الماركسية والنضال ضد الاضطهاد القومي والاستعماري

الرابطة الأممية للعمال
2023 / 11 / 10 - 22:57     

صادقت عليها اللجنة التنفيذية الأممية للرابطة الأممية للعمال في 26/7/2012

مقدمة… ص 1
1- ماركس وانجلز… ص 2
2- الأممية الثانية… ص 8
3- لينين… ص 11
4- الأممية الثالثة وأطروحة الشرق… ص 20
5- تروتسكي، الثورة الصينية، والثورة الدائمة… ص 29
6- تروتسكي: اوكرانيا وأسبانيا في الثلاثينيات ص 33
7- الأطروحة الثامنة والعشرون حول المسألة القومية “تحديث نهويل مورينو للبرنامج الانتقالي الذي كتبه تروتسكي لتأسيس الأممية الرابعة عام 1938″… ص 39
8- استنتاجات عامة… ص 41

المقدمة

مشكلة الهيمنة الإمبريالية على البلدان شبه المستعمرة (وعلى المستعمرات المتبقية نفسها)، وكذلك قمع القوميات عديمة الجنسية، والأقليات القومية، هي مكون مركزي للنضال من أجل الثورة العالمية.
ليس فقط أن كثيرا من بلدان العالم هي شبه مستعمرات مضطهدة، ولكن أيضا في الغالبية الساحقة منها هناك مشاكل خطيرة لاضطهاد الأقليات القومية. مشاكل الاضطهاد القومي لاتزال قائمة أيضا في البلدان الإمبريالية.
هذا الاضطهاد هو أحد العناصر المركزية التي تفصل الجماهير الكادحة للبلدان شبه المستعمرة عن الطبقة العاملة في البلدان التي تستعمرها، والتي أيضا تقسم بعمق الطبقة العاملة داخل الدول متعددة القوميات.
بين أكثر الأمثلة دموية على القمع القومي لدينا فلسطين، وكردستان في الشرق الأوسط. وفي جنوب آسيا لدينا كشمير في الهند، أو التاميل في سريلانكا. وفي جنوب شرق آسيا لدينا آتشيه في إندونيسيا، أو الروهينجا في ميانمار. وفي إفريقيا، التي تم رسم حدود دولها بحدود استعمارية، يمتد اضطهاد الأقليات القومية إلى الغالبية العظمى من بلدانها. العديد من الدول الأفريقية لاتزال، في الواقع، مستعمرات فرنسية، بمفارز عسكرية دائمة، وحكومات تابعة في العواصم. في الصين لدينا التبت وشينجيانغ، إضافة إلى الحالات الخاصة لهونج كونج وتايوان. وفي روسيا نجد أوكرانيا، أو الشيشان، أو داغستان. وفي أمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطى، بات اضطهاد السود والسكان الأصليين واقعا منتشرا.
في الولايات المتحدة، يواجه السود واللاتينيون اضطهادا واسع النطاق، ولدينا أيضًا مشكلة استعمار بورتوريكو. في أوروبا، نواجه مشاكل قومية في الدولة الإسبانية (كاتالونيا وبلاد الباسك وجاليسيا)، وفي فرنسا (بمستعمراتها الخارجية، كورسيكا …). وفي بريطانيا العظمى، لايزال جرح إيرلندا الشمالية قائما، كما عادت المطالبات القومية تطفو إلى السطح في اسكتلندا وويلز. وفي أوروبا الشرقية، سواء في دول يوغوسلافيا السابقة، أو في دول البلطيق، نصطدم بمشكلة الأقليات القومية، التي مازالت مستمرة منذ القرن التاسع عشر، مع حربين عالميتين تخللت هذه الفترة.
كل ما سبق سيكون غير مكتمل إذا لم نذكر الاضطهاد الخطير الذي يعاني منه السكان المهاجرون، ولا سيما في البلدان الإمبريالية، وكذلك في البلدان شبه المستعمرة. هذه الفئة السكانية، التي تستمر في النمو وتشكل جزء مهما من الطبقة العاملة في هذه البلدان، تعاني من تمييز اجتماعي وسياسي وحشي، وتتعرض لهجوم عنصري وهجمات كراهية الأجانب على نطاق واسع، فهي قطاع يفتقر إلى الحد الأدنى من الحقوق، ويتعرض لخطر دائم للترحيل.
في هذه الوثيقة سنسعى إلى دراسة أسس نظريتنا من أجل ترسيخ البرنامج والمنهج الماركسيين لمحاربة اضطهاد القوميات والبلدان المضطهدة. منهجية ستساعد أيضا، من ناحية أخرى، على محاربة كل أشكال الاضطهاد التي نواجهها.

1- ماركس وإنجلز

من أجل فهم إسهاماتهما جيدا، من الضرورة أن نضع أنفسنا في المرحلة التاريخية للأسئلة التي حاولا الإجابة عليها، وأيضا أن نأخذ في عين الاعتبار نضج أفكارهما، والتي تم إثرائها تدريجيا من خلال التغييرات الجوهرية. هذا التطور كان ثابتا: من البيان الشيوعي للعام 1848، وثورات نفس العام، أو كتابات ماركس الأولى حوا الهند (1853)، إلى سياسته قبل الحرب الأهلية الأمريكية، والتحول المتعلق بالسياسة الايرلندية لعام 1867، أو مقدمة إلى النسخة الروسية للبيان الشيوعي لعام 1882.
النشاط السياسي والنظري لماركس وإنجلز كان خلال العاصفة الأوروبية الكبرى المتمثلة بثورات العام 1848، والحيوية الشديدة للأممية الأولى (1864-1876) – والتي حكمت كومونة باريس على نهايتها عام 1871 – وخلق الأممية الثانية عام 1889. ولم يتوقف حتى وفاتهما، حيث رحل ماركس عام 1883 وإنجلز عام 1895.
لقد كانت فترة تميزت بثلاث صيرورات عظيمة: نضال ديمقراطي عام في أوروبا (تم التعبير عنه في ثورات 1848) لوضع حد للأنظمة الاستبدادية وشبه الإقطاعية. وظهور البروليتاريا الأوروبية كقوة مستقلة، بالتوازي مع التطور الرأسمالي للقارة. وتطور التوسع الاستعماري الأوروبي الضخم.
النضال من أجل الثورة الديمقراطية في وجه بقايا الإقطاع تم التعبير عنه من قبل حراكات وطنية كبرى، مثل الحراك الألماني، الذي اتخذ نموذج الثورة الفرنسية للعام 1789 مرجعا له، وسعى إلى إنشاء فضاءات اقتصادية موحدة كبيرة، في ظل دولة وطنية واسعة، والتي كانت ضرورية لتطور الرأسمالية، ومعها تطور الطبقة العاملة نفسها. يجب أن يؤخذ في عين الاعتبار أن الخريطة الأوروبية في ذلك الوقت كانت مختلفة جذريا عن الخريطة الحالية: إننا نتحدث عن كونفدرالية ألمانية تتكون من 39 ولاية مختلفة، وإيطاليا كانت مقسمة إلى سبع ولايات مختلفة. في الواقع، التوحيد الكامل لألمانيا وإيطاليا لم يتم حتى العام 1871.
الحراكات الوطنية الديمقراطية البرجوازية واجهت رد فعل شرس من “الحلف المقدس” الاستبدادي، والذي تشكل بعد هزيمة نابليون، حيث كان يتألف من روسيا القيصرية، والإمبراطورية النمساوية المجرية، ومملكة بروسيا. روسيا القيصرية كانت، بالمطلق، القوة الرجعية العظمى في أوروبا في ذلك الوقت، والضامن الرئيسي للنظام شبه الإقطاعي. كما كتب إنجلز: “الإطاحة بالقيصرية، لسحق ذلك الكابوس الذي يثقل كاهل أوروبا كلها، هي، في رأينا، الشرط الأول لتحرر أمم وسط وشرق أوروبا”[1].
نضال الحراك العمالي تقارب مع تلك الحراكات الوطنية الديمقراطية خلال تلك الفترة. المهام الأكثر إلحاحا للثورة الألمانية تزامنت مع النضال من أجل وحدتها الوطنية، حيث كانت ألمانيا هي المحور الأكبر للثورة في وسط وشرق أوروبا. النضال من أجل توحيد بولندا واستقلالها كان أيضا، منذ الثورة الفرنسية، نقطة الالتقاء الأممي للحركة العمالية الأوروبية. كانت بولندا ذات أهمية إستراتيجية هائلة كونها كانت محتلة ومقسمة بين القوى الثلاث للحلف المقدس. كما أشار إنجلز: “إن تقسيم بولندا هو الأسمنت الذي يربط بين قوى الطغيان العسكرية الثلاثة العظمى: روسيا، وبروسيا، والنمسا. فقط إعادة تأسيس بولندا يمكن أن يكسر هذا الرابط وبالتالي يزيل أكبر عقبة أمام تحرر الشعوب الأوروبية”. وبنفس الطريقة[2] واجهت (الحراكات) المعركة من أجل وحدة واستقلال المجر وإيطاليا، حيث كانت الأخيرة تواجه الإمبراطورية النمساوية المجرية، التي احتلت لومباردي وفينيتو، مع بقاء الولايات البابوية.
لكن، كما أشار ماركس وإنجلز، لم تعد تجد نفسها في عام 1648 (الثورة الإنجليزية) أو في 1789-1994 (الثورة الفرنسية الكبرى)، أي وقت الثورات البرجوازية ضد الإقطاع. على العكس، فقد كانت أوروبا قد دخلت بالفعل حقبة الثورات البروليتارية، رغم أن الظروف الاقتصادية للاشتراكية كانت في البداية ناضجة تماما فقط في إنجلترا.
وبمجرد اندلاع ثورات 1848 في القارة، نشر ماركس وإنجلز في لندن البيان الشيوعي، حيث قاما بتعريف البروليتاريا بوصفها طبقة أممية لها نفس المصالح الطبقية في البلدان المختلفة (“العمال ليس لديهم وطن”). طبقة نضالها قومي “بشكله” ولكن ليس بمضمونه، نضال أممي كما هي الثورة البروليتارية.
ثورات 1848، التي شاركا فيها شخصيا في ألمانيا، كانت بالنسبة لماركس وإنجلز بداية فترة من الاضطرابات الثورية الكبرى التي كان من المفترض، بعد فترة وجيزة من السيطرة البرجوازية، أن تصل بالبروليتاريا إلى السلطة.
وهكذا، كتبا في المانفيستو: “يركز الشيوعيون اهتمامهم الرئيسي على ألمانيا، لأن ألمانيا على شفا ثورة برجوازية.. لا يمكن إلا أن تكون مقدمة مباشرة لثورة بروليتارية. صيرورة فهماها على أنها “ثورة دائمة”، كما أشار ماركس في رسالة اللجنة المركزية إلى عصبة الشيوعيين (آذار 1850).
الإيقاعات التاريخية، على أية حال، لم تصاحب توقعات ماركس وإنجلز. كما يشير تروتسكي في مؤلفه 90 عاما على البيان الشيوعي: “مؤلفا المانفيستو اعتقدا أنه يمكن التخلص من الرأسمالية قبل فترة طويلة من تحولها من نظام رجعي نسبيا إلى نظام رجعي بالمطلق”.

1.1_ ماركس وإنجلز، ثورات 1848 ومشكلة “شعوب بلا تاريخ”

لقد كافح ماركس وإنجلز بشدة ضد برودون لتجاهله النضال الوطني البولندي و”إنكاره” لمشكلة القومية باسم الادعاء المجرد بالثورة الاجتماعية. لكن خلال ثورات العام 1848، كانت مواجهتهما السياسية بشكل أساسي ضد باكونين، المدافع عن “مبدأ القوميات” و”القومية السلافية الديمقراطية”.
التفوق الواضح لماركس وإنجلز في جدالهما مع باكونين كان بفضل واقعيتهما الثورية في مواجهة الرومانسية الثورية لباكونين، وبسبب حقيقة أنهما كانا يقومان، في كل وقت، بإخضاع الحركات الوطنية للمصالح العامة للثورة الأوروبية. ولكن، كما كتب روزدولسكي[3]، “يجب تحقيق العدالة لباكونين، والاعتراف ليس فقط بذاتيته الثورية والتسوية الثورية، ولكن أيضا بالحدس الأسمى فيما يتعلق بالمستقبل التاريخي للشعوب السلافية، التي حكم عليها إنجلز بالاستيعاب والاختفاء القومي”.
كانت أضعف نقطة في معركة ماركس وإنجلز في ثورات 1848 هي نظرية “شعوب بلا تاريخ” التي دافع عنها إنجلز (والتي شاركها ماركس في الواقع): وهي نظرية موروثة عن هيجل تضمنت الشعوب السلافية النمساوية، ككل غير متمايز، (التشيك، والسلافيين الجنوبيينن، أي الكروات، والصرب ، والأوكرانيين، والسلوفاكيين، والبلغار، والرومانيين، والسلوفينيين …)، الذين أنكر حقهم في تقرير المصير القومي، الذي كان مخصصا لـ “الشعوب التاريخية” (ألمانيا، وإيطاليا، وبولندا، والمجر).
عندما تحالف السلاف النمساويون مع روسيا القيصرية، عام 1849، ضد الثورة المجرية، ومع آل هابسبورغ ضد الثورة في النمسا، قام إنجلز بلوم هذه الشعوب على الهزيمة، متهما إياها بخيانة الثورة “بدافع حب آمالها الوطنية الصغيرة”. وقد وصفها بأنها “شعوب بلا تاريخ”، و”شعوب رجعية”، حكم عليها ماضيها الخاص بالزوال، ليتم استيعابها من قبل الشعوب المتفوقة، التي جسدت التقدم والحضارة (في هذه الحالة، الألمان والهنغاريين).
كانت هذه الشعوب المدانة، وفقا لإنجلز: “مضيعة للشعوب، [التي] تكون في كل مرة _وتبقى كذلك حتى القضاء التام على الثورة المضادة أو تجريدها من القومية_ حملة متعصبة للثورة المضادة، تماما كما أن وجودها برمته، بشكل عام، هو بالفعل احتجاج ضد ثورة تاريخية عظيمة”[4]. قال إنجلز إنه من أجل إنقاذ الثورة، كان على هذه الشعوب “التخلي عن قوميتها”[5].
إننا نذكر كل هذا لفهم أن تطور الماركسية ليس عملية خطية. في الواقع، كانت مواقف إنجلز من “الشعوب غير التاريخية”، كما كتب روزدولسكي، “إرثا من المفهوم المثالي للتاريخ، وبالتالي جسما غريبا في الصرح النظري للماركسية”.
لفهم سبب دفاع إنجلز عن هذا المفهوم، من الضرورة أن نأخذ في الحسبان:
1/ الدور الرمكزي الذي كانت القيصرية تلعبه في ذلك الوقت كقوة ثورة مضادة كبرى في القارة. وبالتالي، كان يكن العداء الرهيب لكل من يتحالف معها لهزيمة الثورة.
2/ الدور الحاسم الذي نسبوه للثورة الألمانية في وسط وجنوب شرق أوروبا.
3/ الصلاحية بين ثوار زمن نموذج الثورة الفرنسية، حيث تم اعتبار فقدان السمات الوطنية لشعوب مثل الأوكسيتانية، أو البريتونية، “تعويضًا” عن اندماجها في حضارة “متفوقة” والتقدم التاريخي الذي أحدثته الثورة.
4/ إيمان ماركس وإنجلز الراسخ بقرب حدوث ثورة اجتماعية في أوروبا، والمفهوم الذي أبقيا عليه بعد ذلك، والذي وفقا له فإن الثورة الاجتماعية، من خلال وضع حد للاستغلال، ستؤدي تلقائيا تقريبا إلى اختفاء القمع والتناقضات القومية بين الشعوب.
يشير روزدولسكي أيضا إلى كيف أن مواقف إنجلز هذه تعكس كذلك مشكلة في فهم سبب هزيمة عام 1848. إنجلز ألقى باللوم على “الشعوب غير التاريخية”، ولكن السبب الرئيسي للهزيمة كان عجز البرجوازية الألمانية عن قيادة الثورة. “البرجوازية البروسية _كما كتب ماركس في نهاية العام 1848_ لم تكن مثل البرجوازية الفرنسية في العام 1789، الطبقة التي مثلت المجتمع الحديث بأسره ضد ممثلي المجتمع القديم: الملكية والنبلاء. انحدارا من اللحظة الأولى لخيانة الشعب، وإجراء التسوية مع ممثلي المجتمع القديم المتوجين، فإنها هي نفسها تنتمي بالفعل إلى المجتمع القديم”[6]. وبالمثل، كان حلفاؤها من طبقة النبلاء المتوسطة والصغيرة في بولندا والمجر غير مستعدين أيضا للتنازل عن امتيازاتهم للفلاحين السلافيين تحت حكمهم، ولا منحهم أية استقلالية، وبالتالي دفعهم إلى أحضان رد الفعل النمساوي. وفي الخلفية كان هناك عدم نضج الطبقة العاملة الألمانية.

2.1_ فرضية نظرية حتمية في البيان الشيوعي

اعتقاد ماركس الأولي كان، كما أشرنا من قبل، أن الثورة الاجتماعية ستقود، بشكل تلقائي تقريبا، إلى اختفاء التناقضات القومية. وكما يلاحظ نازارينو جوديرو[7]، فإن هذا النهج قد استند إلى فرضية نظرية خاطئة، والتي وفقا لها، فإن التطور الاقتصادي الرأسمالي لبلدان وسط أوروبا سوف يتكرر في البلدان المتخلفة، في كل من أوروبا والمستعمرات الخارجية.
في مقدمة النسخة الألمانية الأولى من “رأس المال”، كتب ماركس أن “البلدان الأكثر تطورا صناعيا” هي لتلك المتخلفة “مرآة مستقبلها القادم”. والتطور الرأسمالي، بدوره، من شأنه أن يلطف تدريجيا الخلافات والخصومات القومية. وفي النهاية، فإن الثورة البروليتارية القريبة في “البلدان المتحضرة” (أوروبا الغربية والوسطى) ستقوم أخيرا بحلها.
هذا كان قد ورد في البيان الشيوعي:
“العزلة القومية، والتناقضات بين الشعوب، ستختفي من يوم إلى آخر مع تطور البرجوازية، وحرية التجارة والسوق العالمية، ومع توحيد الإنتاج الصناعي وظروف العيش التي تتوافق معه. وهيمنة البروليتاريا ستجعلها تختفي حتى بسرعة أكبر. العمل المشترك، على الأقل بالنسبة للبلدان المتحضرة، هو أحد الشروط الأولى لتحررها.
بذات القدر الذي يتم فيه إلغاء استغلال فرد من قبل شخص آخر، فإن استغلال أمة من قبل أمة أخرى سيتم إلغاؤه. وفي نفس الوقت الذي يتلاشى فيه التناقض الطبقي داخل الأمم، فإن العداء بين الأمم نفسها سوف يختفي”.

3.1 نظرة مبدئية خاطئة للتوسع الاستعماري للرأسمالية

في هذه الصورة النظرية دخلت المستعمرات الأوروبية، ومن ثم في توسع كامل. في كتابه 90 عاما من البيان الشيوعي، أشار تروتسكي إلى أنه:
“رغم أنه يصف كيف تقوم الرأسمالية بجر البلدان البربرية والمتخلفة إلى دوامة اضطرابها، إلا أن البيان لا يحتوي على أية إشارة إلى نضال البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة من أجل استقلالها. منذ أن نظر ماركس وإنجلز إلى الثورة الاجتماعية _على الأقل في أهم البلدان المتحضرة_ على أنها مسألة يفترض حلها في بضعة سنوات، فإن المشكلة الاستعمارية، بالنسبة لهما، ستحل تلقائيا، وليس نتيجة لحراك مستقل للقوميات المضطهدة، بل نتيجة لانتصار البروليتاريا في المراكز الحضرية للرأسمالية. وبالتالي، فإن المانفيستو لا يتناول إطلاقا مسائل الاستراتيجية الثورية في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة”[8].
ماركس وإنجلز اعتقدا أن التوسع الاستعماري للرأسمالية الأوروبية، رغم الدمار الاقتصادي والجرائم الهائلة التي صاحبته، لعب بشكل موضوعي دورا “حضاريا”. لقد كتبا في البيان الشيوعي (1848): “البرجوازية تجر كافة الأمم في تيار الحضارة، حتى أكثرها بربرية”. وفي نفس السنة كتب إنجلز: “في أمريكا شهدنا غزو المكسيك، الأمر الذي أسعدنا (…) من مصلحة المكسيك من أجل تطورها أن تكون في المستقبل تحت وصاية الولايات المتحدة”[9]. وكتب ماركس في مقالته “الهيمنة البريطانية في الهند” (حزيران 1853): “ما هي المشكلة حول ما إذا كانت البشرية قادرة على إنجاز مهمتها دون ثورة شاملة في الحالة الاجتماعية في آسيا. إذا لم تكن قادرة على ذلك، إذا على كل جرائمها، فإن إنجلترا كانت أداة التاريخ اللاواعية في تنفيذ مثل هذه الثورة”.
هذا الموقف بدأ يتغير جوهريا في العام 1857 مع تمرد سيبوي في الهند، والثورة الصينية في حرب الأفيون الثانية، بدعم علني من ماركس. كما كتب جوستافو ماتشادو، منذ ذلك الحين، مع تركيز نيرانه على التنديد بالفظائع البريطانية، توقف ماركس عن عقد الأمل على أن الحكم البريطاني سيكون لديه أي شيء لتقديمه للهند بخلاف الوحدة السياسية، بعد أن أفقر الهند واستنزف ثرواتها دون تعويض[10]. في رسالته لفيرا زاسوليتش (1881) كان قد لخص: ” أما بالنسبة للهند الشرقية، على سبيل المثال، فإن العالم بأسره […] يعرف أن قمع الملكية العامة للأراضي لم يتجاوز فعل التخريب الإنجليزي، والذي لم يدفع الشعب الهندي الى الامام، بل إلى الخلف”. وبالمثل، في تناقض حاد مع ما كتبه إنجلز عام 1848، أشار ماركس في مقالاته حول الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) في صحيفة نيويورك ديلي تريبيون، إلى المحاولات الأمريكية للاستحواذ على كوبا، والبعثات ضد دول أمريكا الوسطى، أو الغزو السابق لشمال المكسيك، باعتبارها “هدفا واضحا (…) لغزو مناطق جديدة حتى تنتشر العبودية وحكم المستعبدين”.

