسة وصاحبي السمو ، وسوف آخذكم أنتم ونساءكم وأطفالكم وسوف أختزلكم إلى مرتبة العبودية ، وعبيداً سوف أبيعكم وسوف أتصرف فيكم بحسب أوامر صاحبي السمو وسوف آخذ منكم ثرواتكم وأنزل بكم كل الأذى وكل الضرر الذي بوسعي ، على نحو ما يليق بالإتباع الذين لا يطيعون سيدهم ولا يريدون لقاءه ويقاومونه ويعارضونه )) إن هذا النص ـ الذي يستفيد كثيراً من لغة الكتاب المقدس ويقدم خيارات (( ديمقراطية )) جداً للهنود المخاطبين ـ يعكس التفسير الغربي الخاص لتاريخهم وكيانهم ـ علماً بأن الحاضرين منهم لا يفهمون شيئاً من لغة هذه التلاوة وهو مجرد إجراء شكلي من أجل صياغة شرعية قانونية لكي تأخذ آلتهم التدميرية حقها في انتهاك ذلك المجتمع .إن ما يسمى بالريكويرمنتو يتحول بعد حوالي خمسمائة سنة إلى صياغة حضارية جديدة اسمها مجلس الأمن وإذا كان الحاضرون هنا يفهمون لغة هذا المجلس فإن إرادة الأقوياء وحق النقض لا يجعل لهذا الفهم قيمة ويظل طرح قضايا الشعوب في هذا المجلس مجرد ذريعة لإصباغ شكل قانوني على حروب واستعمار وانتهاكات جديدة . إننا أمام شرعية جديدة بدأت إرهاصاتها منذ اكتشاف أميركا أو فتح أميركا كما يقول تودروف ، وهذه الشرعية دفعت بالتأكيد ثمن الوصول إليها وليس أمامنا سوى أن نعيد قراءة كل هذه المراحل وجذور التفاوت في إطار من تطوير خطاباتنا وبنانا المختلفة ، لقد كان لخسارة الحرب من قبل ملايين من الهنود يحاربون فوق أرضهم أمام بضعة آلاف من الأسبان أسبابها الكثيرة المتعلقة بالمنظومة الثقافية السائدة في مجتمع الهنود فهي حضارة لم تكن أقل ثراء من حضارة الغزاة ، لكنها كانت منطوية على ذاتها مهتمة بالشعائر الشكلية أكثر من اهتمامها بالتواصل الحي والتفاعل داخل مكوناتها والأخطر من ذلك كانت غير قادرة على ربط إمكانات مجتمعها وتعبئتها لصالحه وهي مآزق عانى منها مجتمع معزول تحدد مصيره معارف غيبية للدرجة التي كان يتحدد فيها منظوره إلى الآخر الغازي بأنه قادم من قبل الآلهة كما يرد في أساطيرهم فيترددون في مقاومتهم أمام هذا الاعتقاد القدري . لذلك فالمواجهة كانت بين الأسطورة والواقع ـ بين التربية الكلامية التي ترفع النموذج والشفرة وبين لغة التوليد والتركيب التعبيري والسياق ـ بين النظام التراثي المغلق وبين الفعالية الآنية ـ بين الماضي والحاضر ـ بين لغة طقوسية تتوارثها الأجيال كما هي وبين لغة ارتجالية تتغير مع متغيرات الواقع ... فالزعيم الهندي الذي تردد في محاربة الغزاة لإيمانه بالأسطورة القائلة أن هناك أناساً يأتون من الشرق بأمر الآلهة حتى تم القبض عليه دون أن أي دفاع ، يقابله زعيم الأسبان الغزاة (( كورتيس )) الذي يقول : (( سوف أجتهد دائماً في إضافة ما يبدو لي مناسباً لأن الظروف الجديدة تفرض آراء جديدة وقرارات جديدة وإذا ما ظهر لكم تناقض ما بين ما أقوله لاحقاً وقلته بالفعل فلتطمئنوا إلى أن ذلك يرجع إلى أن واقعاً جديداً قد دفعني إلى تبني رأي جديد )) . وهذا التباين في ثقافة الحضارتين وعلاقتهما بالزمن وبالتاريخ كان دائماً يظهر جليّاً في منعطفات الصراع والتي تحسم لصالح القوى المتجددة وحتى عصرنا الراهن . ففي حرب الخليج الثانية مثلاً كانت أميركا والقوى الحليفة تستخدم أحدث الوسائل التقنية والمعلوماتية وتجرّب سرعة نظم اتصالها وأحدث