4.1 موقف ماركس حول إيرلندا، نقطة تحول

في سياق هذا التطور، فإن موقف ماركس حول إيرلندا عام 1867 عدل جوهريا الموقف الذي كان يحتفظ به حتى ذلك الوقت. وقد كان علامة فارقة في تطور البرنامج والمنهج الماركسي في مواجهة الاضطهاد القومي. هذا الموقف يوفر الأساس الجوهري للاستراتيجية المتعلقة بالمسألة القومية التي سيعممها لينين لاحقا.
في رسالة كانون الأول 1869، أوضح ماركس موقفه لإنجلز على النحو التالي:
“اعتقدت لوقت طويل أنه سيكون من الممكن الإطاحة بالنظام الأيرلندي من خلال صعود الطبقة العاملة الإنجليزية. لقد عبرت عن هذا الرأي في صحيفة نيويورك تريبيون. دراسة أكثر تعمقا أقنعتني بالعكس تماما. الطبقة العاملة الإنجليزية لن تحقق أي شيء قبل أن تتخلص من أيرلندا”.
في مواجهة مشكلة أيرلندا، بدأ ماركس من الانقسام القاطع بين البلدان المضطهدة والبلدان التي تمارس الاضطهاد، وهو الانقسام الذي عممه لينين لاحقا على العالم الإمبريالي. إنقسام غريب تماما عن التعارض القديم بين “الأمم التاريخية” و”الأمم غير التاريخية” لعام 1848. وبالتالي، حدد ماركس سياسة المبادئ التي تمت صياغتها في شعار: “لا يمكن لشعب يضطهد غيره أن يحرر نفسه”، والذي حوله لينين فيما بعد إلى معركة الماركسية في مواجهة الاضطهاد القومي والاستعماري. التحرر الوطني لأيرلندا، البلد المتخلف (مستعمرة زراعية للرأسمالية الإنجليزية)، لم يعد نتيجة للثورة البروليتارية في إنجلترا، وأصبح العنصر المركزي للثورة الإنجليزية نفسها، ولإيجاد معناها الكامل كجزء لا يتجزأ من الثورة الأوروبية والعالمية:
“إن إنجلترا، بصفتها عاصمة لرأس المال، كقوة تهيمن حاليا على السوق العالمي، هي في الوقت الحالي أهم بلد للثورة العمالية، وهي أيضا البلد الوحيد الذي تطورت فيه الظروف المادية لهذه الثورة إلى درجة معينة من النضج. لذا، فإن المهمة الأكثر أهمية لرابطة العمال الأممية هي تسريع الثورة الاجتماعية في إنجلترا. والطريقة الوحيدة لتسريعها هي تحقيق استقلال إيرلندا. لذلك فإن مهمة الأممية هي إبراز الصراع بين إنجلترا وايرلندا، والوقوف علانية إلى جانب ايرلندا، في كل مكان (…) الضربة الحاسمة ضد الطبقات الحاكمة في إنجلترا (والتي تعد حاسمة بالنسبة لحراك العمال في كافة أنحاء العالم) يمكن توجيهها فقط في إيرلندا، وليس في إنجلترا”[11].
شدد ماركس على أنه إذا كان “السر الذي تحتفظ من خلاله الطبقة الرأسمالية بقوتها” هو الانقسام بين العمال البريطانيين والأيرلنديين، فإن تحقيق وحدتهم لن يكون ممكنا إلا عبر النضال المشترك ضد الاضطهاد القومي لإيرلندا:
“كل المراكز الصناعية والتجارية لإنجلترا الآن لديها طبقة عاملة منقسمة إلى معسكري أعداء: البروليتاريا الإنجليزية والبروليتاريا الإيرلندية. العامل الإنجليزي العادي يكره العامل الأيرلندي باعتباره منافسا يقلل من مستوى المعيشة، ويشعر، أمامه، بأنه من الأمة المهيمنة، ويصبح، لهذا السبب تحديدا، أداة لملاك أراضيها ورأسمالييها ضد إيرلندا، وبالتالي لتعزيز الهيمنة التي يمارسونها عليها. لديه تحيزات دينية واجتماعية ووطنية تجاهه. إنه يتصرف أمامه، بشكل أو بآخر، كالبيض الفقراء تجاه السود في دول العبودية السابقة للاتحاد الأمريكي. والإيرلندي يرد له ذات الصاع. إنه يرى العامل الإنجليزي كشريك وأداة غبية للحكم الإنجليزي في إيرلندا. هذا العداء هو السر الذي يفسر عجز الطبقة العاملة الإنجليزية على الرغم من تنظيمها. إنه السر الذي تحتفظ عبره الطبقة الرأسمالية بقوتها”[12].
“لا يمكن فعل أي شيء حاسم في إنجلترا، عندما يتعلق الأمر بإيرلندا، دون أن تقوم الطبقة العاملة أولا بفصل نفسها نهائيا عن سياسات الطبقة الحاكمة. دون تحقيق قضية مشتركة مع الإيرلنديين، والقيام واقعيا بمبادرة لحل الاتحاد الذي تأسس عام 1801، واستبداله برابطة فيدرالية حرة. وهذا يجب أن يتم، ليس كمسألة تضامن مع إيرلندا، بل كمطلب لمصالح البروليتاريا الإنجليزية. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فسيبقى الشعب الإنجليزي مرتبطا بمصالح الطبقات الحاكمة، لأنه سيكون عليه الانضمام إليها في جبهة مشتركة ضد إيرلندا”[13].

“الشرط المسبق لتحرير الطبقة العاملة الإنجليزية هو تحويل الاتحاد القسري (أي استعباد إيرلندا) إلى اتحاد كونفدرالي حر ومتساوي، إذا كان ذلك ممكنا، أو إلى انفصال تام، إذا اقتضى الأمر”[14].

تجدر الإشارة هنا إلى أهمية الموقف الذي اتخذه ماركس وإنجلز في الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) في تطورهما إلى التحول بشأن إيرلندا. مثلما رفع ماركس، عام 1867، شعار “شعب يضطهد غيره لا يستطيع أن يحرر نفسه”، قبل ثلاث سنوات، في تشرين الثاني 1864، في الرسالة التي وجهها إلى لينكولن نيابة عن الأممية الأولى، كتب: “بينما قام العمال، القوة السياسية الحقيقية في الشمال، بالسماح للعبودية بتلويث جمهوريتهم (…) كانوا غير قادرين على الكفاح من أجل التحرر الحقيقي للعمال، أو دعم النضال التحرري لأخوتهم الأوروبيين”.وبعد ثلاث سنوات، قام بصياغة هذه الفكرة في كتاب رأس المال: “العمالة ذات البشرة البيضاء لا يمكنها تحرير نفسها حيث يتم وسم البشرة السوداء”.

5.1 تصور غريب عن الفرضيات الحتمية للعام 1848

النضج النظري لماركس، المرتبط بالأحداث الكبرى للصراع الطبقي، قاده، خاصة منذ عام 1867 حتى وفاته في العام 1883، إلى رفض صريح لأية محاولة “لتحويل الرسم التاريخي حول أصول الرأسمالية في أوروبا الغربية إلى نظرية فلسفية تاريخية حول المسار العام الذي يستهدف كل الشعوب بشكل قاتل، مهما كانت الظروف التاريخية التي ترافقها”[15]. كان رفض هذه “الماركسية” الحتمية (التي ستصبح لاحقا أحفورة في الأممية الثانية، لتكون فيما بعد العقيدة الرسمية للستالينية) هو ما قاده في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر إلى القول إن “كل ما أعرفه هو أنني لست ماركسيا”[16].
بعد هزيمة كومونة باريس، لم تعد آماله في اندلاع هبة ثورية جديدة معقودة على بلدان أوروبا الغربية، بل على روسيا. في تلك الفترة، اعتبر أن فتيل الثورة الاجتماعية في أوروبا الغربية لن يأتي إلا من الثورة الزراعية في روسيا. هذا الاهتمام قاده إلى تكريس سنوات عديدة من دراسة الريف الروسي.
استنتاجات هذه الدراسات تمت ترجمتها إلى المقدمة التي كتبها هو وإنجلز للطبعة الروسية الثانية للبيان الشيوعي عام 1882 (العام الذي سبق وفاة ماركس). في هذه المقدمة تساءلا ما إذا كان “المجتمع الريفي الروسي [الذي، وفقا لدراسات ماركس، لايزال رغم أزمته يشمل أكثر من نصف الريف الروسي] يمكن أن ينتقل مباشرة إلى الشكل الأعلى للملكية الجماعية، إلى الشكل الشيوعي، أو ما إذا كان على العكس، عليه أن يمر أولا بنفس عملية التفكك التي تشكل التطور التاريخي للغرب”. وأجابا بأن “الإجابة الوحيدة التي يمكن تقديمها لهذا السؤال هي: إذا قدمت الثورة الروسية مؤشر الثورة البروليتارية في الغرب، حتى تكمل الاثنتين بعضهما، يمكن للملكية المشتركة الحالية للأرض في روسيا أن تكون بمثابة نقطة انطلاق للتطور الشيوعي”.
ليس هناك أي أثر هنا لأي مخطط حتمي بأن التطور الرأسمالي لأوروبا الغربية سيتكرر في البلدان المتخلفة، أو فيما يتعلق بالفكرة ذات الصلة بأن التناقضات القومية ستختفي مع تطور الرأسمالية. الواقع التاريخي كشف زيف الفرضية الواردة في البيان الشيوعي عام 1848. ميلاد الرأسمالية الذي استند إلى مصادرة الملكية الأصلية، والامساواة، والعنف، وما لحق هذا من تطورات، والتي بلغت ذروتها في الإمبريالية، سيقوم تحديدا على عدم المساواة بين الشعوب، وعلى الاضطهاد القومي.

الأممية الثانية
بعد وفاة إنجلز عام 1895، كانت الأممية الثانية غير مستعدة لمواجهة ظهور المشكلات القومية والاستعمارية التي كان من المفترض أن يثيرها التطور الرأسمالي. النصوص المركزية، مثل نصوص ماركس عن أيرلندا، لم تكن قد تمت قراءتها على نطاق واسع حتى عام 1913.
حتى نهاية القرن التاسع عشر، كان ما يهيمن داخل الأممية الثانية هو اللامبالاة ورفض معالجة المشاكل الوطنية والاستعمارية على هذا النحو. بالنسبة للأممية الثانية، “كان العالم موجودا فقط داخل حدود أوروبا”. “اللامبالاة القومية”، المرتبطة بتصور عمالي منغلق، كان قد تم تعريفها على أنها مرادفة لـ “الأممية البروليتارية”. المشاكل القومية كان قد تم اختزالها في أوروبا إلى مشاكل ثقافية، والاضطهاد الاستعماري تم تجاهله خارج حدود الاعتبارات الإنسانية البحتة[17]. حتى العام 1896، تم تقليص المشكلة القومية إلى نطاق كل حزب، والتي كانت متواجدة في الدول متعددة القوميات، والخاضعة بشكل أساسي لمشكلة الوحدة التنظيمية في الحزب والنقابة.
المشاكل القومية تم التعبير عنها بشكل متفاوت من حيث الشدة والمدة. في الإمبراطورية النمساوية-المجرية، اكتسبت قوتها منذ منتصف القرن التاسع عشر، حيث قفزت التوترات القومية الداخلية إلى إيقاع الاضطرابات الديموغرافية والاجتماعية الكبرى، والامساواة الإقليمية، والاستغلال الفائق للأقليات القومية غير الألمانية.
مقاومة “الاستيعاب الثقافي” [فقدان ثقافة المرء لصالح الثقافة السائدة] كانت إحدى المطالب الكبرى للحركة العمالية النمساوية المجرية. في روسيا، لم تنفجر المشكلة القومية حتى عام 1905. ولكن بمجرد أن حدث ذلك، بقوة كبيرة، حملت بدورها الجدال حول هذه المسألة على الانفجار في الأممية الثانية.
في هذا السياق العام، كان كاوتسكي هو أول من تولى، بعد وفاة إنجلز، مهمة تحديث “المفاهيم القديمة”. في الواقع، كان هذا “التحديث”، معركته ضد التيار الاشتراكي للحزب الألماني وضد الأطروحات الماركسية النمساوية، أساسا لدعم أعمال لينين اللاحقة”.
الأممية الثانية تناولت المسألة على هذا النحو مرتين فقط: في مؤتمر لندن (1896)، الذي سبقه النقاش حول بولندا، وفي مؤتمر شتوتغارت (1907). أقر مؤتمر لندن القرار الشهير، الذي اقترحه كاوتسكي، والذي بموجبه تقوم الأممية بـ:
“بالاحتفاظ بالحق المطلق لكافة الأمم في” تقرير المصير”، وتعرب عن تعاطفها مع عمال كل البلدان، والذين يعانون حاليا من نير الاستبداد القومي والعسكري، أو أي نوع آخر من الاستبداد. المؤتمر يحرض عمال كل هذه البلدان على الدخول في صفوف العمال الواعين في كافة أنحاء العالم للنضال معهم من أجل قمع الرأسمالية العالمية وتحقيق أهداف الاشتراكية الديموقراطية”.
القرار يتحرك ضمن المبادئ الماركسية، رغم أنه يحمل “العلامة” الكاوتسكية للتعريفات المجردة، التي لا تحل في مصطلحات ملموسة. لينين، في أطروحاته للعام 1916، واصل المطالبة بإرث القرار، هذه المرة فقط، بعد خيانة الأممية الثانية في الحرب العالمية الأولى، وقد فعل هذا عبر إدانة “الاعتراف غير المنطقي، والخطابي البحت، وبالتالي المنافق، في أهميته السياسية، في تقرير المصير، والذي قام به الانتهازيون والكاوتسكيون”.
وفي تفصيله لهذا النقد الموجه إلى كاوتسكي والكاوتسكيين بعد العام 1914 يتابع لينين:
“إنهم مع الوحدة [مع الاشتراكيين الشوفينيين] وهم في الواقع يتفقون معهم تماما في الدفاع عن الحق في تقرير المصير بطريقة منافقة وبلاغية محضة: إنهم ينظرون حول “تهور” (كاوتسكي في مجلة العصر الجديد، العدد 21 أيار 1915) المطالبة بحرية الانفصال السياسي، ولا يتمسكون بالحاجة إلى التكتيكات الثورية لاشتراكيي الأمم المضطهدة، بل على العكس، يخفون التزاماتهم الثورية، ويبررون انتهازيتهم، ويسهلون خداعهم من الشعب، ويتهربون من مشكلة حدود الدولة التي تبقي قسرا أمما محرومة من الحقوق تحت هيمنتها.. الخ”.
كان مؤتمر شتوتغارت (1907) مسرحا لمعركة مريرة أظهرت فيها الشوفينية الموالية للإمبريالية التأثير الهائل الذي اكتسبته في الأممية الثانية. كان فان كول، أحد أفضل ممثلي هذا التيار، قد دافع بالفعل في مؤتمر أمستردام (1904) عن فكرة أن تحرير المستعمرات كان مساويا لـ “التخلي عن طفل مجنون أو فاقد للوعي لا يستطيع الاستغناء عن مساعدتنا؛ ما سيجعله ضحية للاستغلال المفرط أو لهيمنة الآخرين. كما قدم فان كول، مستخدما عدة اقتباسات من إنجلز للدفاع عن مواقفه، قرارا في شتوتغارت (دافع عنه الحزبان الألماني والفرنسي)، يعد “الهيمنة على الشعوب المتخلفة من قبل الشعوب المتقدمة، والحفاظ على المستعمرات في ظل نظام ألطف، مقبولا كحقيقة طبيعية”[18]. هذا القرار سيئ السمعة فاز بأغلبية الأصوات في المفوضية، على الرغم من رفضه في وقت لاحق من قبل الكونغرس بهامش أصوات ضئيل للغاية. ويشير أندرو نين، مع ذلك، إلى كيف أن “قرار الأغلبية، على أي حال، حتى مع اتسامه بإدانة شديدة للغاية لأساليب الاضطهاد الاستعماري والقومي، لم يشر _على الطريقة الكاوتسكية_ إلى صيغة تحرير واضحة ملموسة لا لبس فيها”.

2.2 الماركسية النمساوية

الماركسية النمساوية، التي تزعمها كارل رينر وأوتو باور، كانت النسخة الأكثر سخافة للانتهازية الوطنية في الأممية الثانية. مواجهة حق تقرير المصير، دافعت عن “الاستقلال الثقافي القومي” للقوميات الخاضعة للنظام الملكي النمساوي المجري، على أن تتكون هذه الاستقلالية من “شركات القانون العام”، بحيث يتم تسجيل مواطني مختلف مناطق الإمبراطورية وفقا لاختيارهم الشخصي (رغم أنه، كما يشير روسدولسكي، ستبقى موارد الدولة في أيدي الألمان: الجامعات، على سبيل المثال، ستكون ألمانية وإداراتها ستكون ألمانية أيضا).
لينين عارض هذا التيار بشدة. المؤتمر البلشفي لنيسان 1917 كان حاسما في قراره حول المشكلة القومية:
“يرفض بحزم ما يسمى بـ “الاستقلال الثقافي القومي”، والذي يتمثل في إخراج الشؤون المدرسية، وما إلى ذلك، من اختصاص الدولة من أجل وضعها في أيدي نوع من الحميات القومية. هذه الخطة تخلق حدودا مصطنعة بين العمال الذين يعيشون في نفس المنطقة، والذين يعملون حتى في نفس الشركة، وفقا لانتمائهم إلى “ثقافة قومية” ما. أي أنها تعزز الروابط ما بين العمال والثقافة البرجوازية لكل أمة على حدة، في حين أن مهمة الديموقراطية الاشتراكية هي تعزيز الثقافة الأممية للبروليتاريا في العالم بأسره”.
تروتسكي، في كتابه تاريخ الثورة الروسية، كتب تلخيصا ممتازا حول هذا التيار:
“بينما كانت البلشفية موجهة نحو انفجار الثورات الوطنية (…) وثقفت العمال التقدميين عبر هذا المنظور، كانت الاشتراكية الديموقراطية [النمساوية]، التي تكيفت بخنوع مع سياسات الطبقات الحاكمة، تدافع عن التعايش القسري بين عشرة أمم في الموناركية النمساوية المجرية، وكانت في ذات الوقت عاجزة تماما عن إدراك الوحدة الثورية للعمال من مختلف الأمم، عازلين إياهم عاموديا في الحزب والنقابات”.

111 لينين

“مهما كان المصير القادم لروسيا السوفياتية –وهو لا يزال بعيد المدى – فإن سياسة لينين القومية ستدخل تراث البشرية إلى الأبد” (تاريخ الثورة الروسية، ليون تروتسكي، 1930).
يعود الفضل إلى لينين في “تطوير استراتيجية ثورية للقوميات المضطهدة” تتناسب مع الحقبة الإمبريالية الجديدة، المتسمة بهيمنة رأس المال المالي، وبسياسة القمع، والضم، والحروب التي تنتهجها، ومع ظهور الحركات الوطنية في البلدان المستعمرة والمضطهدة”[19].
كان لينين قادرا على القيام بذلك لأنه اعتمد على إرث ماركس الهائل، ولا سيما سياسته تجاه
إيرلندا، وعلى الدور الحاسم للنضال من أجل التحرر الوطني في الثورة الروسية، وعلى جداله الطويل والحاد مع التيارات الأخرى في الأممية الثانية.
ومع ذلك، فقد كان بعد ثورة أكتوبر، بالتوازي مع بناء الأممية الثالثة، حين أعطى لينين وتروتسكي العمق والأهمية العالمية لمشكلة الاستعمار، التي كانت قد فرضتها الحرب العالمية الأولى آنذاك. حتى ذلك الوقت، كانت المشكلة القومية محصورة بشكل أساسي في الثورتين الروسية والأوروبية.
بهذا المعنى، وفقا لما سنراه لاحقا فيما يتعلق بـ “أطروحات الشرق” للمؤتمر الرابع للكومنترن، وتجربة الثورة الصينية لعام 1927، علينا أن نقول أنه، في الحقيقة، عندما وجدت الاستراتيجية اللينينية ضد الاضطهاد القومي توفيقا نهائيا كانت في إطار البرنامج النظري للثورة الدائمة، كما صاغه تروتسكي في 1927-1929، بعد تجربة الثورة الصينية.

1.3 الأمم التي تمارس الاضطهاد والأمم المضطهدة

نقطة البداية والأساس للبرنامج اللينيني، تكمن في الاستمرارية المباشرة مع ماركس حول أيرلندا، والاعتراف بـ “تقسيم الأمم إلى أمم تقوم بالاضطهاد وأخرى تتعرض له، باعتبار ذلك حقيقة أساسية وجوهرية وحتمية في ظل الإمبريالية”. على فراش الموت، في واحدة من آخر معاركه العظيمة، في مواجهة القومية الروسية الكبرى لستالين في جورجيا، كرر لينين بقوة أن[20]:
“المقاربة المجردة لمشكلة القومية بشكل عام غير مجدية. من الضروري التمييز بين قومية الأمة الظالمة وقومية الأمة المضطهدة، بين قومية الأمة العظيمة وقومية الأمة الصغيرة”[21].
ضمن هذه الصورة العامة قال لينين:
“هناك ثلاثة أنواع من البلدان فيما يتعلق بتقرير مصير الأمم. أولا، “البلدان الرأسمالية المتقدمة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. الحركات القومية البرجوازية التقدمية استنزفت فيها منذ زمن بعيد [والآن] كل من هذه الأمم “العظيمة” تضطهد الآخرين في المستعمرات وداخل بلدانها. ثانيا، هناك الدول متعددة القوميات في أوروبا الشرقية: النمسا، والبلقان، وروسيا بشكل خاص، وثالثا الدول شبه المستعمرة، مثل الصين، وبلاد فارس، وتركيا، وكافة المستعمرات، في المجمل نحو 1 مليار نسمة [حيث] الحركات البرجوازية الديمقراطية… ما زالت في مهدها”[22].
من المثير للاهتمام ملاحظة أن هذا التصنيف (الذي تجدر الإشارة إلى أنه كان يفقد وجود أمريكا الجنوبية) لم يكن الأساس لإنشاء فئات برامجية متمايزة لكل نمط من الدول. في “تقييم المناقشة حول تقرير المصير” (تشرين الأول 1916)، قام لينين حتى بصياغة قسم سادس بعنوان “هل يمكن للمستعمرات أن تعارض أوروبا بشأن هذه المسألة؟”، مكرس لمواجهة أطروحات روزا لوكسمبورغ في هذا الصدد. كتب إن:
“المطالبة بتحرير المستعمرات ليست أكثر من “اعتراف بتقرير المصير للأمم”. الرفاق البولنديون لم يقوموا بالرد على أي من هذه الحجج. لقد حاولوا إقامة فرق بين أوروبا والمستعمرات. هم دعاة ضم غير منطقيين لأوروبا فقط، رافضين إلغاء عمليات الضم لأنه قد تم تنفيذها بالفعل. بالنسبة للمستعمرات يعلنون مطلبا مطلقا: “الخروج من المستعمرات!”.
وعلى نفس المنوال، في “كاريكاتير الماركسية والاقتصاد الإمبريالي” (1916) يقول: “لقد أشرنا في أطروحاتنا إلى أن تحرير المستعمرات يعني تقرير مصير الأمم. وغالبا ما ينسى الأوروبيون أن الشعوب المستعمرة هي أيضا من الأمم”.
أي أن النضال من أجل حق تقرير المصير للشعوب المضطهدة، أي حقها في الاستقلال عن الأمة التي تضطهدها، هو نضال عالمي من أجل تحررها الوطني الكامل، والذي يتخذ بالطبع تعبيرات ملموسة متمايزة في أماكن وظروف تاريخية مختلفة.

2.3 النضال من أجل حق تقرير المصير والمطالب الديمقراطية. لينين ضد الاقتصادوية

لينين لم يعارض على الإطلاق النضال من أجل الحقوق الديمقراطية خلال النضال من أجل الإشتراكية. لقد جادل بعكس ذلك تماما:
“الاشتراكية المنتصرة يجب أن تحقق بالضرورة الديمقراطية الكاملة، لذا، لا ينبغي أن تطبق فقط المساواة المطلقة في الحقوق بين الأمم، بل أيضا يجب أن تلبي حق الدول المضطهدة في تقرير المصير، أي الحق في الانفصال السياسي الحر”. (أطروحة).
“سيكون من الخطأ تماما الاعتقاد بأن النضال من أجل الديمقراطية يمكن أن يصرف انتباه البروليتاريا عن الثورة الاشتراكية، أو يقصيها، أو يؤجلها، إلخ. على العكس من ذلك، فكما أن الاشتراكية المنتصرة التي لم تحقق الديمقراطية الكاملة مستحيلة، فلا يمكن للبروليتاريا أن تستعد للنصر على البرجوازية إذا لم تخض نضالا ثوريا عاما ومتسقا من أجل الديمقراطية”. (أطروحة).
فكرة أن شعار الثورة الاشتراكية يمكن “حجبها” إذا كان الأمر يتعلق بموقف ثوري ثابت حول أية مسألة، بما في ذلك المسألة القومية، هي فكرة مناهضة للماركسية بعمق”.
“الثورة الاشتراكية قد تندلع ليس فقط نتيجة لإضراب كبير، أو مظاهرة في الشارع، أو نتيجة لشغب الجياع، أو انتفاضة عسكرية، أو انتفاضة ضد الاستعمار، بل أيضا نتيجة لأية أزمة سياسية، كقضية دريفوس، أو حادثة سافيرن، أو استفتاء على انفصال أمة مضطهدة.. إلخ”. (أطروحة).
“الاقتصاديون” القدامى، الذين حولوا الماركسية إلى رسم كاريكاتوري، علموا العمال أنه بالنسبة للماركسيين فإن الجانب “الاقتصادي” “فقط” هو المهم.
“الاقتصاديون” المتوفون والمفقودون هم فقط من اعتقدوا أن شعارات حزب العمال موجهة إلى العمال فقط. كلا، هذه الشعارات موجهة إلى كل السكان العاملين، إلى الشعب بأسره”.
“من يتوقع ثورة اجتماعية “نقية” لن يراها أبدا. سيكون ثوريا بالكلام فقط، لا يفهم معنى الثورة الحقيقية. الثورة الاشتراكية في أوروبا لا يمكن أن تكون سوى انفجار للنضال الجماهيري لكل مضطهد وساخط”.

3.3 النضال من أجل تقرير المصير كجزء من النضال من أجل الثورة الأممية التي يخضع لها

بالنسبة للينين، فإن النضال من أجل تحرير القوميات المضطهدة والشعوب المستعمرة هو عنصر أساسي للثورة الاشتراكية العالمية، والتي هي “ليست نتيجة فعل فرد، ولا معركة كتيبة على جبهة منزعلة، بل تراكمات حقبة كاملة من التناقضات الطبقية الحادة، سلسلة طويلة من المعارك على كل الجبهات، المتعلقة بكل المشاكل الاقتصادية والسياسية.. معارك لا يمكن أن تتوج إلا بمصادرة أملاك البرجوازية”. (أطروحة).
وبنفس الطريقة، فإن “مطلب الديمقراطية في أوروبا لا بد من مراعاته (والآن يجب قول ذلك على نطاق عالمي)، وليس بشكل منعزل.. كي يكون المرء ديمقراطيا اشتراكيا أمميا، عليه ألا يفكر في أمته فحسب، بل أن يضع فوق ذلك مصالح كافة الأمم.. الحرية والمساواة في الحقوق للجميع”.
وفي ذات الوقت، نادى بالحاجة إلى استكمال قرار المؤتمر الاشتراكي في لندن للعام 1896، إلى جانب قضايا أخرى، مع المؤشرات التالية: “السمة السياسية الشرطية والمحتوى الطبقي لكل مطالب الديمقراطية السياسية، بما في ذلك تقرير المصير”و”ضرورة إخضاع النضال من أجل تقرير المصير، وكذلك من أجل كافة المطالب الأساسية للديمقراطية السياسية، للنضال الثوري المباشر للجماهير من أجل الإطاحة بالحكومات البرجوازية، ومن أجل تحقيق الاشتراكية”. (أطروحة).
من الأمثلة المثيرة للإعجاب على كيفية تعامله مع مشكلة حقوق القوميات وعلاقتها باحتياجات الثورة الأممية، هي الإجراءات التي اقترح اتخاذها، عندما كان مريضا للغاية (1922)، (دون جدوى)، في مواجهة الوضع الذي خلقته أعمال ستالين الوحشية في جورجيا. إضافة إلى العقوبات النموذجية للمسؤولين عن اقترافها، وسن أكثر القوانين صرامة للدفاع عن حق استخدام اللغة الوطنية للجمهوريات، والامتثال الصارم لهذه القوانين. كما لم يتردد لينين في اقتراح ضرورة مراجعة وضع الاتحاد، والنظر في استصواب “الذهاب إلى المؤتمر القادم للسوفييتات بفكرة الحفاظ على اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في المجال العسكري والدبلوماسي، والجوانب الأخرى، والقيام باستعادة الاستقلال الكامل للمفوضيات الشعبية المختلفة”[23]، والسعي لفترة من الوقت لتطبيق المعايير ليس من خلال جهاز الدولة، بل من خلال سلطة الحزب، بكل “ما يلزم من نزاهة وحيادية”.
أسباب تصرفات لينين كانت قوية: الموجة الثورية التي كانت قد ظهرت في الشرق _بمجرد أن هدأت الأزمة الثورية في الغرب وأعيد بناء الرأسمالية مؤقتا_ كانت ستصبح خلال المرحلة التالية نقطة القوة الرئيسية لدعم الاتحاد السوفييتي والثورة الأممية. لذا، “سيكون انتهازية لا تغتفر أن نقوم، عشية هذا العمل في الشرق وبداية يقظته، بتحطيم مكانتنا هناك، ولو بأدنى قدر من القسوة والظلم تجاه قومياتنا غير الروسية”.

4.3 تكتيكات حول الأمة التي تمارس الاضطهاد والأمة المضطهدة

بالنسبة للينين، كانت المعركة من أجل حق تقرير المصير شرطا أساسيا لبناء وحدة الطبقة العاملة والأخوة بين الشعوب:
“إن اعتراف البروليتاريا بحق الأمم في الانفصال هو الشيء الوحيد الذي يضمن التضامن الكامل لعمال الأمم المختلفة ويسهل التقارب الديمقراطي الحقيقي بينها”. (أطروحة).
الآن، يتم التعبير عن النضال من أجل الحق في تقرير المصير سياسيا بطرق متباينة وفقا لما إذا كانت الأمة تقوم بالاضطهاد أو تتعرض له. علينا أيضا أن نأخذ في عين الاعتبار، في مواجهة التحيز المشترك، أن حقيقة كوننا أمة مضطهدة لا تعني بالضرورة أنها أفقر الأمم وأكثرها تخلفا. في روسيا، مثلا، “غالبا ما يكون تطور الرأسمالية والمستوى العام للثقافة أعلى في المحيط منه في وسط الدولة”[24].
“بروليتاريا الأمم التي تمارس الاضطهاد”، يقول لينين، “لا تستطيع أن تختزل نفسها في النطق بعبارات نمطية عامة ضد عمليات الضم، ومن أجل الحقوق المتساوية للأمم بشكل عام، عبارات يرددها أي برجوازي سلمي. لا يمكن للبروليتاريا أن تسكت المشكلة، ولا سيما المشكلة “غير السارة” للبرجوازية الإمبريالية فيما يتعلق بحدود الدولة القائمة على الاضطهاد القومي. لا يمكن للبروليتاريا أن تتوانى عن النضال ضد الإبقاء الإجباري على الأمم المضطهدة داخل حدود دولة معينة، وهذا تحديدا يعادل النضال من أجل حق تقرير المصير. على البروليتاريا أن تطالب بحرية الانفصال السياسي للمستعمرات، وعن الأمم التي تضطهدها “أمتهم”. عدا ذلك ستكون الأممية البروليتارية مجرد كلمة فارغة، ولن تكون هناك إمكانية للثقة ولا للتضامن الطبقي بين عمال الأمة المضطهدة والأمة القمعية”. (أطروحة). موقفه لم يترك مجالا للغموض. “لدينا الحق، وعلينا واجب اعتبار أي إشتراكي ديمقراطي، من أمة تقوم بالاضطهاد، لا يضطلع بمثل هذه البروباغاندا [لصالح تقرير المصير]، وغدا إمبرياليا. هذا مطلب غير مشروط”[25].
يقول لينين محذرا “المصلحة الحيوية للتضامن البروليتاري، وبالتالي للنضال الطبقي البروليتاري، تتطلب ألا ننظر أبدا إلى المشكلة القومية بشكل رسمي، وأن نأخذ دائما في عين الاعتبار الاختلاف الإجباري في موقف بروليتاري أمة مضطهدة (أو صغيرة) تجاه أمة قمعية (أو كبيرة). ويتابع: “الأممية من جانب الأمة التي تقوم بالاضطهاد، أو ما يدعى بالأمة “العظيمة” (حتى وإن كانت عظيمة فقط بعنفها أو تبعيتها)، لا يجب اختزالها في مراعاة المساواة الرسمية بين الأمم.. المطلوب هو أكثر من المساواة الرسمية.. لا بد من القيام بالتعويض، بطريقة أو بأخرى، بمعاملتها أو تنازلاتها للأمم الأخرى، عن عدم الثقة والشك والجرائم التي أنتجتها في حكومات الأمة المهيمنة في الماضي”.
ثم ينتقل إلى الأمة المضطهدة: “على الديمقراطي الإشتراكي للأمة الصغيرة أن يرفع، كمركز ثقل لحملاته التحريضية، شعار صيغتنا العامة: “الوحدة الطوعية” بين الأمم. ودون أن يفشل في أداء مهماته بوصفه أمميا، يمكنه أن يعلن موقفه لصالح الاستقلال السياسي لأمته، ولصالح اندماجها في دولة س، أو ص، أو ع المجاورة. لكن عليه أن يكافح في كل الحالات ضد ضيق المعايير، والعزلة، والإقليمية للأمة الصغيرة، بحيث يتم أخذ الإجمالي والعام في الحسبان، عبر إخضاع المصلحة الخاصة للمصلحة العامة”.
“يجب على إشتراكيي الأمم المضطهدة أن يدافعوا ويحققوا بحماسة الوحدة الكاملة وغير المشروطة، بما في ذلك الوحدة التنظيمية، لعمال الأمة المضطهدة مع عمال الأمة التي تقوم بالاضطهاد. دون هذا لا يمكن الدفاع عن الاستقلالية السياسية للبروليتاريا، وتضامنها الطبقي مع بروليتاريا البلدان الأخرى، في مواجهة كل خدع وخيانات ودجل البرجوازية. بالنسبة لبرجوازية الأمم المضطهدة فهي دائما ما تحول شعارات التحرر الوطني إلى خداع للعمال: في السياسة الداخلية تستخدم هذه الشعارات لاتفاقيات رجعية مع برجوازية الأمم المهيمنة (على سبيل المثال قطبي النمسا وروسيا، اللتين دخلتا في تسوية نتيج عنها قمع اليهود والأوكرانيين). وفي السياسة الخارجية تحاول الدخول في مفاوضات مع إحدى القوى الإمبريالية المتنافسة، لتحقيق أهدافها في النهب (سياسة دول البلقان الصغيرة ، إلخ)”. (أطروحة).
يطرح لينين النقطة التالية: “بالنسبة للأشخاص الذين لم يتغلغلوا في المشكلة، يبدو أنه من “التناقض” أن يطالب الاشتراكيون الديمقراطيون في الدول التي تقوم بالاضطهاد بـ “حرية الانفصال” وأن يطالب الاشتراكيون الديمقراطيون في الدول المضطهدة بـ “حرية الوحدة”. ولكن بمجرد أن نفكر مليا، نرى أنه، نظرا للوضع القائم، لا يوجد ولا يمكن أن يكون هناك طريق آخر نحو الأممية واندماج الدول”.

5.3 الوحدة التنظيمية للطبقة العاملة في الدول متعددة القوميات

أحد الجوانب التي عارض فيها لينين والبلاشفة بشدة البوند والماركسيين النمساويين كان الدفاع عن الوحدة التنظيمية لبروليتاريا الدول متعددة القوميات، وعلى وجه الخصوص بين أمم الإمبراطورية القيصرية.
قرار مؤتمر نيسان 1917 بشأن المسألة الوطنية في هذا الصدد كان قاطعا:
“مصالح الطبقة العاملة تتطلب اندماج عمال كافة أمم روسيا في منظمات بروليتارية واحدة، وكذلك المنظمات السياسية كالنقابات، والتعاونيات، والمنظمات الثقافية، إلخ. فقط هذا الانصهار لعمال الأمم المختلفة في منظمات واحدة يمنح البروليتاريا إمكانية خوض نضال منتصر ضد رأس المال العالمي وضد القومية البرجوازية”.
بعيدا عن التناقض بين حق تقرير المصير والوحدة التنظيمية للطبقة العاملة لمختلف أمم الإمبراطورية الروسية، فإن كلا الجانبين يشكلان وجهين لا ينفصلان عن سياسة لينين. تروتسكي لخص ذلك ببراعة في كتابه تاريخ الثورة الروسية:
“المنظمة الثورية ليست النموذج الأولي للدولة المستقبلية، إنها فقط الأداة اللازمة لإنشائها. الأداة يجب أن تكون مناسبة لتصنيع المنتج، ولكن لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تجعله مشابها لها. فقط المنظمة المركزية يمكنها ضمان نجاح النضال الثوري، وعندما يتعلق الأمر بتدمير الاضطهاد المركزي للأمم”.

6.3 الحق في تقرير المصير والاستقلال

بالنسبة للينين فإن: “حق الأمم في تقرير المصير يعني حصريا حقها في الاستقلال بالمعنى السياسي: الحق في الانفصال السياسي الحر عن الأمة التي تضطهدها. (…) لذا، فإن هذا المطلب لا يعادل مطلقا مطالب الانفصال والتشرذم وتشكيل الدول الصغيرة، إنه يعني فقط التعبير المتسق عن النضال ضد كل اضطهاد قومي. كلما اقترب النظام الديمقراطي لدولة ما من الحرية الكاملة للانفصال، كلما ازدادت ندرة وضعف الميول للانفصالية من الناحية العملية، لأنه لا شك في المزايا التي تمنحها الدول الكبيرة، سواء من حيث التقدم الاقتصادي أو مصالح الجماهير، إضافة إلى ذلك فإن هذه المزايا تتزايد باستمرار مع نمو الرأسمالية.
الاعتراف بتقرير المصير لا يعادل الاعتراف بالفدرالية [ضمنيا الانفصال المسبق] كمبدأ. يمكن للمرء أن يكون معارضا حازما لهذا المبدأ ومؤيدا للمركزية الديمقراطية، لكنه يفضل الفيدرالية على عدم المساواة الوطنية، باعتبارها السبيل الوحيد إلى المركزية الديمقراطية الكاملة. من وجهة النظر هذه تحديدا، فضل ماركس، كونه مركزيا، فدرالية بين إيرلندا وإنجلترا عوضا عن خضوع ايرلندا القسري للإنجليز.
هدف الاشتراكية ليس فقط القضاء على تقسيم البشرية إلى دول صغيرة وعلى كل أشكال العزلة بين الأمم، وليس فقط التقارب المتبادل بين الأمم، بل أيضا اندماجها… مثلما لا يمكن للبشرية أن تصل إلى إلغاء القمع الطبقي إلا عبر الفترة الانتقالية لدكتاتورية الطبقة المضطهدة، كذلك لا يمكنها أن تصل إلى اندماج الأمم الحتمي إلا عبر الفترة الانتقالية للتحرر الكامل لكافة الأمم المضطهدة، أي حريتها في الانفصال”. (أطروحة).
رغم أن المبدأ العام للينين والبلاشفة كان يتعارض مع “الانفصال والتشرذم وتشكيل الدول الصغيرة”، إلا أنهم لم يجادلوا أبدا بأنه ينبغي تطبيق هذا المبدأ في كل الحالات، بصرف النظر عن الظروف التاريخية الملموسة. لذا، أعلن القرار الوطني الصادر عن مؤتمر نيسان 1917:
“الرغبة في انفصال أمة أو أخرى في هذا الوقت أو ذاك يجب أن تتم تلبيتها من قبل حزب البروليتاريا بطريقة مستقلة تماما في كل حالة ملموسة، من وجهة نظر المصالح المتعلقة بالتنمية الاجتماعية الكاملة، والنضال الطبقي للبروليتاريا من أجل الاشتراكية”.
وبتفصيل حول نفس المعيار، وجه لينين في عام 1919 رسالة إلى عمال وفلاحي أوكرانيا يقول فيها:
“يجب أن نكون حازمين وحاسمين في مواجهة كل ما يؤثر على المصالح الأساسية للعمال في نضالهم للتخلص من نير رأس المال. مشكلة ترسيم الحدود الآن، في الوقت الحاضر – لأننا نطمح إلى الإلغاء الكامل للحدود – ليست مشكلة أساسية ومهمة، بل مشكلة ثانوية. وفيما يتعلق بهذا الأمر يمكننا الانتظار، ويجب علينا الانتظار، لأن حالة اللاثقة الوطنية عادة ما تكون عنيدة للغاية في صفوف الجماهير العريضة من الفلاحين وصغار الملاك، وأي تسرع يمكن أن يبرزها، بعبارة أخرى، يضر بقضية الوحدة الكاملة والنهائية”[26].
في وقت سابق نقلنا عن لينين دفاعه عن “اندماج” الأمم. إن قول “الاندماج” لا يعني على الإطلاق “التوحيد” القومي، بل العكس. لذا، كتب لينين:
“إن التحول الناجم عن هزيمة البرجوازية العالمية، سيؤدي بدوره إلى تسريع انهيار كافة الحواجز الوطنية بنسب هائلة، دون أن يقلل ذلك، بل سيزيد بملايين المرات “تمايز” البشرية، بمعنى ثراء وتنوع الحياة الروحية، والتيارات، والتطلعات، والفروق الأيديولوجية الدقيقة”[27].