أسلحتها ومراكز بحوثها بينما نحن بالمقابل ننكب على كتب التاريخ والشعوذة باحثين عن هذه الحرب في أساطيرنا ونبوءات أجدادنا (( من كتب محيي الدين عربي مثلاً وما يخص بقعة الزيت الضخمة في الخليج )) لنجد أن هذه الحرب محسومة لصالحنا وعلينا أن ننتظر المعجزة . لقد كان قائد القوات المتحالفة يعقد مؤتمره الصحفي مقدماً تحليله للمعركة واستراتيجياتها وأرقامها بينما القائد العربي يهتف منادياً : (( وينكو يا النشامة )) . كان الإعلام الغربي يسميها بلغته السياسية السينمائية ـ عاصفة الصحراء ـ بينما الإعلام العربي يسميها بلغته التراثية الطقوسية ـ أم المعارك ـ كنا نواجه أميركا بمنظومة كلامية عمادها البلاغة والجزالة وننتصر عليها من خلال لافتات وخطب عصماء ، وهي تؤجج كل مؤسساتها العسكرية والاقتصادية والثقافية والفنية من أجل أن تصوغ منظومة تكتيكية ، واستراتيجية تجعلها تذبحنا باسم القانون ومن خلال الشرعية الدولية وبأساليب لا أخلاقية لكنها مدروسة .. كنا نهتف بكل ما في الهتاف من طقوسية وهي تجمع المعلومات وتحللها وترسم خططها .. كنا ننزل القمر بالفصاحة إلى شرفاتنا وهي تصعد إليه بعقلها .. لنكتشف في النهاية أن الصراع صراع حضاري ، والحضارة لا يمكن أن تتجزأ وسؤالنا الحضاري ما زال غائباً ، وما زلنا نراهن على لغتنا الطقوسية وخطابنا العاطفي وأنماطنا الاستهلاكية ومنظورنا الأخلاقي المشكوك فيه إلى عالم لا يؤمن إلا بالمصالح والقوة التي لا تتأتى إلا بربط مكونات الصراع وتنظيم طاقات الشعوب المقهورة وإبراز قوتها الكامنة وإبداع حركة وإيقاع داخل مجتمعاتها . إن الكيانات القاهرة إذ استطاعت أن تصدر آليتها القمعية إلى الخارج فلأنها لا تعاني من آليات القمع في الداخل فنحن لا يمكننا أن نواجه ارادات الهيمنة بشعوب ومجتمعات مقموعة .. لأنها مجتمعات تتعامل بالتسامح داخلياً وتقمع الخارج ونحن مجتمعات تتعامل بالقمع داخلياً وتتسامح مع الخارج والنتيجة فإن قهر الذات الجماعية يسهم في إضعاف مقاومة القهر الخارجي ، فامرأة المايا الهندية ما زالت عرضة للكلاب ما دامت ترزح تحت منظومة استبدادية في مجتمع متخلف وما زالت الكلاب شرهة طالما أننا نقاوم أنيابها بذوات مقهورة منتظرين عصا سحرية نعبر بها هذه الأزمة أو أن تكون النار حولنا برداً وسلاماً .
#سالم_العوكلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليوتوبيا والدكتاتورية
-
من أول السطر
المزيد.....
-
موزة ملصقة على حائط.. تُحقّق 6.24 مليون دولار في مزاد
-
تقارير عن معارك عنيفة بجنوب لبنان.. ومصدر أمني ينفي وجود قاد
...
-
قوات كييف تعترف بخسارة أكثر من 40% من الأراضي التي احتلتها ف
...
-
إسرائيل تهاجم يوتيوبر مصري شهير وتوجه له اتهامات خطيرة.. وال
...
-
بوليتيكو: الصين تتجاوز الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في
...
-
وسائل إعلام عبرية: اختفاء إسرائيلي في الإمارات والموساد يشار
...
-
غرابة الزمن وتآكل الذاكرة في أعمال عبد الله السعدي
-
فوائده كثيرة .. ابدأ يومك بشرب الماء الدافئ!
-
الناطق باسم -القسام- أبو عبيدة يعلن مقتل إحدى الأسيرات الإسر
...
-
-تحليق مسيرة ولحظة سقوط صواريخ-.. حزب الله يعرض مشاهد استهدا
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|