7.3 لينين ضد مواقف روزا لوكسمبورغ

كتب لينين جدالات قاسية حول منهج ومسار البرنامج ردا على مواقف روزا لوكسمبورغ والحزب الديمقراطي الاشتراكي لمملكة بولندا [الحزب الذي كانت تتزعمه]، والذي عارض علنا مطلب العام حق تقرير المصير، ليس فقط في لكن بولندا، بل ولكافة الجنسيات المضطهدة.
قبل الخوض في محتويات هذا الجدال، يجب أن نلاحظ أن قسوته لم تحل دون اعتراف لينين بأن روزا لوكسمبورغ والحزب الديمقراطي الاشتراكي لمملكة بولندا:
“من أفضل العناصر الأممية والثورية في الديمقراطية الاشتراكية الأممية”. بالنسبة للينين، لم تكن أخطائهم بسبب “الصفات الذاتية السيئة للرفاق الهولنديين والبولنديين، ولكن بسبب الظروف الموضوعية الخاصة ببلديهم”. حتى أنه ادعى بأنه “يمكن القول، دون خوف من الوقوع في مفارقة، إنه عندما يثور الماركسيون الهولنديون والبولنديون بغضب ضد تقرير المصير (…) فإنهم ريدون أن يقولوا شيئا مختلفا عما يقولونه”[28].
رغم هذا التقدير، لم يتردد لينين في انتقادهم صراحة، لأن:
“نقل وجهة نظر بعض الأمم الصغيرة، ولا سيما وجهة نظر الاشتراكيين الديمقراطيين البولنديين(…) إلى الأممية، كان خطأ نظريا، استبدل الماركسية بالبرودونية، وفي الممارسة العملية، مثل دعما لا إراديا لأخطر شوفينية وانتهازية.. شوفينية وانتهازية القوى العظمى”.
لينين، في الواقع، توافق مع السياسة الملموسة التي دافعت عنها روزا لوكسمبورغ من أجل بولندا في تلك اللحظة تحديدا[29]، في خضم الحرب العالمية، خلافا لمطالبة بولندا بتقرير المصير والاستقلال. وسبب ذلك أنه إذا تم تحقيق هذا الأمر، فإنه سيعني حتما إنشاء “دولة عازلة”، مستعمرة عسكرية لمجموعة أو أخرى من القوى العظمى. في ظل تلك الظروف كتب لينين:
“لا يمكن للبروليتاريا البولندية، بهذا الوضع، أن تسهم الآن في قضية الاشتراكية والحرية، بما في ذلك القضية البولندية أيضا، إلا عبر النضال المشترك مع بروليتاريا البلدان المجاورة [الروس والألمان] وضد القوميين البولنديين ضيقي الأفق. من المستحيل إنكار الميزة التاريخية العظيمة التي يتمتع بها الاشتراكيون الديمقراطيون البولنديون في النضال ضدهم”[30].
لكن
“هذه الحجج نفسها، الصحيحة من وجهة نظر الظرف الخاص ببولندا في الوقت الحالي، مضللة بوضوح في الشكل العام الذي طرحت به. طالما ستبقى الحروب قائمة، ستكون بولندا دائما ساحة معركة للحروب بين ألمانيا وروسيا، [لكن] هذه ليست حجة ضد المزيد من الحرية السياسية (وبالتالي الاستقلال السياسي) في فترات ما بين الحروب”.
روزا لوكسمبورغ كانت تعارض حق تقرير المصير بشكل عام. من الناحية النظرية. بالنسبة لروزا لوكسمبورغ، فإن الوصول إلى الإمبريالية أدى إلى حذف النضال من أجل تقرير المصير الوطني من البرنامج البروليتاري لأنه “يشوش” على النضال من أجل الثورة الاشتراكية، وبالتالي أصبح شعارا رجعيا. وفقا لروزا، “من الناحية التاريخية، فإن فكرة أن البروليتاريا الواعية طبقيا يمكنها أن تنشئ دولة حديثة هي فكرة عبثية، كفكرة أن تقترح على البرجوازية أنها تعيد تأسيس الإقطاع”[31].
لينين رد بأن هذا المنطق، رغم من صحته بالنسبة للبلدان الإمبريالية الكبرى في أوروبا الغربية (حيث “استنزفت الحركات البرجوازية الوطنية التقدمية منذ زمن بعيد”)[32]، إلا أنه لا يخدم على الإطلاق الشعوب المضطهدة في أوروبا الشرقية، وخاصة في روسيا، و حتى أقل من ذلك بالنسبة لشعوب الشرق، التي كانت قد بدأت لتوها يقظة الحياة الوطنية في مواجهة الإمبريالية. بالنسبة للينين، خلافا لروزا، فإن المرحلة الإمبريالية والتجربة الروسية تعنيان أنه، من الآن فصاعدا، لا يمكن إلا للطبقة العاملة أن تتولى باستمرار نضال الأمم المضطهدة من أجل تقرير مصيرها القومي، بل وكجزء من النضال من أجل الثورة الإشتراكية.

8.3 روزا لوكسمبورغ: تقرير المصير “غير قابل للتحقيق” في ظل الإمبريالية و”غير ضروري” في ظل الاشتراكية

كان الموقف النظري لروزا أن حق تقرير المصير شيء “غير قابل للتحقيق” و”وهمي” في ظل الإمبريالية، ولا يمكن أن يصبح حقيقة إلا من خلال الاشتراكية العالمية “وليس قبل الوصول إلى هذا الهدف النهائي”. ولكن بمجرد تحقيق هذا الهدف، نتيجة للانتصار الاشتراكي نفسه، فإن حق تقرير المصير يتراجع ولا يعود له معنى. ومن الناحية العملية، قادها موقفها إلى الانتهازية، وبشكل أكثر تحديدا، إلى دعم “الاستقلال الثقافي الوطني” للماركسيين النمساويين:
عند التفكير في الحل “الأمثل” بالنسبة للطبقة العاملة، يتضح أن الاشتراكية ستكون أفضل علاج للاضطهاد القومي. ولكن في ضوء الواقع، فإن الوسائل الفعالة لحل المسألة القومية يجب البحث عنها في اطار النظام الحالي”[33].
لينين أجابها على المستويين النظري والعملي. من الناحية العملية، بينت الحياة أنه:
“على الرغم من الادعاء الخاطئ للاشتراكيين الديمقراطيين البولنديين، فإن المطالبة بتقرير مصير الأمم قد لعبت في تحريض حزبنا دورا لا يقل أهمية، مثلا، عن تسليح الشعب، وفصل الكنيسة عن الدولة، وانتخاب المسؤولين من قبل الشعب، ونقاط أخرى وصفها البعض بأنها “يوتوبية”[34].
ومن الناحية النظرية:
“ليس فقط حق الأمم في تقرير المصير، بل كافة المطالب الأساسية للديمقراطية السياسية “قابلة للتحقيق” في ظل الإمبريالية فقط بشكل غير مكتمل ومشوه وكاستثناء نادر (على سبيل المثال، عندما انفصلت النرويج عن السويد عام 1905). (…) لكن ما يترتب على ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال التخلي عن الاشتراكية الديمقراطية عبر النضال الفوري والحاسم من أجل كل هذه المطالب – مثل هذا التنازل لن يكون إلا لصالح البرجوازية والرجعية – بل العكس تماما: “الحاجة إلى صياغة وتنفيذ هذه المطالب، ليس بالطريقة الإصلاحية، ولكن بالطريقة الثورية، بأن لا يسمح المرء لنفسه بأن يكون مقيدا بأطر الشرعية البرجوازية، بل بكسرها، وبعدم الاكتفاء بالتدخلات البرلمانية والاحتجاجات الكلامية، بل بجذب الجماهير إلى النضال النشط، بتوسيع وتغذية النضال من أجل كل مطلب ديمقراطي أساسي حتى هجمة البروليتاريا المباشرة ضد البرجوازية، أي حتى الثورة الاشتراكية التي تجرد البرجوازية من ملكيتها”.

9.3 انتقائية تروتسكي

في هذا الجدال، لم يقم تروتسكي بأي دور ذي صلة، وبقي في موقف وسطي بين لينين وروزا لوكسمبورغ. لهذا السبب، أشار لينين في ملاحظاته إلى تروتسكي ومارتوف بالقول:
“كلاهما يؤيد تقرير المصير، مثل كاوتسكي. في الواقع، تروتسكي -خذ مقالته “الأمة والاقتصاد” في ناشي سلوفو- يظهر لنا انتقائيته المعتادة: من ناحية، الاقتصاد يدمج الأمم. ومن ناحية أخرى، فإن الاضطهاد القومي يفرقها. والخلاصة أن النفاق السائد لا يزال مكشوفا، والتحريض هائل، ولا يخاطب ما هو رئيسي وجوهري، وقريب من الممارسة: الموقف تجاه “أمتي” المظلومة.
بعد العام 1917، كان تروتسكي مدافعا متحمسا عن مواقف لينين في الحزب البلشفي، في الأممية الثالثة ومن ثم الأممية الرابعة.

10.3 مكان “الماركسية والمسألة القومية” لستالين

رغم أنها مسألة ثانوية، إلا أنه من المهم بعض الشيء الإشارة إلى كتيب ستالين، الذي نشر في كانون الثاني 1913 تحت عنوان الماركسية والمسألة الوطنية، حيث كان ينظر إليه تقليديا على أنه أحد النصوص الجوهرية للماركسية حول هذا الموضوع. هذا التقييم يجب أن يكون موضع تساؤل. صحيح أن لينين كان قد فوض بالكتيب ونقحه، وأن الاستنتاجات السياسية الرئيسية لستالين توافقت مع استنتاجات الحزب البلشفي في عام 1913. ولكن لينين، باستثناء الإشارة المنفردة لهذا العمل في نفس السنة التي نشر فيها، لم يستشهد به مرة أخرى في كتاباته المتعددة حول المشكلة القومية، وهذا ليس من قبيل الصدفة. وفقا لـ م. لوي، كانت هناك عناصر أساسية في عمل ستالين تبعده عن التصور اللينيني[35]. أحدها هو مفهوم “مجتمع التكوين النفسي” أو “الخصوصية النفسية” للأمة، وهو مفهوم غريب تماما عن لينين. الاختلاف الآخر، والأكثر أهمية، هو إعلانه أن “فقط وجود كل السمات (مجتمع اللغة والأرض والحياة الاقتصادية و”التكوين النفسي “) ككل يمنحنا أمة”. هذه مقاربة نظرية دوغمائية خطيرة وخاطئة سياسيا، وهي أيضا غريبة تماما عن لينين.
والعنصر الثالث هو رفضه الصريح لإمكانية وجود اتحاد أو جمعية لمجموعات قومية منتشرة داخل دولة متعددة القوميات. لينين، على العكس من ذلك، يعارض “الاتحاد الإجباري للمناطق القومية” لكنه يدافع، إذا أرادت، عن حريتها في تكوين الجمعيات. والعنصر الرابع، الأكثر صلة ونوعية، هو حقيقة أنه يشوه التمايز الجوهري، بالنسبة للينين، بين قومية الأمة المضطهدة وقومية الأمة المستبدّة. وفي فقرة فاضحة، يرفض بنفس القدر النزعة القومية “العدوانية والمولعة بالقتال” للقيصرية و”موجة القومية الناشئة من الأسفل، والتي تتحول أحيانا إلى شوفينية فظة، للبولنديين واليهود والتتار والجورجيين والأوكرانيين …”. في الواقع، كانت أشد انتقاداته موجهة ضد الاشتراكيين في الدول المضطهدة لعدم معرفتهم كيفية “إظهار الحزم” في مواجهة الحركة القومية.

رابعا: الأممية الثالثة

1.4 مقدمة:

الآن سنقوم بدراسة سياسة الكومنترن في مواجهة المشكلة الاستعمارية. هذه نقطة هامة لأنه عندما تم دمج المؤتمرات الأربعة الأولى للأممية الثالثة، إلى جانب البرنامج الانتقالي، كجزء من الأساس البرامجي الجوهري للماركسية اليوم، لم يكن هذا هو الحال في “أطروحات الشرق” للمؤتمر الرابع. هذه الأطروحات تمثل تراجعا واضحا عن الأطروحات التي تمت المصادقة عليها في المؤتمر الثاني، وانفصالا عن الاستمرارية لأطروحات لينين في نيسان 1917.
لينين وتروتسكي، بعد الاستيلاء على السلطة في روسيا، واجها واقعا جديدا في بلدان الشرق التي كانت، في خضم الحرب العالمية الأولى، تدخل بشكل كامل في دوامة السياسات العالمية. كانت هناك دول ينطلق فيها التطور الرأسمالي، خاصة الصين والهند، حيث كانت الحركة العمالية في مهدها، وحيث لم تكن هناك أحزاب شيوعية بعد، وكانت الحركات القومية الناشئة تمر بتوسع متسارع.
في هذا الوضع غير المسبوق، قام لينين وتروتسكي باتخاذ موقف الصبر المنفتح، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم إمكانية تطبيق أطروحات نيسان بشكل مباشر، وأن الثورة الدائمة بقيت نظرية مقتصرة على روسيا. يوضح هذا أن نرى كيف قام لينين بمخاطبة مؤتمر عموم روسيا للمنظمات الشيوعية لشعوب الشرق عام 1919، حيث قال: “أنتم في مواجهة مهمة لم تكن قد طرحت من قبل على الشيوعيين حول العالم (…) إنها مشاكل لن تجد حلا لها في أي كتاب شيوعي”[1].
الهيئة التي كانت أول من تناول السياسة الاستعمارية بعمق هي المؤتمر الثاني (1920): 1-لقد قام بدمج الثورة ضد الاستعمار باعتبارها جزء أساسيا من الثورة الأممية. 2-قدم (ارتباطا باستنتاجات ماركس وإنجلز التي تم جمعها في مقدمة الطبعة الروسية لعام 1882 للبيان الشيوعي) فرضية أن المستعمرات وشبه المستعمرات يمكنها تخطي المرحلة الرأسمالية إذا ارتبطت الثورة ضد الاستعمار باستيلاء البروليتاريا على السلطة في البلدان الرأسمالية المتقدمة. 3_أعطى أهمية مركزية لتحالف الثورة ضد الاستعمار مع روسيا السوفييتية. 4_هذه المقاربة كانت مرتبطة ضمنيا بفكرة تشييد “ديكتاتورية ديمقراطية للعمال والفلاحين” في تلك البلدان، والتي كان هدفها العملي الملموس – كما كان في الصيغة الروسية القديمة للينين قبل أطروحات نيسان – يتم تعريفه وربطه بمنطق الثورة الدائمة، الذي دافع عنه ماركس في عام 1850 (رسالة من اللجنة المركزية لعصبة الشيوعيين).
هذه الأطروحات للمؤتمر الثاني للكومنترن، التي قدمها لينين وروي، نؤيدها تماما، ونطالب بأن تكون أطروحاتنا، كرد فعل ماركسي على الوضع الجديد، الذي كان ينفتح ويتقدم نحو نتائجه التاريخية، والتي قدمتها الثورة الصينية.
المؤتمر الثالث (1921) لم يتناول المسألة الاستعمارية. المؤتمر الرابع، في عام 1922، ناقش الأمر مرة أخرى بعمق، لكن هذه المرة اتخذ خطوة عنيفة إلى الوراء بالنسبة للمؤتمر الثاني. تجلياته كانت أطروحات الشرق وسياسة الجبهة الشعبية لـ “الجبهة الموحدة المناهضة للإمبريالية” مع البرجوازية الوطنية.
توجه الجبهة تمخض عن سياسة كارثية تجاه الثورة الصينية، والتي باتت راسخة بعد وفاة لينين (كانون الثاني 1924) ومع تنامي سيطرة ستالين على الجهاز القيادي للكومنترن. انتهى الأمر بهذه السياسة، كما سنرى، إلى الهزيمة الدموية للثورة الصينية عام 1927.
الاستنتاجات التي توصل إليها الكومنترن من الهزيمة الخطيرة للغاية للثورة الصينية عام 1927 أدت إلى إعادة بناء نظرية الثورة الدائمة، وتعميمها على كافة البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، وإعطائها صورتها النهائية كنظرية عالمية للثورة. الماركسية، من خلال تروتسكي، تمكنت من تجاوز نقاط ضعفها وأخطائها، رغم أن الجماهير الكادحة والثوريين الصينيين كان عليهم أن يدفعوا ثمنا باهظا لهذا.
الستالينية، اعتمادا على أطروحات الشرق، ومضاعفة أخطائها، كانت تحاول دائما الحيلولة دون قيام الطبقة العاملة باتخاذ موقف مستقل، وتولي السلطة في البلدان المتخلفة، بدعوى أنها “لم تكن ناضجة”. على العكس، استراتيجيتها أخضعت مصالح ونضال الطبقة العاملة والجماهير المستغلة للتكتل مع البرجوازية الوطنية “المناهضة للإمبريالية”، وكان ذلك دائما في خدمة المصالح الدبلوماسية للكرملين. نظرية “الثورة على مراحل”، والتي أصبحت وصيفة لا تنفصل عن “التعايش السلمي” مع الإمبريالية وبناء “الاشتراكية في بلد واحد”، كانت سلاح امتيازات في يد الأجهزة الستالينية لتثبيط الطبقة العاملة، ولحرف أو منع الثورات في البلدان شبه المستعمرة.
لكن أيضا قسم كبير من “التروتسكية” الانتهازية، والتي كان ممثلوها الرئيسيون هم: ماندل، ولامبرت، وغيليرمو لورا، وإن كان خلال الترويج لخطاب أكثر “ثورية”، دعا إلى “الجبهة الموحدة المناهضة للإمبريالية”، منجذبا إلى أطروحات الشرق، وطارحا جانبا التصحيحات العميقة التي أجراها تروتسكي.
تيارنا كان عمليا وحيدا في شكه بأطروحات الشرق، وفي دعوته لاستعادة صيغة تروتسكي بعد هزيمة الثورة الصينية. رغم أن مورينو اعتنق في البداية أطروحات الشرق في الـ “مورينازو” (1973)، إلا أنه بعد ثماني سنوات في “خيانة منظمة الشيوعية الأممية” طور نقدا عميقا لأطروحات الشرق، واستعاد مواقف التروتسكية التي تم التعبير عنها في “الثورة الدائمة” للعام 1929، والبرنامج الانتقالي للعام 1938. هذا التفصيل هو جزء مهم من ميراثنا.

2.4 المؤتمر الأول للكومنترن

الأممية الشيوعية، في مواجهة الأممية الثانية الموالية للإمبريالية، كانت فخورة بتوقفها عن كونها “أممية البشرة البيضاء”، وظهورها باعتبارها أممية البروليتاريا الثورية في العالم بأسره.
المؤتمر الأول (آذار 1919) كان مؤتمرا تأسيسيا، حيث تمحور النقاش حول مدى استصواب إعلان الأممية الجديدة، والتي عارضها الحزب الشيوعي الألماني. كانت المهمة الرئيسية للمؤتمر هي إعلان الأممية الجديدة، ورفع العلم الشيوعي في كافة أنحاء العالم. مع وجود روسيا في خضم الحرب الأهلية والبلاد تحت الحصار، 9 مندوبين فقط (من أصل 51) تمكنوا من الوصول إلى موسكو من خارج الإمبراطورية القيصرية السابقة. من الشرق شارك فقط ممثلوا الجنسيات السوفييتية لآسيا. مشكلة الاستعمار، كقضايا جوهرية أخرى، تم تأجيلها إلى المؤتمر الثاني، الذي كان سيعقد في العام التالي.
إسهامات المؤتمر الأول حول مسألة الثورة ضد الاستعمار وردت في بيانه. كتبه تروتسكي، ويذكر التمردات في مدغشقر والهند الصينية وحركة الإضراب الكبرى في الهند. البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة اهتزت بعنف إثر اندماجها القسري في الحرب العالمية في خدمة أسيادها الإمبرياليين، وبسبب الأزمة التي تلت الحرب، والتي أثارت حركة قوية مناهضة للاستعمار، حيث لم تكن هناك بعد حركة عمالية مستقلة، أو أحزاب شيوعية منظمة. كان أيضا أثناء الحرب العالمية أن حدثت الموجة الأولى من التصنيع في الهند والصين. التمردات ضد الاستعمار كانت جزء من صورة عالمية تميزت بأزمة الإمبريالية الأوروبية العامة الكبرى التي أعقبت الحرب، وبمعركة البلاشفة والكومنترن، ليتقرر أن هذه الأزمة هي لصالح انتصار وشيك للثورة البروليتارية في القارة.
البيان تميز بلا شك بالإيمان بإمكانية الانتصار الثوري الوشيك في أوروبا. في غضون ذلك، المفهوم القديم القائل بأن البلدان المتخلفة كانت مضطرة إلى إعادة إنتاج المراحل التاريخية لتطور البلدان الرأسمالية في أوروبا الغربية كان قد تكرر، كما عكس فكرة ميكانيكية أحادية الجانب للعلاقة بين الثورة الأوروبية والثورة ضد الاستعمار:
“تحرير المستعمرات ممكن فقط مع تحرير الطبقة العاملة في المراكز الإمبريالية. [إنها] ستكتسب إمكانية الوجود المستقل فقط عندما يطيح عمال بريطانيا وفرنسا بلويد جورج، وكليمنسو ويتولون السلطة بأيديهم. (…)
العبيد المستعمرون في أفريقيا وآسيا: ساعة دكتاتورية البروليتاريا في أوروبا ستكون أيضا ساعة تحرركم! (…)
الطبقة العاملة في البلدان التي سمح فيها التطور التاريخي بذلك، استخدمت نظام الديمقراطية السياسية للتنظيم ضد رأس المال. الشيء نفسه سيحدث من الآن فصاعدا في البلدان التي لم تنضج فيها بعد شروط الثورة العمالية”[2].

3.4 المؤتمر الثاني للكومنترن

المؤتمر الثاني (تموز_ آب 1920) كان قادرا على تناول الثورة ضد الاستعمار بالتفصيل، وقد فعل ذلك، تلك المرة، مع وجود وفد هام من البلدان المضطهدة، تحديدا من الشرق: حضر أكثر من 30 من أصل 218 مندوبا من الهند، والصين، وكوريا، وجزر الهند الهولندية (إندونيسيا)، وإيران، وتركيا، إضافة إلى الجنسيات الآسيوية من روسيا السوفيتية[3].
بيير برو أشار إلى هذا المؤتمر بوصفه “مؤتمر الآمال الكبيرة”. زينوفييف، رئيس الكومنترن آنذاك، أعلن أنه بعد عامين أو ثلاثة أعوام ستكون أوروبا كلها جمهورية سوفيتية، وهو رأي شاركته آنذاك القيادة البلشفية بأكملها. البلدان الإمبريالية الأوروبية كانت تعاني من أزمة كبيرة. وكانت الأممية الثانية تعاني انهيارا حقيقيا (تخلت عنها أحزابها الرئيسية، باستثناء حزب العمال البريطاني، والحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، الذي انقشت أغلبيته وشكلت الحزب الاشتراكي الديمقراطي المستقل لألمانيا). في غضون ذلك، كان الكومنترن يشهد نموا متسارعا. في ألمانيا، سحق العمال انقلاب كاب في كانون الثاني، وكانت هناك هبة ثورية قوية في إيطاليا، وليس أقل منها، الجيش الأحمر، بعد أن كان صد هجوم الجيش البولندي يتقدم في ذلك الوقت بمسيرة نحو وارسو.
في ذات الوقت، كانت حركات كبيرة مناهضة للإمبريالية تجري في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة. القومية التركية كانت قد حققت لتوها انتصارا عظيما، وفي الصين فتح الطلبة الباب أمام مرحلة من الحماسة القوية المناهضة للإمبريالية. في البداية تم تحديد الحركة الجماهيرية الصينية بحزب “الكومينتانغ”، وكذلك كان الحال في جافا “إندونيسيا” حيث تم تحديدها بساريكات إسلام، أو في الهند بحزب المؤتمر بزعامة غاندي. روي، المندوب الهندي، أشار إلى النمو الأخير للصناعة في الهند البريطانية، مع زيادة البروليتاريا بنسبة 150٪ وأكثر من 200 إضراب في النصف الأول من العام 1920. ليو شاوزو جاء على ذكر إضرابات شانج عام 1919، وذكر سنيفليت مارينج وجود 200 مصنع سكر كبير، ونصف مليون بروليتاري في جافا.
في ذلك الوقت أيضا بدأت الأحزاب الشيوعية تتشكل في الشرق. عام 1920، بعد المؤتمر الثاني، تأسست أول نواة شيوعية هندية، وفي العام 1921 تم إنشاء النواة التأسيسية للحزب الشيوعي الصيني في شنغهاي، بـ 70 عضوا على أبواب الصعود العنيف للطبقة العاملة.
النقاش في المؤتمر الثاني كان قد دار حول الأطروحات التي وضعها لينين، وأطروحات روي التكميلية، والتي خصصتا بشكل خاص للهند والصين. من الواضح أن كلتيهما تجاوزتا بيان المؤتمر الأول، وتمت الموافقة عليهما بالإجماع. لنلقِ نظرة على بعض أفكارهما الأساسية:
1) في ظل الإمبريالية، ينقسم العالم بين عدد كبير من الدول المضطهدة (المستعمرات وشبه المستعمرات التي تشمل 70٪ من سكان العالم) وعدد لا يذكر من الدول المضطهدة، التي تعتمد هيمنتها على السيطرة على الأولى. ومن هنا، فإن النضال من أجل التحرر الوطني للمستعمرات وأشباه المستعمرات يشكل عنصرا أساسيا في الثورة العالمية، إلى جانب الثورة البروليتارية في البلدان الرأسمالية المتقدمة.
2) وضع العالم كله يتحدد بمسار صراع البلدان الإمبريالية ضد الجمهورية السوفيتية. ومن هنا تأتي الأهمية الأساسية لتشكيل تحالف حركات التحرر الوطني وحركبات التحرر من الاستعمار مع روسيا السوفيتية.
3) على الكومنترن أن يدعم “الحركة الوطنية الثورية”[4] في البلدان المتخلفة، أي: “عندما تكون ثورية حقا، ولا يقوم ممثلوها بإعاقة عملنا التثقيفي والتنظيمي للفلاحين والجماهير المستغلة”.
4) على الكومنترن “أن يتوصل إلى اتفاقات مؤقتة، ونعم، حتى أن ينشئ تحالفا مع الحراك الثوري في المستعمرات والدول المتخلفة. لكنه لا يستطيع أن يندمج بمثل هذا الحراك. بل على العكس، يجب أن يحافظ بشكل مطلق على الطابع المستقل للحركة البروليتارية، حتى في مرحلتها الجنينية”.
5) إن دعم حركة الفلاحين له أهمية حيوية. إنهم يشكلون الغالبية العظمى من السكان. من الضرورة إضفاء الطابع الثوري الأقصى على هذه الحركة وتنظيمها في سوفييتات.
6) فيما يتعلق بثقل البروليتاريا، أعلن لينين في تقريره أن “غلبة علاقات ما قبل الرأسمالية لاتزال هي السمة الرئيسية المهيمنة في هذه البلدان” (…) “لا توجد عمليا بروليتاريا صناعية في هذه البلدان”. لم تكن الأطروحات التكميلية راديكالية بشكل رسمي في هذا الصدد، واكتفت بالقول إن “الطبقة البروليتارية، بالمعنى الدقيق للكلمة، لم تظهر إلا في الآونة الأخيرة”[5].
7) المؤتمر تساءل أيضا، على حد تعبير لينين: “هل يجب أن نعتبر أنه من الصحيح التأكيد على أن المرحلة الرأسمالية من التطور الاقتصادي أمر حتمي للدول المتخلفة …؟” إجابته كانت “لا”، لذا فقد طرح المسألة على الأطروحات التكميلية: “يمكن لجماهير البلدان المتخلفة أن تصل إلى الشيوعية ليس من خلال التطور الرأسمالي، ولكن بقيادة البروليتاريا الواعية في البلدان الرأسمالية المتقدمة”.
8) الأطروحات التكميلية طورت أيضا مقاربة يمكن أن تجد استلهامها من رسالة اللجنة المركزية إلى عصبة الشيوعيين، التي صاغها ماركس عام 1850، حيث ظهرت الصيغة الأولى للتطور المستمر:
“الثورة في المستعمرات لن تكون ثورة شيوعية في مراحلها الأولى. ولكن إذا كانت القيادة في يد طليعة شيوعية منذ البداية، فإن الجماهير الثورية لن تنحرف، بل ستتقدم عبر فترات متتالية من تطور التجربة الثورية (…) الثورة في المستعمرات في مراحلها الأولى يجب أن تتم ببرنامج يتضمن العديد من التدابير الإصلاحية البرجوازية الصغيرة، مثل تقسيم الأرض وغير ذلك. لكن هذا لا يعني إطلاقا أن قيادة الثورة يجب أن تستسلم للديموقراطيين البرجوازيين. بل على العكس، يجب على الأحزاب البروليتارية أن تحافظ على دعاية قوية ومنتظمة لصالح فكرة السوفيتات، وأن تنظم سوفييتات الفلاحين والعمال في أسرع وقت ممكن. هذه السوفييتات ستعمل بالتعاون مع الجمهوريات السوفيتية التي تأسست في البلدان الرأسمالية المتقدمة من أجل الإطاحة النهائية بالنظام الرأسمالي في كافة أنحاء العالم”.

4.4 المؤتمر الثالث

المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية (حزيران_ تموز 1921) كان قد عقد في ظل ظروف مختلفة للغاية عن نظيرتها في المؤتمر الثاني. هجمة الجيش الأحمر على وارسو منيت بالهزيمة، والانتفاضات الثورية في إيطاليا وألمانيا فشلت، والموجة العمالية الراديكالية انحسرت، رغم أن الطبقة العاملة كانت تحتفظ بصلابتها التنظيمية. الكومنترن، بدء بقيادته وحتى القيادة البلشفية نفسها، كان منقسما بعمق حول طبيعة تركيبة الأحداث الجديدة وكيفية التعاطي معها.
النقاش في المؤتمر كان متمحورا حول فشل “حركة آذار” 1921 للحزب الشيوعي الألماني. كان هناك من جهة المدافعون عن “نظرية الهجوم”، وفي الجهة المقابلة لينين وتروتسكي، اللذين حارباها بشدة. في هذا السياق، تم إقصاء المسألة الوطنية ومسألة الاستعمار، وحتى مشاريع القرارات التي أعدها المندوبون من الهند، والصين، وإيران لتقديمها للمؤتمر، ما أثار احتجاجات المندوب الهندي روي.

5.4 المؤتمر الرابع و”أطروحات الشرق”

المؤتمر الرابع (تشرين الثاني_ كانون الأول 1922) اتسم بتأكيد التراجع الثوري في أوروبا، وبهجمة رأسمالية مضادة. آمال المؤتمر الثاني كانت قد تبددت. موسيليني كان قد استلم السلطة للتو في إيطاليا. في المقابل، كان هناك نهوض ثوري قوي يتشكل في الشرق.
ناقش المؤتمر كيفية التكيف مع الوضع الجديد، مؤكدا تكتيكات الجبهة الموحدة، وإن لم يكن ذلك دون مواجهة مقاومة كبيرة، والتي تم التعبير عنها منذ المؤتمر السابق. إلى جانب هذا النقاش المركزي، ناقش المؤتمر الرابع قضايا أساسية أخرى: الحكومة العمالية، والنضال ضد الفاشية، والبرنامج، وتوازن السنوات الخمس للثورة الروسي، والسياسة الاقتصادية الجديدة، والمسألة الزراعية، والعمل الشيوعي بين النساء، والعمل النقابي والحركة التعاونية. كانت إحدى أهم النقاط هي “أطروحات الشرق”.
هذه الأطروحات مثلت انتكاسة هامة بالنسبة للمؤتمر الثاني. كان اقتراحها السياسي المركزي هو “الجبهة الموحدة المناهضة للإمبريالية”: كتلة سياسية، أو تحالف استراتيجي مع أقسام من البرجوازية الوطنية من المستعمرات، والبلدان شبه المستعمرة، من أجل التحرر الوطني، والثورة البرجوازية الديمقراطية. الجبهة تم تقديمها على أنها النسخة المتعلقة بالاستعمار للجبهة الموحدة التي نشأت في البلدان الرأسمالية الغربية. ولكن، في الحقيقة، لم تكن للجبهتين علاقة ببعضهما البعض: إحداهما كانت تكتلا بروليتاريا، أو طبقيا، في مواجهة الهجمة الرأسمالية، والأخرى كانت تكتل جبهة شعبية مع البرجوازية الاستعمارية، يرتكز على تصور مرحلي للثورة.
أطروحات الشرق استمرت في التقليل من أهمية ثقل ودور البروليتاريا الناشئة الصينية والهندية، رغم حقيقة أن الفرصة قد أتيحت لها بالفعل لتأكيد مكانتها الاجتماعية والسياسية في غضون عامين ونصف العام منذ المؤتمر الثاني. وعلى عكس الأطروحات السابقة، فإن أطروحات الشرق لم تذكر أن الكومنترن سيدعم الحركة الوطنية، “فقط” عندما تكون “ثورية حقا”، في نضالها ضد الإمبريالية، ولا تعيق العمل الشيوعي المتعلق بالتثقيف والتنظيم. كما أنها لا تنص بوضوح على أن الأحزاب الشيوعية يجب أن “تحافظ بشكل مطلق على الطابع المستقل للحركة البروليتارية، حتى في مرحلتها الجنينية”، كما أعلن المؤتمر الثاني. لم يعد الحديث فيها عن “الحفاظ على دعاية قوية ومنهجية لصالح فكرة السوفييتات وتنظيم سوفييتات الفلاحين والعمال في أسرع وقت ممكن”. وفرضية “تخطي” المرحلة الرأسمالية، المرتبطة باستيلاء البروليتاريا على السلطة في البلدان الرأسمالية المتقدمة، تم اختزالها في إشارة مشتتة وهامشية.
من نحاية أخرى، فإن أطروحات الشرق تؤسس لتقسيم مرحلي حاد:
إننا في مرحلة البرجوازية الديموقراطية (“حقبة تاريخية كاملة” تقول الأطروحة رقم 5)، حيث “المهمة الرئيسية المشتركة لكافة الحركات الوطنية الثورية هي تحقيق الوحدة الوطنية والاستقلال السياسي” (الأطروحة 2). في هذه المرحلة: “الأحزاب الشيوعية في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة لديها مهمة مزدوجة: النضال من أجل الحل الأكثر جذرية للثورة الديمقراطية البرجوازية الهادفة إلى انتزاع الاستقلال السياسي، وكذلك تنظيم جماهير العمال والفلاحين في النضال من أجل مصالحها الطبقية المحددة، مستغلة كل التناقضات في المعسكر القومي البرجوازي الديمقراطي” (الأطروحة 5).
مداخلات العديد من قادة البلاشفة في المؤتمر أعادت تأكيد هذا التوجه. سفروف، المسؤول البلشفي المسؤول عن سياسة الشرق، قال:
“الإمبريالية الأجنبية في المستعمرات تلعب اليوم نفس الدور الذي لعبه الإقطاع في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. إن الثورة القومية والثورة ضد الاستعمار في البلدان المتخلفة هي ثورة برجوازية ديمقراطية (…) وجود حكومة برجوازية ديمقراطية في البلدان المتخلفة يوفر الدعم والثقة الكبيرة لحركتنا البروليتارية (…) لا يمكننا اعتبار أن مهمة الثورة السوفيتية في هذه البلدان ستكون فورية”.
ومن جانبه قال راديك:
“عليكم أن تفهموا أنه في الصين لا انتصار الاشتراكية ولا إنشاء جمهورية سوفياتية هو النظام الممكن اليوم. ولسوء الحظ، حتى مسألة الوحدة الوطنية لم توضع بعد تاريخيا على جدول الأعمال. ما نشهده في الصين يذكرنا بالقرن الثامن عشر في أوروبا، في ألمانيا، حيث كان تطور الرأسمالية لا يزال ضعيفا لدرجة أنه لم يكن قد حفز بعد مرتكزا واحدا للوحدة الوطنية”. وأضاف لاحقا: “مهمتنا هي توحيد القوى الحقيقية التي تتشكل في الطبقة العاملة بهدفين: أولا، تنظيم الطبقة العاملة الناشئة، وثانيا، إقامة علاقة مناسبة بينها وبين القوى البرجوازية الثورية بموضوعية، لتنظيم النضال ضد الإمبرياليتين الأوروبية والآسيوية”.
راديك برر، بموضوعية عمياء، السياسة التي طورها الكومنترن تجاه كمال باشا (“أتاتورك”) في تركيا، و”وو” بيفو، أمير الحرب شمال الصين، الذي كان يشن في ذلك الوقت قمعا شديدا ضد المسلحين الشيوعيين. كانت هذه كلماته: “سيحاولون آلاف المرات أن يخونوا المصالح الثورية لبلدهم، لكن مفارقة التاريخ هي أنه ليس لديهم خيار. عليهم أن يقاتلوا، لأن الالتزام بالإمبريالية أمر مستحيل على المدى البعيد”.
صحيح أن أطروحات الشرق تقول إن “الحركة العمالية في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة يجب أن تقاتل قبل كل شيء لتحقيق دورها كقوة ثورية مستقلة في الجبهة الموحدة العامة. فقط عندما تكون قوتها المستقلة معترف بها، وبالتالي استقلاليتها مصانة، يجوز ومن الضروري إبرام اتفاقات مؤقتة مع الديمقراطية البرجوازية” (الأطروحة 6). ولكن هذا لم يتجاوز كونه مجرد إعلان شفهي. بداية، لأن الاستقلال السياسي و”الاتفاقيات المؤقتة” لا تتوافق مع تكتل سياسي دائم مع البرجوازية الوطنية. وثانيا، لأن تعريف “القوة المستقلة” تحول إلى نقيضه عندما أجبرت قيادة الكومنترن بالفعل الحزب الشيوعي الصيني على دخول الكومينتانغ. المندوب الصيني ليو رينجينغ اعترف في المؤتمر بأن “هذه الجبهة الموحدة [مع حزب الكومينتانغ] تجسدت في انضمامنا إلى هذا الحزب كمجموعة وأفراد”.

6.4 انضمام الشيوعيين الصينيين إلى حزب الكومينتانغ

كان من المقرر أن تحتل الثورة الصينية دورا حاسما في السنوات التالية. ولكن في السنوات الأولى، كما يشير برويه:
“فكرة الصين والثورة لم تكن مرتبطة بأركان القيادة الروسية، الذين آمنور بالثورة إما في اليابان أو الهند. صين أمراء الحرب كانت في البداية بالنسبة للدبلوماسية الروسية مجرد ساحة واسعة للمناورات يمنح فيها تحالف أمراء الحرب الدولة السوفييتية نقاط دعم ومخرج، لكن لم تكن لديهم أوهام حول أي شيء آخر. ولكن لو، وسن تشونغشان، (صن يات سين)، والحكومة القومية في جوانغتشو، والتشكيل العابر الذي قاده (…) والمنظمة القومية التي ألهمها، والكومينتانغ ظهروا في مقدمة المشهد”.
المؤتمر الرابع للكومنترن لم يناقش مهام الشيوعيين الصينيين. يذكر جون ريدل مشروع قرار كان قد أعده راديك، والذي تم فيه رفض الكومينتانغ كقوة متحالفة مع الإمبريالية، ولم يكن هناك حديث عن كيفية انضمام أعضاء الحزب الشيوعي الصيني إليه. هذا المشروع لم ير النور قط. كان السبب هو تغيير موقف اللجنة التنفيذية الأممية. رغم حقيقة أن الشيوعيين الصينيين وقفوا بحزم ضد انضمامهم إلى الكومينتانغ.
اللجنة التنفيذية الأممية لم تطرح هذه القضية في نقاشات المؤتمر لأنها كانت تأمل في حلها بعد أسابيع قليلة لدى وصول مبعوثها إلى الصين. وما كان هو أن سنيفلييت مارنغ، الذي كان قبل ثلاثة أشهر قد ناشد الانضباط الأممي، قام بإرغام الحزب الشيوعي الصيني على الموافقة على انضمامه للكومينتانغ، رغم المعارضة الجماعية من قبل قيادته. سنيفليت مارينغ أعجب بمؤسس حزب الكومينتانغ، سون تشونغشان: “أخبرني شخصيا أنه يعتبر نفسه بلشفيا”. في رسالته “إلى كل رفاق الحزب الشيوعي الصيني” (10 كانون الأول 1929)، كتب الزعيم الشيوعي الصيني تشين دوكسيو عن المعارضة التي تمسكوا بها عند دخولهم حزب الكومينتانغ:
“دخول حزب الكومينتانغ كان لإحداث ارتباك في التنظيم الطبقي، ولعرقلة سياستنا وإخضاعنا له. مندوب الكومنترن [بورودين] قال حرفيا: “الحاضر هو فترة يجب على الشيوعيين فيها تنفيذ عمل الحمقى من أجل الكومينتانغ. منذ تلك اللحظة فصاعدا، لم يعد الحزب حزب البروليتاريا، لقد تحول إلى أقصى يسار للبرجوازية، وبدأ في الاندفاع إلى الانتهازية”.
في كانون الثاني 1923 (بعد شهر من المؤتمر الرابع)، أصدرت اللجنة التنفيذية الأممية قرارا يحيي حزب الكومينتانغ باعتباره “المجموعة الثورية الوطنية الجادة الوحيدة في الصين”، ويدعو الشيوعيين الصينيين للانضمام إلى صفوفه. في شباط، تم التوقيع على بيان مشترك بين سون تشونغشان (رئيس حزب الكومينتانغ ورئيس حكومة جوانغتشو) وإيوفي، نيابة عن الاتحاد السوفيتي. ينص البيان على:
“د. سون تشونغشان يعتقد أنه لا يمكن إدخال النظام الشيوعي وحتى نظام السوفيتات إلى الصين، حيث لا توجد شروط مواتية لتطبيقهما. ويشاركه هذا الرأي بالكامل إم إيوفي، الذي يعتقد أن القضية الأكثر أهمية وإلحاحا بالنسبة للصين هي قضية توحيدها واستقلالها الوطني. وقد أكد للدكتور سون تشونغشان أن الصين لديها كامل تعاطف الشعب الروسي، ويمكنها الاعتماد على دعم روسيا في هذه المهمة العظيمة”.

7.4 الثورة الصينية

في أيار 1925 مع وفاة لينين وسيطرة ستالين على الكومنترن بدأت الثورة الصينية في شنغهاي. بعدها، انتظم 200,000 عامل نقابيا في غضون أسابيع قليلة. وفي حزيران، سيطرت جوانغتشو وهونغ كونغ على الجنوب، بانتفاضة تضمنت تشكيل مجلس سوفييتي حقيقي في هونغ كونغ، بقواته المسلحة الخاصة به. كان هناك حراك نقابي جماهيري في الجنوب، شمل نصف الطبقة العاملة، أكثر من مليون شخص. الحزب الشيوعي الصيني ازدادت عضويته من 900 إلى 20000 عضو خلال بضعة أشهر.
في 20 آذار 1926، قاد شيانغ كاي شيك، قائد جيش الكومينتانغ، انقلابا في جوانغتشو من خلال شن غارة على لجنة الإضراب، مع اعتقال الآلاف، وإنشاء نظام ديكتاتوري بموجب الأحكام العرفية، واستعباد وحشي للشيوعيين داخل حزب الكومينتانغ. تم رفض هذا الانقلاب بشدة لعدة أشهر من قبل قيادة الكومنترن، التي كانت قد أعلنت منذ فترة طويلة، بقيادة ستالين، أن حزب الكومينتانغ هو “حزب العمال والفلاحين” الذي قاد الثورة الصينية.
الحزب الشيوعي الصيني، عشية انقلاب كانتون (“الانقلاب الصغي”)، قام بإرسال تقرير إلى الكومنترن يقول فيه إن العلاقات مع الكومينتانغ تحتاج إلى المراجعة: يجب الحفاظ على هذا التعاون، خاصة في ضوء الحملة العسكرية في الشمال لهزيمة أمراء الحرب وتوحيد البلاد، ولكن ليس من داخل حزب الكومينتانغ، بل من خارجه، كقوة مستقلة، بأن يطور الحزب الشيوعي الصيني الوحدة العسكرية التي يسيطر عليها، ويكمل هذا الجهد بتسليح العمال والفلاحين. اللجنة التنفيذية الأممية (تحت هيمنة ستالين وبوخارين) هذا الموقف باعتباره “مغامرا”، ولأنه كان ينحو إلى “تجاوز مرحلة الثورة الوطنية”.
الزحف إلى الشمال ضد أمراء الحرب كان نعمة كبيرة للحركة الشعبية، كما رافقته إضرابات عمالية، وانتفاضات الفلاحين. في تلك الأثناء، حذر بورودين، ممثل الكومنترن، من “التجاوزات”. المرحلة الحاسمة في الحملة إلى الشمال كانت في شنغهاي، المركز الاقتصادي، والنقطة الرئيسية لدعم الإمبريالية، والمعقل الرئيسي للحركة العمالية الصينية، والحصن العظيم للحزب الشيوعي الصيني.
عندما كان جيش شيانغ كاي شيك على بعد 30 كيلومترا من المدينة، دعا الاتحاد إلى إضراب تضامني. القائد العام لشنغهاي والشرطة الدولية للمدينة (التي تسيطر عليها القوى الإمبريالية القائمة) قاموا بشن هجمة دموية. الحزب الشيوعي الصيني دعا إلى التمرد مع وصول جيش تشيانج كاي شيك، الذي توقف لتسهيل القمع الدموي ضد الحراك وقادته. الانتفاضة استمرت ليومين، من 22 إلى 24 شباط 1927، ما أفسح المجال لتراجع منظم في مواجهة الأدلة على أن “المنقذ” شيانغ كاي شيك لن يصل. بعد شهر، في 21 آذار، دعا الاتحاد إلى إضراب عام، وتمرد متزامن للإطاحة بالقوة العسكرية للمدينة. هذه المرة تحقق انتصار العمال خلال ساعات. استسلمت الشرطة والجنود بشكل جماعي، ومنهم من انتقل إلى جانب العمال، أو سلم أسلحته. كان دخول الجيش القومي بحد ذاته أيضا انتصارا عماليا، فقد كانت الفرقة الأولى، التي فاز بها محرضو العمال، هي التي دخلت خلافا لأوامر تشيانج كاي شيك.
منذ اللحظة الأولى التي دخل فيها شيانج كاي شيك المدينة أخيرا، بدأ في التحضير للانقلاب المضاد للثورة المضادة، في حين قامت قيادة الكومنترن بإعطاء تعليمات بـ “إخفاء الأسلحة أو دفنها”. كان هناك معسكران: معسكر تشيانج كاي شيك، الذي كان في الواقع ضعيفا للغاية (كان يسيطر على 3000 رجل فقط وبإخلاص غير مؤكد)، ومعسكر العمال، بمليشيات من 2700 عنصر جيد التسليح، ودعم من الفرقة الأولى، إضافة إلى الدعم الجماهيري الهائل. كما يقول برويه: “تفوق جيانغ هو تفوق قاتل، مصمم على قمع أعدائه، بينما هم لا يعرفون من هم أعداءهم، ويقبلون بهم كـ “أصدقاء”. بعد عدة إجراءات قمعية، واغتيالات مستهدفة، وإعلان الأحكام العرفية، قام تشيانغ كاي شيك أخيرا في ليلة 11-12 نيسان، بشن الانقلاب، وإفساح المجال لمجزرة حقيقية كان من شأنها أن تمتد إلى كل الصين. أقل تقدير هو 547000 قتيل.
لقد استغرق الأمر أسبوعا حتى تقوم قيادة الكومنترن بإدانة “خيانة” جيانغ، متجاهلة تواطؤها السياسي، وتعاونها العملي عبر إصدار الأمر “بإخفاء ودفن الأسلحة لتجنب الصراع العسكري بين العمال وجيانغ”، ورفض قيادة الفرقة الأولى، التي عرضت وضع نفسها تحت أوامر الحزب الشيوعي الصيني، وعصيان تشيانغ كاي شيك. كما قامت اللجنة التنفيذية الأممية أيضا بأمر الحزب الشيوعي الصيني بالانحياز إلى حكومة ووهان، التي بدعم من العديد من أمراء الحرب الصينيين المركزيين، لم تعترف بسلطة تشيانغ كاي شيك. كان اثنان من الوزراء الشيوعيين جزء من هذه الحكومة، التي اعترفت بها اللجنة التنفيذية الأممية على أنها “المركز الثوري” للصين، والتي كانت تدعى، وفقا لستالين، بأنها “كيانا حيويا للديكتاتورية الثورية للعمال والفلاحين”. وجود الوزيرين الشيوعيين أتاح لحكومة ووهان تحييد انتفاضات الفلاحين، وفرض تحكيم إلزامي على الإضرابات. وبمجرد تحقيق ذلك، تمكنت من شن مذابح دموية ضد منظمات العمال والفلاحين، والتي بدأت في أيار.
كان الفصل الأخير من تلك الدراما هو التمرد الانتحاري الذي أمر به ستالين في كانون الأول 1927 في كانتون، ارتجاليا ودون أي تحضير، وكان الغرض منه حصرا هو التستر على انتقادات اليسار في مواجهة هزائم شنغهاي ووهان الدموية، من أجل التمكن من القول بأنه دعا إلى تمرد عمالي مسلح من أجل السلطة. النتيجة كانت مقتل 25 ألف شيوعي إضافي، في حملة تميزت بكونها وحشية وهمجية.

خامسا: تروتسكي، الثورة الصينية والثورة الدائمة

تروتسكي لم يتدخل (ولا حتى لينين) في النقاش حول المسألة القومية والاستعمارية في المؤتمر الرابع للكومنترن، ولا توجد أية كتابات أو خطابات معروفة لصالح الجبهة الموحدة المناهضة للإمبريالية ولا ضدها. أما بالنسبة لدخول الحزب الشيوعي الصيني في الكومينتانغ، فقد كتب في رسالة إلى شاختمان (10/12/1930) أنه يعارض هذا الأمر منذ العام 1923، لكن لا توجد وثائق أو خطابات تؤكد ذلك. المعركة العلنية والمفتوحة من أجل خروج الشيوعيين الصينيين من الكومينتانغ بدأت في آذار 1927.
المعارضة المشتركة ضد ستالين، التي بدأها تروتسكي وأنصاره في نيسان 1926 إلى جانب مجموعة زينوفييف، لم تدعم مطلب تروتسكي بالانشقاق منظم للحزب الشيوعي الصيني من الكومينتانغ. تروتسكي أدرك أن هذا التنازل إلى زينوفييف كان خطأ (زينوفييف كان رئيسا للكومنترن حتى تشرين الأول 1926، وبالتالي كان مسؤولا مشتركا مع ستالين وبوخارين عن السياسة الصينية).
فقط في 4 آذار 1927، طرح تروتسكي علانية، في “رسالته الثانية إلى راديك”، مسألة الخروج من حزب الكومينتانغ: “إذا أردنا أن نحاول إنقاذ الحزب الشيوعي الصيني من الانحدار في النهاية إلى المنشفية، فلا يحق لنا تأجيل طلب الانسحاب من الكومينتانغ ليوم إضافي واحد.
في الواقع، حتى تلك اللحظة، لم تكن الأحداث الصينية قد احتلت مكانة هامة في نضال تروتسكي السياسي. ولكن، بين آذار وأيلول 1927، في خضم الثورة الصينية وخيانة الكومنترن، خضع فكره لنضج عميق.
مورينو، في كتابه “خيانة المنظمة الشيوعية الأممية”، اقتبس رسالة كتبها تروتسكي بتاريخ 22 آذار 1927، طالب فيها بفصل الشيوعيين كليا عن الكومينتانغ ، لكنه كان لايزال يدرج إمكانية مشاركتهم في حكومة مشتركة:
“بالطبع، لا يمكن للشيوعيين التخلي عن دعمهم للجيش الوطني والحكومة الوطنية، ولا يمكنهم على ما يبدو رفض أن يكونوا جزء من الحكومة الوطنية. لكن مشكلة الاستقلال التنظيمي الكامل للحزب الشيوعي الصيني، أي انسحابه من الكومينتانغ لا يمكن تأجيله ليوم إضافي واحد (…) يمكن للشيوعيين تشكيل حكومة موحدة مع حزب الكومينتانغ بشرط الانفصال التام عن الأحزاب التي تشكل الكتلة السياسية”.
في 3 نيسان، بعد 12 يوما فقط، ذهب إلى أبعد من ذلك في مقال بعنوان “العلاقات بين الطبقات والثورة الصينية”. وفي الوقت الذي أعلن فيه بشكل قاطع أن “احتجاز الحزب الشيوعي الصيني كرهينة في صفوف حزب الكومينتانغ يبلغ الخيانة موضوعيا”، دعا العمال الصينيين إلى إنشاء سوفييتات، على غرار عمال هونج كونج.
ومع ذلك، على عكس الوضع خلال الثورة الروسية، لم يكن قد دعا بعد إلى الثورة البروليتارية، بل إلى “دكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية”:
“هذه ليست ثورة اشتراكية بل ثورة برجوازية ديمقراطية. وفيها طريقان: الاتجاه البرجوازي ضد الفلاح العامل”.
كلينين قبل أطروحات نيسان، يدافع تروتسكي هنا عن “دكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية”:
“الثورة الصينية قادرة تماما على إيصال تحالف العمال والفلاحين إلى السلطة السياسية تحت قيادة البروليتاريا. هذا النظام من شأنه أن يكون هو ما يربط الصين بالثورة العالمية. وخلال الفترة الانتقالية، سيكون للثورة طابع عمالي فلاحي ديمقراطي حقيقي. في الاقتصاد، لا شك في أن الرأسمالية التجارية ستسود (…) إمكانية الانتقال من الثورة الديمقراطية إلى الثورة الاشتراكية ستعتمد كليا وحصريا على مسار الثورة العالمية”.
لقد كان بالفعل يعارض بشكل واضح المشاركة في حكومة حزب الكومينتانغ، رغم أنه كان لا يزال يأمل في تحالف مستقبلي مع الجناح اليساري للحزب، والذي من شأنه أن يؤدي إلى ظهور “حكومة العمال والفلاحين”، والتي بدورها ستتجسد في “دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية”:
“هل ينبغي لمندوبي الحزب الشيوعي الصيني المشاركة في الحكومة الوطنية؟ إذا كانت حكومة تتوافق مع المرحلة الجديدة للثورة، وتشكيل حكومة عمال وفلاحين، فلا شك أن عليهم أن يفعلوا هذا. في الحكومة الوطنية الحالية لا سبيل لذلك ( …) بعد الاستيلاء الثوري على شنغهاي ، أصبحت العلاقات السياسية القديمة غير مستدامة. لا بد من تمرير القرار الصحيح تماما في الجلسة العامة للحزب الشيوعي الصيني في حزيران، والذي يطالب الحزب بالانسحاب من الكومينتانغ وتشكيل كتلة معه من خلال جناحه اليساري”.
أخيرا في أيلول 1927، بعد استخلاص دروس الهزيمة الرهيبة التي تعرضت لها الثورة الصينية، أعلن تروتسكي بشكل لا لبس فيه، للمرة الأولى، أن الطريق الوحيد لانتصارها هو ديكتاتورية البروليتاريا:
“نظرا لوجود حالة حرب أهلية بين القوات الثورية والكومينتانغ، لا يمكن للحركة الثورية أن تنتصر إلا بقيادة الحزب الشيوعي الصيني، وفقط عبر الشكل السوفييتي لنواب العمال والجنود والفلاحين (…) وهذا يتطلب برنامجا لفترة الصراع على السلطة، والاستيلاء عليها وإقامة النظام الجديد (…) بعبارة أخرى، القضية الآن هي دكتاتورية البروليتاريا (…) الثورة الصينية في مرحلتها الجديدة ستنتصر فقط كدكتاتورية البروليتاريا أو أنها لن تنتصر “.
في رسالته الموجهة إلى بريوبرازنسكي بتاريخ 21 نيسان 1928، يلخص تطور موقفه بالقول:
“من نيسان إلى أيار 1927، أيدت شعار دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية في الصين (وبصورة أدق ، قبلت هذا الشعار) لدرجة أن القوى الاجتماعية لم تكن قد أصدرت بعد حكمها السياسي رغم من أن الوضع في الصين كان أقل ملاءمة لهذا الشعار من ذلك الذي كان قائما في روسيا. بعد العمل التاريخي الهائل الذي أصدر حكمه (تجربة ووهان) أصبح شعار الديكتاتورية الديمقراطية رجعيا وسيؤدي حتما إلى الانتهازية أو المغامرة “.
تروتسكي نظم استنتاجاته في حزيران 1928 في ورقة بعنوان “الأممية الثالثة بعد لينين”.
في هذا العمل (نقد برنامج ستالين وبوخارين للمؤتمر السادس للكومنترن)، في الفصل الذي يحمل عنوان “التوازن وآفاق الثورة الصينية: دروسها لبلدان الشرق وللأممية الشيوعية بأكملها”، يتناول تروتسكي التجربة الروسية لتحليل الثورة الصينية وتفصيل نظرية الثورة الدائمة:
“تقديم الأشياء على أن نير الاستعمار يمنح بالضرورة طابعا ثوريا للبرجوازية الاستعمارية هو إعادة إنتاج للخطأ الأساسي للمنشفية، التي كانت تعتقد أن الطبيعة الثورية للبرجوازية الروسية يجب أن تنشأ من الاضطهاد المطلق والإقطاعي”.
“نفس الأسباب الموضوعية والاجتماعية والتاريخية التي حددت ظهور ثورة أكتوبر في روسيا يمكن إيجادها في الصين بل وبمظهر أكثر حدة. فالقطبين البرجوازي والبروليتاري للأمة يتعارضان في الصين بمزيد من التصلب، إن أمكن القول، ما كان عليه الوضع في روسيا”.
“وإذا كنا، منذ خطواتنا الأولى، قد علمنا عمال روسيا ألا يؤمنوا بأن الليبرالية كانت مستعدة للإطاحة بالقيصرية وإلغاء الإقطاع، ولا بأن الديمقراطية البرجوازية الصغيرة كانت قادرة على ذلك، بنفس الطريقة، كان ينبغي أن نلقح، منذ البداية، هذا الشعور بعدم الثقة للعمال الصينيين”.
“اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية أوضحت أن الثورة يجب أن تضمن للصين إمكانية التطور على طريق الاشتراكية. هذا الهدف لا يمكن تحقيقه إلا إذا لم تنخرط الثورة في المهام الديمقراطية البرجوازية، فقط إذا كانت في نموها، من خلال الانتقال من مرحلة إلى أخرى، أي من خلال التطور دون انقطاع (أو بشكل دائم)، فإنها ستقود الصين إلى التطور الاشتراكي. وهذا بالضبط ما فهمه ماركس على أنه ثورة دائمة “.
“من الواضح أنه لا يمكننا، في المستقبل، التخلي عن مثل هذه الاتفاقيات، التي تقيد بصرامة وتخدم في كل مرة هدفا محددا بوضوح. هذا هو الحال، مثلا، عندما يتعلق الأمر باتفاق مع طلبة الكومينتانغ من أجل تنظيم مظاهرة مناهضة للإمبريالية (…) فإن الشرط الوحيد لأي اتفاق مع البرجوازية، هو عقد اتفاق عملي منفصل، يقتصر على التدابير المحددة والملائمة لكل حالة، وعدم الخلط بين المنظمات أو الأعلام ، لا بشكل مباشر أو غير مباشر، ولا ليوم، ولا حتى لمدة ساعة، والتمييز بين الأحمر والأزرق، وعدم الاعتقاد مطلقا بأن البرجوازية قادرة على قيادة نضال حقيقي ضد الإمبريالية …”.
“كان على لينين مئات المرات أن يدافع عن ثورة أكتوبر البروليتارية، التي تجرأت على انتزاع السلطة رغم أن المشاكل البرجوازية والديمقراطية لم يكن قد تم حلها بعد؛ أجاب لينين: تحديدا هذا هو السبب، وتحديدا لإعطائهم سببا”.
“الثورة الصينية في مرحلتها الجديدة ستنتصر كدكتاتورية البروليتاريا أو أنها لن تنتصر”.
في كتاب “الثورة الدائمة” عام 1929، يعمم تروتسكي استنتاجات الثورة ويطور نظرية الثورة الدائمة كنظرية عالمية للثورة. في هذا العمل بلغ أوجه وقام بتأطير الاستراتيجية اللينينية بشأن القوميات وأطروحات المؤتمر الثاني للكومنترن.
تروتسكي يلخص الاستنتاجات في الأطروحات النهائية، “ما هي الثورة الدائمة؟ (الرسائل الأساسية)”. دعنا نلقي نظرة على بعضها:
“ثانياً – فيما يتعلق ببلدان التطور البرجوازي المتأخر، ولا سيما البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، فإن نظرية الثورة الدائمة تعني أن الحل الكامل والحقيقي لمهامها الديمقراطية وتحررها الوطني لا يمكن تصوره إلا من خلال ديكتاتورية البروليتاريا كقائدة للأمة المضطهدة، وفي مقدمتها وقبل أي شيء آخر جماهير الفلاحين”.
“رابعاً – بصرف النظر عن المراحل الأولى للثورة في البلدان المختلفة، فإن تحقيق التحالف الثوري بين البروليتاريا والفلاحين لا يمكن تصوره إلا تحت القيادة السياسية للطليعة البروليتارية المنظمة في حزب شيوعي. وهذا بدوره يعني أن انتصار الثورة الديمقراطية لا يمكن تصوره إلا من خلال دكتاتورية البروليتاريا، المدعومة بالتحالف مع الفلاحين، والتي تهدف في المقام الأول إلى تنفيذ مهام الثورة الديمقراطية”.
“سابعا_ إن ميل الأممية الشيوعية لأن تفرض على الشعوب الشرقية اليوم شعار دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديموقراطية، والذي تجاوزه التاريخ نهائيا لفترة طويلة، لا يمكن إلا أن يكون له طابع رجعي. حيث أن هذا الشعار يعارض شعار دكتاتورية البروليتاريا ، ويسهم سياسيا في تفكك هذا الأخير في صفوف جماهير البرجوازية الصغيرة، وبالتالي يهيئ أفضل الظروف لهيمنة البرجوازية الوطنية، وبالتالي لفشل الثورة الديمقراطية. دمج هذا الشعار في برنامج الأممية الشيوعية يمثل في حد ذاته فعليا خيانة مباشرة للماركسية وتقاليد أكتوبر البلشفية”.
“11_ مخطط تطور الثورة العالمية، كما يمكن استنتاجه، يلغي مشكلة التمييز بين البلدان “الناضجة” والبلدان “غير الناضجة” للاشتراكية، بمعنى التصنيف الميت والمتحذلق الذي أسسه البرنامج الحالي لـ الأممية الشيوعية. إن الرأسمالية، من خلال خلق سوق عالمي، والتقسيم العالمي للعمل، والقوى المنتجة في العالم، هي المسؤولة عن إعداد الاقتصاد العالمي ككل للتحول الاشتراكي. وسيتم تنفيذ عملية التحول هذه بمعدلات مختلفة وفقا لـ البلدان المختلفة. في ظل ظروف معينة، يمكن للبلدان المتخلفة أن تصل إلى دكتاتورية البروليتاريا قبل الدول المتقدمة، بل وإلى الاشتراكية فيما بعد … “.
هذه المواقف تتلخص أخيرا في البرنامج الانتقالي في فصل “الدول المتخلفة وبرنامج المطالب الانتقالية”:
“البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة بطبيعتها بلدان متخلفة. لكن هذه البلدان المتخلفة تعيش في ظروف هيمنة الإمبريالية على العالم. وهذا هو السبب في أن تنميتها لها طابع مشترك: فهي تجمع في ذات الوقت بين أكثر الأشكال الاقتصادية بدائية وأحدث تقنيات الحضارة الرأسمالية. هذا هو ما يحدد سياسة بروليتاريا البلدان المتخلفة: فهي ملزمة بدمج النضال من أجل المهام الأساسية للاستقلال الوطني والديمقراطية البرجوازية مع النضال الاشتراكي ضد الإمبريالية العالمية”.
“المطالب الديمقراطية والمطالب العابرة ومهام الثورة الاشتراكية لم تكن منفصلة في عهود تاريخية مختلفة، بل إنها تنشأ مباشرةعن بعضها البعض. وبعد أن بدأت لتوها في بناء النقابات، اضطرت البروليتاريا الصينية بالفعل إلى التفكير في السوفيتات. وبهذا المعنى، فإن البرنامج الحالي قابل للتطبيق بالكامل في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، على الأقل في تلك التي تكون فيها البروليتاريا قادرة بالفعل على أن تكون لها سياسة مستقلة “.
“الثقل النسبي لكل من المطالب الديمقراطية والانتقالية في نضال البروليتاريا، وعلاقتها المتبادلة ونظامها المتسلسل تحدده، إلى حد كبير، خصوصيات وظروف كل بلد متخلف، ودرجة تخلفه. ولكن الاتجاه العام للتطور الثوري في كافة البلدان المتخلفة يمكن تحديده عبر صيغة الثورة الدائمة بالمعنى الذي تم تأكيده من خلال الثورات الثلاث لروسيا (1905، فبراير 1917، وأكتوبر 1917)”.

سادسا_ تروتسكي: حالتي أوكرانيا وإسبانيا في الثلاثينيات

نعتقد أنه من المهم إنهاء هذا العمل من خلال دراسة كيفية تعامل تروتسكي مع بعض حالات الاضطهاد القومي الهامة والمعقدة. نعتقد أنها أمثلة رائعة ومفيدة للغاية لتطبيق المبادئ والاستراتيجية والمنهجية الماركسية على “أحد أكثر أشكال الصراع الطبقي تعقيدا”.
1.6 “من أجل أوكرانيا سوفييتية مستقلة وحرة وموحدة”
المثال الأول هو موقفه حول أوكرانيا في العام 1939، قبل وقت قصير من معاهدة هتلر-ستالين واندلاع الحرب العالمية الثانية، والتي وقعت بعد ثمانية أيام من توقيع تلك المعاهدة.
كان أول ما فعله تروتسكي هو تحديد المشكلة الأوكرانية استراتيجيا:
“مصلوبة بين أربع دول [التي تتقاسمها] ، تحتل أوكرانيا الآن فيما يتعلق بمصير أوروبا نفس الموقف الذي سبق وأن احتلته بولندا، مع اختلاف أن العلاقات الدولية حاليا أكثر توترا وإيقاع الصيرورة أسرع بكثير.”
وأضاف: “الأممية الثانية [بما في ذلك جناحها اليساري] تجاهلت تماما المسألة الأوكرانية (…) الحزب البلشفي تمكن، ليس بدون صعوبة، وبشكل تدريجي فقط تحت الضغط المستمر من لينين، من امتلاك نهج صحيح (.. .) في مفهوم الحزب البلشفي القديم، كان مقدرا لأوكرانيا السوفيتية أن تصبح المحور القوي الذي تتحد حوله القطاعات الأخرى للشعب الأوكراني. (…) خلال الفترة الأولى من وجودها، كانت أوكرانيا السوفيتية قوة جذب جبارة.”
هذا الوضع تغير بشكل جذري مع الثورة الستالينية المضادة:
“ليس هناك أي أثر لثقة الجماهير الأوكرانية السابقة وتعاطفهم مع الكرملين. منذ آخر عملية تطهير دموية في أوكرانيا، لم يرغب أي شخص في الغرب في أن يصبح جزء من ولاية الكرملين، والتي كانت لاتزال تحمل اسم أوكرانيا السوفيتية “.
هذا التوصيف العام استند إلى شعار “من أجل أوكرانيا سوفييتية للعمال والفلاحين، متحدة، وحرة ومستقلة”.
6 .1.1 “نحن غافلون عن طائفة الشغف بحدود الدولة”.
تروتسكي لم يتعامل مع العلاقة المتناقضة بين المركزية والاستقلال الوطني على أساس الاعتبارات والمعايير المجردة فوق التاريخية، بل على أساس الاحتياجات الملموسة التي عبرت عنها الثورة. تاليا رده على المعارضين الستالينيين لاستقلال أوكرانيا:
“لكن” أصدقاء الكرملين سيصرخون كجوقة، “استقلال أوكرانيا السوفييتية سيعني انفصالها عن الاتحاد السوفييتي! ما هو الرهيب في ذلك، نرد: نحن غافلون عن طائفة الشغف بحدود الدولة.”
“التحريض المجرد لصالح المركزية ليس له وزن كبير بحد ذاته (…) من الناحية السياسية، لا يتعلق الأمر بما إذا كان من المرغوب فيه “بشكل عام” أن تتعايش القوميات المختلفة داخل أطر دولة واحدة، بل ما إذا كانت كل جنسية، على أساس تجربتها الخاصة، تعتبر الانضمام إلى دولة معينة أمرا مفيدا (…) من المؤكد أن انفصال أوكرانيا خسارة عند مقارنته بالفيدرالية الاشتراكية الطوعية والمساواة، لكن سيكون له أفضلية لا جدال فيها على الخنق البيروقراطي للشعب الأوكراني. لكي نتحد بشكل أوثق وأصدق، من الضروري أحيانا أن ننفصل أولا”.
إلى جانب مشكلة الحدود، أضاف معارضو تروتسكي اعتراضهم الاقتصادي:
“اقتصاد أوكرانيا السوفييتية هو جزء لا يتجزأ من الخطة. انفصالها من شأنه أن يهدد بهدمها وتقويض القوى المنتجة.”
“هذه الحجة ليست حاسمة أيضا. الخطة الاقتصادية ليست كتابا مقدسا. إذا اندفعت القطاعات الوطنية للاتحاد، رغم توحيد الخطة، في اتجاهين متعاكسين، فهذا يعني أن الخطة لا ترضيهم. الخطة هي من صنع الرجال. ويمكن إعادة بنائها وفقا للحدود الجديدة. وبقدر ما تكون الخطة مفيدة لأوكرانيا، فإنها سترغب في الدخول بالاتفاقيات الاقتصادية الضرورية مع الاتحاد السوفييتي، وستجد طريقة للقيام بذلك”.
.2.1.6 استقلال أوكرانيا يبدأ بالنضال من أجل الثورة الاشتراكية العالمية، تروتسكي لم يعتبر المعركة من أجل استقلال أوكرانيا معركة منعزلة، بل جزء من النضال من أجل الثورة السياسية في الاتحاد السوفياتي والدول السوفييتية المتحدة في أوروبا:
“طالما أن المسألة تعتمد على القوة العسكرية للدول الإمبريالية، فإن انتصار هذا الجانب أو ذاك لا يمكن أن يعني سوى تقطيع أوصال جديد وحتى تبعية أكثر وحشية للشعب الأوكراني. برنامج استقلال أوكرانيا في زمن الإمبريالية يرتبط ارتباطا مباشرا لا ينفصم ببرنامج الثورة البروليتارية، وسيكون من الإجرام تغذية أي وهم في هذا الصدد”.
“…أوكرانيا العمال والفلاحين المستقلة يمكن أن تنضم عندها إلى الاتحاد السوفييتي، ولكن طواعية، بشروط تعتبرها هي نفسها مقبولة، ما يفترض بدوره تجديدا ثوريا لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية. التحرر الحقيقي للشعب الأوكراني لا يمكن تصوره دون ثورة أو سلسلة من الثورات في الغرب، والتي يمكن أن تؤدي في النهاية إلى إنشاء الولايات السوفيتية المتحدة في أوروبا”.
6 .2 كاتالونيا في الثلاثينيات
لنقدم بداية تأطيرا تاريخيا موجزا للمشكلة. في 14 نيسان1931 سقط النظام الملكي الأسباني وفتح الباب لمرحلة ثورية في كافة أنحاء البلاد. الدولة الإسبانية كانت إحدى الحلقات الضعيفة للرأسمالية الأوروبية. وكانت تنتمي إلى مجموعة البلدان المتخلفة في القارة (“تخلفها [له] طابع خاص يحدده الماضي التاريخي البعيد للبلد”). هذا التخلف أضعف الميول المركزية المتأصلة في الرأسمالية، والتي تطورت قبل كل شيء في محيط إقليمي الباسك وكاتالونيا، علاوة على ذلك، مع لغتهما وتاريخهما، عادت الميول الانفصالية، التي برزت خلال الفترة السابقة لدكتاتورية بريمو دي ريفيرا (1923-1930)، إلى الظهور بقوة متجددة بعد سقوط النظام الملكي، وأبرزت “المهمة الديمقراطية لتقرير المصير الوطني”.
6 .2. 1 الأمة المستبدة والأمة المضطهدة
كانت نقطة انطلاق تروتسكي، مثل ماركس حول ايرلندا ومثل لينين، هي التمييز بين الأمة المستبدة والأمة المضطهدة. بعد شهر من إعلان الجمهورية، لذا خاطب رفاق مدريد، عاصمة البلد المستبد:
“لا يمكن أن نغفل للحظة أن إسبانيا ككل وكاتالونيا، باعتبارها جزء أساسيا من ذلك البلد، محكومة حاليا، ليس من قبل القوميين الديمقراطيين الكاتالونيين، ولكن من قبل الإمبرياليين الإسبان البرجوازيين، المتحالفين مع كبار ملاك الأراضي، البيروقراطيين القدامى والجنرالات، بدعم من الاشتراكيين الوطنيين [حزب العمال الاشتراكي الإسباني]. هذه الأخوية برمتها تعتزم الحفاظ على عبودية المستعمرات الإسبانية، من ناحية، ومن ناحية أخرى ضمان أقصى قدر من المركزية البيروقراطية للمنطقة؛ أي أنها تريد سحق الباسك والكتالونيين والقوميات الأخرى على يد البورجوازية الإسبانية.
نظرا إلى التركيبة الحالية للقوى الطبقية، فإن القومية الكتالونية هي عامل ثوري تقدمي في المرحلة الحالية. والقومية الإسبانية عامل رجعي إمبريالي. الشيوعي الإسباني الذي لا يفهم هذا التمييز، والذي يتجاهله، ولا يقدر أهميته، والذي، على العكس، يسعى لتقليلها، يخاطر بأن يصبح دون وعي عميلا للبرجوازية الإسبانية، وبأن تتم خسارة قضية الثورة البروليتارية إلى الأبد”.
في ذات الوقت، في مواجهة “الخطر الجسيم للغاية” المتمثل في انقسام البروليتاريا الإسبانية إلى قطاعات وطنية، حذر تروتسكي بأنه بالإمكان محاربته بنجاح “بطريقة واحدة فقط”:
“التنديد بلا هوادة بالعنف الذي ترتكبه برجوازية الأمة ذات السيادة، وبالتالي كسب ثقة بروليتاريا القوميات المضطهدة. أي سياسة مختلفة من شأنها أن تكون بمثابة دعم للقومية الرجعية للبرجوازية الإمبريالية التي تمتلك البلاد، ضد القومية الثورية الديمقراطية لبرجوازية القومية المضطهدة الصغيرة”.
6 .2.2. الحق في الاستقلال وتقرير المصير
تروتسكي ميز بين النزعة الانفصالية للبرجوازية الكاتالونية وانفصالية العمال والفلاحين الكاتالونيين، التي وصفها بأنها “غلاف السخط الاجتماعي”. لفصل العمال والفلاحين عن البرجوازية:
“الطليعة البروليتارية عليها أن تتبنى، فيما يتعلق بمسألة تقرير المصير الوطني، الموقف الأكثر جرأة وصدقا. وسيدافع العمال حتى النهاية عن حق الكتالونيين والباسك في تنظيم حياتهم الوطنية المستقلة، في الحدث الذي تعلن فيه غالبية هذه الشعوب اعتزامها الانفصال الكامل”. يمكن التعبير عن هذا “من خلال استفتاء عام، من قبل مجلس ممثلي كاتالونيا، بصوت الأحزاب الرئيسية التي تتبعها الجماهير، أو أخيرا، من خلال انتفاضة وطنية في كاتالونيا”.
في ذات الوقت، قال مثل ما قال لينين بشأن روسيا:
“هذا لا يعني، رغم كل شيء، أن العمال التقدميين يدفعون الكتالونيين والباسك إلى الانفصال. بل على العكس من ذلك، الوحدة الاقتصادية للبلاد، مع الاستقلال الذاتي الواسع للقوميات، ستوفر مزايا عظيمة للعمال والفلاحين من وجهة نظر اقتصادية وثقافية”.
بعد بضعة أشهر، في رسالة إلى أندرو نين، دفع تروتسكي بوجهة نظره بشكل أشد صعوبة مضمنا إياها تحذيرا:
“تكتب عن الخطر الذي نواجهه من المساعدة غير الطوعية لليبرالية مدريد إذا كنا راضين عن إعلان أن” بلقنة “شبه الجزيرة الأيبيرية تتعارض مع أهداف البروليتاريا. أنت محق؛ إذا لم أكن قد فعلت ذلك في رسالتي السابقة فإنني أشير هنا إلى هذا الخطر، والآن أنا على استعداد للقيام بذلك عشر مرات …”.
“… بدون معارضة الثورة الديمقراطية، بل على العكس تماما، بدعمها دون تحفظ، حتى في إطار الفصل (أي الحفاظ على النضال، ولكن ليس الأوهام)، علينا التحريض على موقفنا المستقل تجاه الثورة الديمقراطية، والتوصية، وتقديم المشورة، واقتراح فكرة اتحاد الجمهوريات السوفيتية لشبه الجزيرة الأيبيرية، كجزء من الولايات المتحدة في أوروبا. هذا هو تصوري، المبين بالتفصيل. وغني عن القول أن على رفاق مدريد والرفاق الإسبان بشكل عام، استخدام حجة “البلقنة” بتقدير خاص”.
6 .2 .3 صيف 1934: تروتسكي مع “إعلان الجمهورية الكتالونية المستقلة.
التاريخ لم يتوقف عند العام 1931، وفي عام 1934 عانى الصراع الطبقي من تسارع حاد ومكثف ضرب كاتالونيا بكامل قوته. في المرحلة الجديدة التي نشأت، لم يتردد تروتسكي في الدعوة إلى منعطف تكتيكي جذري. الكفاح الاستراتيجي استمر من أجل الحق في تقرير المصير ومن أجل “اتحاد الجمهوريات السوفيتية لشبه الجزيرة الأيبيرية، كجزء من الولايات المتحدة الأوروبية “ليشارك في المعركة من أجل “إعلان الاستقلال الفوري لجمهورية كاتالونيا”.
دعونا نلقي نظرة أولا إلى السياق التاريخي: في نهاية العام 1933، عام صعود هتلر إلى السلطة، فاز اليمين الإسباني (مع حزب موالي للفاشية، الاتحاد الإسباني لحقوق الاستقلال، كأول قوة برلمانية) بالانتخابات، ما أدى إلى ظهور حكومة رجعية واشتباكات شديدة مع الحركة العمالية ومع كاتالونيا. المواجهة مع الكتالونيين تركزت على قانون عقود الزراعة، الذي وافق عليه البرلمان الكتالوني تحت ضغط من الفلاحين الفقراء المستأجرين للأراضي (الرباسير). ناشد كبار ملاك الأراضي الكاتالونية حكومة مدريد، التي علقت القانون. ومع ذلك، تحت ضغط الفلاحين والضغط الشعبي، تمت الموافقة على القانون مرة أخرى بنفس الشروط من قبل البرلمان الكاتالوني، ما فرض سيناريو التصادم المباشر بين الحكومة الإسبانية وعموميات كاتالونيا بقيادة إسكويرا ريبوبليكانا دي كاتالونيا، حزب البرجوازية الصغيرة الكاتالونية.
المواجهة الوشيكة اقتربت وباتت المحور الرئيسي في الصدام العام للحركة العمالية في كل أنحاء الدولة الإسبانية ضد حكومة مدريد الرجعية، حيث وعدت المنظمات العمالية أنه في حالة انضمام الاتحاد الإسباني لحقوق الاستقلال، إلى الحكومة – كما حدث فعلا- فسوف تقوم بالتمرد.
عند هذا المنعطف الجديد أرسل تروتسكي، في تموز 1934، رسالة إلى قادة اليسار الشيوعي الإسباني، والتي تم تسليمها لهم مع رسالة أخرى بنفس المعنى موقعة من قبل رئيس قسم أسبانيا في الأمانة الأممية آنذاك، ألفونسو ليونيتي (“مارتن”). انتقدت الرسائل المذكورة بقسوة كبيرة عمل محكمة الهجرة والجنسية واقترحت تغييرا جذريا في شعاراتها وتكتيكاتها في مواجهة المشكلة الكاتالونية. تبدأ رسالة تروتسكي بالتقييم التالي:
“كاتالونيا اليوم تمثل، بلا منازع، الموقف الأكثر صلابة للقوى الدفاعية في مواجهة رد الفعل الإسباني والخطر الفاشي. إذا فقد هذا الموقف، ستحقق الرجعية انتصارا حاسما ولفترة طويلة. بسياسة عادلة، يمكن للطليعة البروليتارية أن تستخدم هذا المعقل الدفاعي كنقطة انطلاق لشن هجوم جديد للثورة الإسبانية. يجب أن يكون هذا هو منظورنا”.
“هذا التطور ممكن فقط إذا تمكنت البروليتاريا الكتالونية من تولي قيادة النضال الدفاعي ضد الحكومة المركزية الرجعية في مدريد. لكن هذا بدوره ممكن فقط إذا لم تقم البروليتاريا الكاتالونية بالوعد بـ ‘دعم’ هذا النضال ‘عندما يبدأ ” فحسب … (سياسة الاتباع هذه دعا إليها رفاقنا داخل تحالف العمال في كاتالونيا ودافعوا عنها ضد موريان) ولكن إذا وضعت نفسها منذ البداية على رأس حركة المقاومة، وإذا وضحت وجهات النظر وأطلقت شعارات جريئة بشكل متزايد وقادت النضال منذ البداية ليس بالأقوال بل بالأفعال”.
6 .2. 4 ما هي السياسة في مواجهة الصدام الوشيك؟
“كاتالونيا يمكنها أن تصبح محور الثورة الإسبانية. يجب أن يكون اتتزاع القيادة في كاتالونيا في صميم سياستنا بأسبانيا. إن سياسة رفاقنا ومنظمة تحالف العمال تجعل هذا الأمر مستحيلا تماما. علينا تغيير هذه السياسة بسرعة إذا كنا لا نريد للوضع الحاسم أن ينتهي بسبب خطأنا بهزيمة جديدة للثورة الإسبانية، والتي ستكون حاسمة لفترة طويلة. يجب ألا نخفي حقيقة أن سياسة رفاقنا بشأن هذه المسألة قد أضرت حتى الآن بشدة ليس بهيبة منظمتنا فحسب، بل بالبروليتاريا نفسها، ولا يمكن إصلاح هذه السياسة إلا من خلال تحول جذري ومقنع بالحقائق.
موقف رفاقنا وتحالف العمال لا يمكن فهمه من الجماهير العاملة غير البروليتارية إلا على النحو التالي: تتعهد البروليتاريا من خلال هذه المنظمات بالمشاركة إذا بدأ الآخرون، لكنها تطلب مقابل حتى هذا الموقف (الشروط التي وضعتها تحالف العمالعلى البرجوازية الصغيرة تتجاهل تماما مصلحة الفلاحين والبرجوازيين الصغار في المناطق الحضرية)، وستحاول، حالما تسمح لها الإمكانية، أن توجه النضال في سياق أهدافه الطبقية، دكتاتورية البروليتاريا. فبدلا من الظهور كقائدة لكل الفئات المضطهدة من الأمة، كقائدة للتحرر الوطني، تظهر البروليتاريا هنا كمجرد رفيق للطبقات الأخرى، حتى كرفيق أناني للغاية، من الضروري منحها الوعد بنصيبها ما دامت هناك حاجة إليها”.
“يجب أن يتمثل دور رفاقنا في المقام الأول في ما يلي: عليهم التحريض (عبر منظمتنا وتحالف العمال) على إعلان الجمهورية الكتالونية، وعليهم المطالبة بضمان التسلح الفوري لكل الشعب. يجب ألا ينتظروا الحكومة [العامة] لتسليحهم، بل أن يبدأوا على الفور في تشكيل ميليشيات عمالية لن تكتفي بطلب أفضل المعدات من الحكومة، بل تسعى إليها بنفسها من خلال نزع سلاح الرجعيين والفاشيين. على البروليتاريا أن تثبت بالعمل للجماهير الكاتالونية أن لها مصلحة مقدسة في الدفاع عن استقلال كتالونيا. وهنا تكمن الخطوة الحاسمة نحو انتزاع القيادة في نضال كافة الشرائح الاجتماعية المستعدة للدفاع عن المدينة والريف”.
“نظرا إلى الانقسام الشديد الذي تعيشه البروليتاريا الكتالونية، والذي لا يسمح لها ببسط هيمنتها في كاتالونيا، لا يمكنها، في الوضع الحالي، إعلان استقلال كاتالونيا بنفسها. ولكن يمكنها ويجب عليها أن تطالب الحكومة البرجوازية الصغيرة بهذا الإعلان”.
طبعا، معركة إعلان الجمهورية الكتالونية لم تجعل من تروتسكي “انفصاليا”. كما كتب ألفونسو ليونيتي نيابة عن الأمانة الأممية للرابطة الشيوعية الأممية:
“من الواضح أننا نحن الماركسيين لسنا” انفصاليين”، لكننا لسنا” ديمقراطيين “أيضا. رغم هذا، من خلال النضال من أجل” الديمقراطية”، فإننا نعتزم الوصول إلى الاشتراكية والسلطة البروليتارية. الأمر نفسه بالنسبة للمسألة القومية.
في النضال من أجل استقلال كاتالونيا، من أجل جمهورية كاتالونيا، على الطبقة العاملة، باختصار، أن لا تغفل للحظة أن مهمتها هي النضال من أجل جمهورية عمال وفلاحين كاتالونية حرة داخل جمهورية العمال والفلاحين الحرة لإسبانيا..”.
في النهاية، من المثير للاهتمام ملاحظة أنه مثلما لم يدافع تروتسكي عن إعلان استقلال كاتالونيا قبل العام 1934، فإنه لم يفعل ذلك أيضا بعد اندلاع الثورة الإسبانية ردا على الانقلاب العسكري الفاشي في 18 تموز 1936 عندما أصبحت الظروف التاريخية مختلفة تماما عن ظروف العام 1934.
6 .3 بعض الاستنتاجات الرئيسية من القضايا المذكورة أعلاه
الاستنتاج المشترك بينها هو أنه لا توجد معايير ثابتة أو “مجردة” تحدد السياسة الملموسة، بصرف النظر عن مسار ظروف الصراع الطبقي. بل على العكس، المطالب التاريخية الملموسة في كل سيناريو محدد هي التي تحدد التكتيكات والشعارات الملموسة التي نطبق عبرها البرنامج الثوري.
في حالة أوكرانيا، شدد تروتسكي على أن الانفصال عن الاتحاد السوفيتي رغم كونه أدنى من وجود فدرالية اشتراكية طوعية ومتساوية مجردة وغير موجودة، إلا أنه كان تحسينا لا جدال فيه على القمع الستاليني الوحشي. وبالمثل، شكك في التأكيد المجرد الذي بموجبه من شأن الاستقلال أن “يقلل من القوى المنتجة”، من خلال فصل أوكرانيا عن الخطة. وقال إن الخطة الاقتصادية ليست “كتابا مقدسا” بل هي من صنع الناس ويمكن إعادة بنائها وفقا للحدود الجديدة.
في حالة كاتالونيا في الثلاثينيات، حدد تروتسكي بوضوح المكونين المركزيين والدائمين للبرنامج الثوري: حق تقرير المصير للكتالونيين والباسك واتحاد الجمهوريات الاشتراكية، الذي لا يغفل البعد الأممي، كجزء من النضال من أجل الولايات الاشتراكية المتحدة في أوروبا. وبين، في ذات الوقت، كيف يمكن للدفاع عن هذا البرنامج أن يتخذ تعبيرات تكتيكية مختلفة للغاية عندما يتغير الوضع فجأة. إذا كان حتى العام 1934 قد دافع عن حق تقرير المصير من خلال معارضته للاستقلال، فإنه في أكتوبر من ذلك العام، في مواجهة الصدام الوشيك بين كاتالونيا والحكومة المركزية، لم يتردد في وضع نفسه في طليعة النضال من أجل “إعلان الجمهورية الكتالونية المستقلة” من أجل “استخدام هذا المعقل الدفاعي كنقطة انطلاق لشن هجوم جديد للثورة الإسبانية”، باتجاه اتحاد الجمهوريات الاشتراكية الأيبيرية.

سابعا.. الأطروحة الثامنة والعشرون حول المسألة القومية لمورينو “تحديث البرنامج الانتقالي”

هذا القسم مخصص للأطروحة الثامنة والعشرين لتحديث البرنامج الانتقالي لمورينو. والسبب هو أن هذه الأطروحة، التي كانت مرجعا للمشكلة القومية بالنسبة لتيارنا، تحتوي مع ذلك على جانب هام لا بد من تصحيحه.
كتب مورينو، وهو محق تماما، أن “الحق في تقرير المصير القومي شعار جبري مليء بمحتويات مختلفة وفقا لصيرورة الصراع الطبقي داخل الدولة القومية”. ومع ذلك، قبل كتابته لهذا، اخفى السمة “الجبرية” لهذا الشعار من أجل وضع معيار عالمي، قبل أي تحليل تاريخي ملموس ، لـ “القوميات المضطهدة في بلد موحد جغرافيا”:
“سياستنا في هذه المواقف هي حق تقرير المصير الوطني وليس الاستقلال الوطني والتحرر الوطني. لأنها في هذه الحالة ليست مستعمرة أو شبه مستعمرة ، لكنها قومية مضطهدة”.
الخطأ ليس فقط أنه انغمس في الحتمية قبل تحليل الوضع الملموس، ولكن هذا الخطأ يستند إلى تقييم عام وغير دقيق:
“إننا نعتبر وجود كل دولة قومية تقدما تاريخيا عظيما، ولا نريد العودة إلى بلقنة الدول القومية الحالية، وإلى تقسيمها إلى دول ليليبوتية قومية متعددة لكل جنسية مضطهدة”.
هذا تصريح يتناقض بشدة مع تصريح لينين في أطروحاته، عند إشارته إلى ماركس حول أيرلندا:
“بهذه الطريقة فقط أمكن لماركس (على عكس المدافعين عن رأس المال، الذين يصرخون حول الطابع الطوباوي وغير القابل للتحقيق لحرية انفصال الأمم الصغيرة وعن تقدمية التركيز، ليس اقتصاديا فحسب، بل أيضا سياسيا) أن يدافع عن السمة التقدمية لهذا التركيز عندما يتم بطريقة غير إمبريالية، وكذلك عن التقارب المتبادل بين الأمم، ليس على أساس القوة، بل على أساس الاتحاد الحر للبروليتاريين في كافة البلدان”.
كما أنه يتناقض مع موقف تروتسكي حول أوكرانيا عام 1939:
“التحريض المجرد لصالح المركزية ليس له وزن كبير في حد ذاته. (…) من الناحية السياسية، لا يتعلق الأمر بما إذا كان من المرغوب فيه “بشكل عام” أن تتعايش القوميات المختلفة داخل أطر دولة واحدة ، بل ما إذا كانت كل قومية، استنادا إلى تجربتها الخاصة، تعتبر الانضمام إلى دولة معينة أمرا مفيدا. (…) من المؤكد أن انفصال أوكرانيا سيء عند مقارنته بالفيدرالية الاشتراكية الطوعية والمساواة، لكنه سيكون ميزة لا جدال فيها مقارنة بالخنق البيروقراطي للشعب الأوكراني. لكي نتحد بشكل أوثق وأصدق، من الضروري أحيانا أن ننفصل أولاً “. “إننا غافلون عن طائفة الشغف بحدود الدولة”.
من ناحية أخرى، رغم أن التشكيل التاريخي للدولة الفرنسية أو الألمانية أو الإيطالية كان في الواقع خطوات تاريخية تقدمية، إلا أن هذا لم يكن هو حال الدولة الإسبانية، ولا حال الدولة النمساوية المجرية، ولا روسيا القيصرية، والتي كانت – كما لايزال الأمر في حالة الدولتين الإسبانية والروسية – سجنا حقيقيا للشعوب، لا بد من هدمه واستبداله باتحاد حر وطوعي لهذه الشعوب (ولا يعني هذا على الإطلاق أننا ملزمون بالدفاع في كافة الأوقات والظروف عن شعار إعلان الاستقلال الملموس).
الأطروحة القائلة بأن “وجود كل دولة وطنية هو تقدم تاريخي كبير” تستند إلى اعتبار أنه “لا يمكننا أبدا تحمل هذا التراجع الهائل لقوى الإنتاج الذي قد يعني ظهور دول وطنية جديدة ذات حدود وعادات مستقلة”. هذا تصريح آخر يتناقض بشكل صارخ مع تصريح تروتسكي عام 1939، في وجه أولئك الذين اعترضوا على دفاعه عن استقلالية أوكرانيا:
“اقتصاد أوكرانيا السوفياتية هو جزء لا يتجزأ من الخطة. انفصالها من شأنه أن يهدد بهدمه وتقويض قوى الإنتاج”. “هذه الحجة أيضا ليست حاسمة. الخطة الاقتصادية ليست كتابا مقدسا. إذا اندفعت الأقسام الوطنية في الاتحاد، رغم توحيد الخطة، في اتجاهين متعاكسين، فهذا يعني أن الخطة لا ترضيها. الخطة هي من صنع الرجال. ويمكن إعادة بنائها وفقا للحدود الجديدة. وبقدر ما تكون الخطة مفيدة لأوكرانيا، بقدر ما سترغب في الدخول في الاتفاقيات الاقتصادية الضرورية مع الاتحاد السوفييتي، وستجد طريقة للقيام بذلك”.
الموقف الثوري من النضال ضد الاضطهاد القومي يجب أن تحكمه الاحتياجات الملموسة للصيرورة الثورية، ولا يمكن تحديده من خلال اعتبارات مجردة حول الطابع التقدمي لوجود الدول القومية وتطور قوى الإنتاج. يمكننا أن نضيف أن هذه الحجة الأخيرة قد تم التقليل من قيمتها حاليا في مواجهة الواقع الاقتصادي العالمي الذي شكلته العولمة والاعتماد المتبادل الهائل بين الاقتصادات الوطنية.
كما أن الأطروحة الثامنة والعشرون لا تطور الفكرة المركزية القائلة بأن الحق في تقرير المصير (أي الحق في الانفصال) هو الأساس والشرط الذي لا غنى عنه لتحقيق وحدة العمال (ممكن فقط في النضال ضد اضطهاد الأمة المهيمنة). كما أنها لا تثبت الحاجة إلى سياسات متمايزة بوضوح في الدول المضطهدة وتلك المستبدة.
من أجل كل هذا، علينا التخلى عن هذه الآراء أحادية الجانب، والمضي قدما على أساس النصوص التاريخية الرئيسية الواردة في هذه الوثيقة.

ثامنا.. استنتاجات عامة

مشكلة الهيمنة الإمبريالية على البلدان شبه المستعمرة (والمستعمرات)، وكذلك قمع القوميات عديمة الجنسية والأقليات القومية، هي عنصر مركزي في النضال من أجل الثورة العالمية. إنها تؤثر على القضايا الحيوية المدرجة في جدول أعمالنا فيما يتعلق بالشعوب الأصلية وأفريقيا ومناطق أخرى من العالم.
2. إسهام ماركس في مشكلة أيرلندا كان حاسما في تحديد الموقف الأساسي للماركسية في مواجهة مشكلة الاضطهاد القومي وصلته بالنضال من أجل الثورة الاشتراكية. وكان أيضا علامة فارقة في تطور الماركسية.
3. لينين كان هو من له “الفضل في تطوير استراتيجية ثورية للقوميات المضطهدة”، بما يتناسب مع الحقبة الإمبريالية الجديدة. للقيام بذلك، اعتمد على إسهام ماركس الهائل حول أيرلندا.
دعنا نحاول تلخيص هذه الاستراتيجية في النقاط التالية:
“تقسيم الأمم إلى مضطهدة ومستبدة [هو] حقيقة أساسية وجوهرية وحتمية في ظل الإمبريالية”.
“الثورة الاشتراكية ليست عملا منفردا، ولا معركة على جبهة منعزلة، بل هي حقبة كاملة من الصراعات الطبقية الحادة، وسلسلة طويلة من المعارك على كافة الجبهات، أي على كل مستويات المشاكل الاقتصادية والسياسية.. معارك لا يمكن أن تنتهي إلا بمصادرة أملاك البرجوازية”.
في هذه الصيرورة، “الاشتراكية المنتصرة التي لا تدرك الديمقراطية الكاملة مستحيلة، مثلما لا تستطيع البروليتاريا الاستعداد للانتصار على البرجوازية إذا لم تخض نضالا ثوريا عاما ومتسقا من أجل الديمقراطية”.
إننا ندافع بلا هوادة، كمسألة مبدأ، عن الحق في تقرير المصير، الذي يفهم على أنه الحق في الانفصال السياسي للدول المضطهدة.
المعركة من أجل تقرير مصير الشعوب المضطهدة عنصر أساسي في النضال من أجل الثورة العالمية، وهي جزء لا يتجزأ من النضال من أجل اتحاد حر للجمهوريات الاشتراكية.
“فكرة أن شعار الثورة الاشتراكية يمكن “حجبها” إذا كان الأمر يتعلق بموقف ثوري ثابت بشأن أية مشكلة، بما في ذلك المشكلة القومية، هي فكرة مناهضة للماركسية بعمق”.
وبنفس الطريقة، إننا بحاجة إلى “إخضاع النضال من أجل تقرير المصير، وكذلك كافة المطالب الأساسية للديمقراطية السياسية، لنضال الجماهيرالثوري المباشر من أجل الإطاحة بالحكومات البرجوازية ومن أجل تحقيق الاشتراكية”.
تحديد التكتيكات فيما يتعلق بالقوميات يخضع لاحتياجات الثورة العالمية.
النضال من أجل الحق في الانفصال لا يعني أننا في الدول متعددة القوميات نؤيد أو يجب علينا أن نؤيد مثل هذا الأمر. كقاعدة عامة، نحن ضده لأن الدول الكبيرة، من حيث المبدأ، يمكنها أن تضمن التنمية الاقتصادية ومصالح الجماهير بشكل أفضل.
“ومع ذلك، فإن هذا المعيار العام لا يعفينا على الإطلاق من إجراء تحليل ملموس لكل حالة تاريخية معينة، لأن “الرغبة في انفصال أمة أو أخرى في هذه اللحظة أو تلك يجب أن يعالجها حزب البروليتاريا بشكل مستقل تماما في كل حالة ملموسة”.
“اعتراف البروليتاريا بحق الأمم في الانفصال هو الشيء الوحيد الذي يضمن التضامن الكامل لعمال الأمم المختلفة ويسهل التقارب الديمقراطي الحقيقي بينها”. إن النضال من أجل حق تقرير المصير شرط لا غنى عنه لتحقيق وحدة الطبقة العاملة، وهذا ممكن فقط على أساس النضال المشترك ضد اضطهاد الأمة المهيمنة. “لا يمكن لشعب يضطهد غيره أن يكون حرا”.
النضال من أجل الحق في تقرير المصير يتم التعبير عنه سياسيا بطريقة مختلفة في الأمة القمعية عن نظيرتها في الأمة المضطهدة: في الأمة القمعية، “لا يمكن للبروليتاريا أن تكف عن النضال ضد الإبقاء بالقوة على الأمم المضطهدة داخل حدود دولة معينة، وهذا يعادل تحديدا النضال من أجل حق تقرير المصير. على البروليتاريا أن تطالب بحرية الانفصال السياسي للمستعمرات والدول التي تضطهدها “أمتها”. “من حقنا وواجبنا أن نحكم على كل ديمقراطي اشتراكي في أمة قمعية لا يقوم بمثل هذه الدعاية بأنه إمبريالي وغد. هذا مطلب غير مشروط”.
من جانبه، “على الاشتراكي الديمقراطي للأمة الصغيرة أن يتبنى، كمركز ثقل لحملاته التحريضية، العبارة الأولى في صيغتنا العامة:” الاتحاد الطوعي “للأمم”.
“… عليهم أن يدافعوا وينفذوا بحماسة خاصة الوحدة الكاملة وغير المشروطة، بما في ذلك الوحدة التنظيمية لعمال الأمة المضطهدة مع أبناء الأمة المستبدة. بدون ذلك لا يمكن الدفاع عن السياسة المستقلة للبروليتاريا وتضامنها الطبقي مع بروليتاريا البلدان الأخرى، في ظل أشكال خداع وخيانة وتضليل البرجوازية. لأن برجوازية الأمم المضطهدة تقوم دائما بتحويل شعارات التحرر الوطني إلى خداع للعمال”.
“طالما أن برجوازية الأمة المضطهدة تقاتل ضد الاستبداد، سنكون دوما، في كل الحالات وبشكل أكثر حسما من أي أحد آخر، مؤيدون لهذا النضال، لأننا أكثر أعداء الاضطهاد شجاعة وترابطا. بينما تؤيد برجوازية الأمة المضطهدة قوميتها البرجوازية، فإننا ضدها. علينا محاربة امتيازات وعنف الأمة التي تمارس الاضطهاد دون التسامح مع الرغبة في امتلاك الامتيازات للأمة المضطهدة”.
يعلمنا من سبقونا أنه لا توجد قواعد مجردة مطلقة يمكن تطبيقها في كافة الأوقات والظروف. لينين وتروتسكي كانا يعارضان الانفصال بشكل عام، لكن لينين أيد استقلال النرويج عن السويد في عام 1905 واستقلال فنلندا عن روسيا في عام 1917، تماما كما دافع تروتسكي عن استقلال كاتالونيا في عام 1934 واستقلال أوكرانيا في عام 1939. ونعتقد أنهما كانا محقين عندما عارضا شعار إعلان الاستقلال وعندما أيداه، كان الأمر في كلتا الحالتين رهنا بالظروف التاريخية الملموسة للصيرورة الثورية.
4. استراتيجية لينين الثورية تجد تعبيرها الكامل كجزء لا يتجزأ من البرنامج النظري للثورة الدائمة، كما صاغها تروتسكي في 1927-1929، بعد التجربة التاريخية للثورة الصينية، وبالتوازي مع الأطروحات المتعلقة بالمسألة القومية للمؤتمر الثاني للكومنترن، في مواجهة الانتكاسة التي مثلتها أطروحات الشرق للمؤتمر الرابع.
5. نعتبر أنه من المهم دراسة المنهجية التي طبقها تروتسكي في الحالات المعقدة والمركبة الخاصة لأوكرانيا عام 1939 وكاتالونياعام 1934.
6. في ضوء الاستنتاجات التي تم التوصل إليها، نعتقد أنه من الضرورة مراجعة الطبيعة أحادية الجانب للأطروحة الثامنة والعشرين لمورينو: “تحديث البرنامج الانتقالي”.
____________________________

[1] في تقريره المقدم لهذا المؤتمر يتابع لينين بالقول: “النظرية العامة والممارسة في الشيوعية يجب أن تتكيف مع الظروف الخاصة التي لم تكن موجودة في البلدان الأوروبية، عليهم أن يعرفوا كيفية تطبيق هذه النظرية والممارسة على الظروف التي يكون فيها غالبية السكان من الفلاحين، حيث لا تكون المهمة هي محاربة الرأسمالية بل محاربة بقايا العصور الوسطى”.

“من الواضح. أن الانتصار النهائي لن يكون إلا لبروليتاريا كافة البلدان المتقدمة في العالم، وقد بدأنا، نحن الروس، العمل الذي ستدعمه البروليتاريا الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، لكننا ندرك أنه لا يمكن أن ينجح دون مساعدة الجماهير العاملة لكافة الشعوب المستعمرة المضطهدة، وفي مقدمتها شعوب الشرق”.

“عليهم الاعتماد على القومية البرجوازية التي تستيقظ ويجب أن تستيقظ في تلك الشعوب، والتي لها مبرر تاريخي. وفي الوقت نفسه، عليهم البحث عن كيفية الوصول إلى الجماهير العاملة والمستغلة في كل بلد، والشرح لها بلغة تفهمها أن الأمل الوحيد للتحرر هو انتصار الثورة الأممية، وأن البروليتاريا الأممية هي الحليف الوحيد”. (www.marxist.org)

[2] هذا الاقتباس، وبقية الاقتباسات التي تشير إلى المؤتمرات الأربعة الأولى للكومنترن، تم أخذها من الكتب التي حررها جون ريدل في كتب هايماركت وفي مطبعة باثفايندر. الجرأة لنا.

[3] كان تأسيس اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية بعد بضعة أشهر، في 30 كانون الأول 1922

[4] الصيغة الأولية للينين، والتي تم تعديلها أثناء النقاش، كانت “الحركة الديمقراطية البرجوازية”. لقد افترض المؤتمر التعريف الجديد لـ “الحركة الثورية الوطنية” لتمييزها عن قطاعات البورجوازية القومية والاستعمارية التي كانت تسعى إلى اتفاقيات مع الإمبريالية.

[5] ومع ذلك، تشير البيانات إلى أنه تم التقليل من قيمة الوزن الاجتماعي للبروليتاريا الوليدة والمقاتلة في الصين والهند، والتي لم تكن مختلفة نوعيا عن البروليتاريا الروسية في عام 1905 أو حتى في العام 1917.











[1] رسالة إنجليزية إلى أيون ناديجدة، 4 كانون الثاني 1888

[2] الانجليزية، “لبولندا” في “دولة الشعب”، أذار 1875، مقتبس من قبل روزدولسكي عن إنجلز ومشكلة الشعوب التي لا تاريخ لها

[3] رومان روزدولسكي، إنجلز ومشكلة الشعوب بلا تاريخ

[4] النضال المجري، نشر في جريدة نيو رينيش، العدد 194، في 13 كانون الثاني 1849. وقد أدرج إنجلز أيضا في فئة “شعوب بلا تاريخ” هذه الأسكتلنديين والبريتونيين والباسكيين. نقلا عن روزدولسكي

[5] بالانجليزية، “القومية السلافية الديمقراطية”، شباط، 1849، نقلا عن روزدولسكي

[6] ماركس، “البرجوازية والثورة المضادة”، 11 كانون الأول 1848

[7] نازارينو جوديرو، “الماركسية والمسألة القومية والاستعمارية”

[8] الجرأة لنا. نفس الشيء ورد بالخط العريض في بقية الاستشهادات

[9] إنجلز، “الحراكات منذ 1847″، 23 كانون الثاني 1848، نشر في جريدة دوتشيه بروسيلر، 4، ص 501، (نقلا عن ج. أريكو في “ماركس وأمريكا اللاتينية”)

[10] غوستافو ماتشادو، 2018، ماركس والتاريخ، الناشر سندرمان

[11] رسالة ماركس إلى ماير وفوغت، 9 نيسان 1870

[12]، 9 نيسان 1870 رسالة ماركس إلى ماير وستيوارد

[13] رسالة ماركس إلى كوجلمان، 29 تشرين الثاني 1869

[14] مجلس الاتصالات السرية العام لجمعية العاملون الأممية حول العفو الإيرلندي، آذار 1870

[15] ماركس، رسالة إلى ميخائيلوفسكي، أواخر العام 1877

[16] رسالة إنجلز إلى كونراد شميدت في 5 آب 1890

[17] “أطروحات تكميلية حول المسألة القومية والاستعمارية”، المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية، 1920

[18] نقلا عن أندرو نين في “حركات التحرر الوطني”

[19] تروتسكي، 90 عاما على البيان الشيوعي، تشرين الأول 1937

[20] لينين، الثورة الاشتراكية وحق الأمم في تقرير المصير (أطروحة). شباط 1916

[21] “حول مشكلة القوميات أو حول” الاستقلالية “. يتكون هذا النص من الملاحظات التي أملاها على سكرتيره في نهاية العام 1922، ضد “روسنة” جورجيا

[22] (أطروحة)، نيسان 1916

[23] لينين وصف في مذكراته المختصرة ستالين على هذا النحو: “إن الموقف البروليتاري الحقيقي يتطلب منا الحذر الشديد، والكياسة، والتفاهم. الجورجي الذي يحتقر هذا الجانب من المشكلة، والذي يرفض باستخفاف “القومية الاشتراكية” (في حين أنه هو نفسه ليس فقط إثني و”اشتراكي قومي”، بل تابع روسي فظ. ذلك الجورجي يضر بجوهر مصالح التضامن الطبقي البروليتارية”

[24] لينين، حق الأمم في تقرير المصير، شباط_ أيار 1914

[25] لينين، تقييم النقاش حول تقرير المصير، تشرين الأول 1916

[26] رسالة إلى العمال والفلاحين في أوكرانيا حول الانتصارات على دنيكين، 1919، لينين

[27] الأعمال الكاملة للينين، المجلد 26، موسكو، التقدم 1984، ص 292-296، العمل الرئيسي الانتهازية الألمانية حول الحرب

[28] تقييم النقاش حول تقرير المصير تشرين الأول 1916، لينين

[29] بولندا كانت آنذاك مقسمة إلى قسمين يخضعان لألمانيا وروسيا

[30] تقييم المناقشة حول تقرير المصير، لينين، تشرين الأول 1916

[31] المسألة القومية والاستقلال، روزا لوكسمبورغ، 1908

[32] أطروحة، لينين

[33] المسألة القومية والاستقلال، روزا لوكسمبورغ، 1908

[34] تقييم النقاش حول تقرير المصير، لينين، نيسان 1916

[35] م.لوي، مشكلة التاريخ: ملاحظات على النظرية والمنهج