خطوط حمر لا أخلاقية


خالد صبيح
2023 / 10 / 29 - 20:37     

في عالم الحيوان تلجأ الضواري لعزل فريستها عن القطيع لكي تتمكن من افتراسها. وما هو طبيعي (غريزي) عند الحيوانات، يفترض أنه بديهي عند الانسان، الكائن العاقل، الذي يراكم التجارب ويحولها إلى وعي وإدراك. وفكرة عزل الضحية أو الهدف وسيلة تقليدية لجأ اليها الصهاينة، ومازالوا، في الصراع الفلسطيني -الصهيوني، لعزل الفلسطينيين عن محيطهم العربي الحاضن والداعم لهم، وذلك بالتركيز على تحييد واضعاف قوى الدعم، إما بالضربات العسكرية، اذا كان أي بلد عربي يؤوي الفلسطينيين ويعينهم في نضالهم، أو عن طريق الوصول الى علاقة سياسية مع بعض المتخاذلين والمنسحبين من الصراع بعدما تؤمن لهم بعض المنافع.

تاريخيا ارتبطت القضية الفلسطينية بأنظمة عربية نفعتها وانتفعت منها. فمن خصوصية القضية الفلسطينية ان للفلسطينيين عمق جغرافي وقومي وسياسي اعانها على تنظيم مواجهتها مع محتلي ارضها، لكنه، وبسبب هذا البعد القومي للصراع، ربط بدرجة كبيرة القضية بالهموم السياسية والاستراتيجية لهذا المحيط، وجعل العلاقة مع أنظمته ملتبسة ومركبة. وكان نظام عبدالناصر في مصر هو أكبر وأول الأنظمة التي ربطت القضية الفلسطينية في سياساتها، وقدم نظام ناصر للقضية الكثير في الوقت الذي حصر فيه، كما سيفعل غيره لاحقا، بعض قراراتها ومقدراتها بيده. وهناك أنظمة وظفت القضية وممثليها لأجندة ضيقة تتعلق بصراعاتها فيما بينها (نظاما البعث السوري والعراقي)، حرفت في بعض الأحيان مسارها وبددت طاقاتها. وقد لعب نظاما البعث السوري والعراقي دورا مخربا في العلاقة مع منظمة التحرير والقضية الفلسطينية التي تاجرا بها كثيرا، فالنظام السوري تورط في صدامات عسكرية مؤذية للفلسطينيين اثناء الحرب الأهلية اللبنانية، وشق صفوفها لاحقا (1982)، بغية حصر قرارات منظمة التحرير الفلسطينية بيده، وذلك لضبط آليات الصراع مع "إسرائيل"، ولم يقصر نظام صدام حسين في الحاق أذاه بالقضية وبالمنظمة رغم الحافه الإعلامي بدعمها. فقد ساند، مثلا، حزب الكتائب والقوى الانعزالية اللبنانية، ومدهما بالسلاح لمواجهة الفلسطينيين والسوريين في لبنان.

وهذا الواقع شكل قدر القضية الفلسطينية وأدخلها في هذا الوضع المتناقض والمركب. فإضافة الى متغيرات العصر التي تمنع إمكانية إبادة شعب وتصفية قضيته، كما حدث لسكان أميركا وأستراليا الأصليين، كان هناك المحيط العربي الذي يسيج الشعب الفلسطيني ويحميه، ويمنع أي محاولة لتصفية وجوده، وهاتان هما الدريئتان الرئيسيتان، إضافة لنضال الشعب الفلسطيني، اللتان تمنعان تصفية القضية. وبما أن الشعوب العربية لم تستطع، حتى الآن، من أن توجد أنظمة حكم تمثلها تمثيلا حقيقيا، وابتلت بأنظمة ركيكة ومستبدة، فقد كان هناك دائما ثلاثة مستويات لعلاقة الفلسطينيين وقضيتهم بالأنظمة العربية، هي إما وصاية ودعم مشروط، أو توظيف لتأدية مهام، أو ارتهان كلي. وتأثرت مستويات هذه العلاقة بطبيعة الظروف العامة، وحالة الأنظمة وحاجاتها، وبتركيبة وتوجهات القيادات الفلسطينية التي تمثل القضية.

مؤخرا، وبعد تراجع اليسار والقوى العلمانية عن التمثيل الحيوي للقضية الفلسطينية، كما كان الامر طوال تاريخ القضية منذ نشأتها، برزت القوى الإسلامية كمعبر عن اتجاه أخذ بيده زمام المبادرة في تحرير الأرض الفلسطينية عن طريق الكفاح المسلح. لكن هذا التيار، رغم ميله ونجاحه النسبي في تعزيز استقلالية قراره، ميدانيا على اقل تقدير، "غزة"، إلا أنه ربط جهده وبعض من قراره بقوة إقليمية، هي إيران، التي قدمت نفسها، عبر عقود، ، ومنذ قيام الثورة الإيرانية، كحامي، وداعم للقضية.

وهنا تكرر الأمر الذي وقع مع الأنظمة العربية، لكن بتطور نوعي، هو شدة وثبات العداء الإيراني لـ" إسرائيل"، مع دعم وتطوير قدرات المقاومة الفلسطينية، عسكريا وتكتيكيا، تطويرا نوعيا، رغم تعقيد وصعوبة الظروف المحيطة. لكن النظام الإيراني، كأي نظام آخر، له حساباته وأجندته التي يقرر وفقها مستوى وحدود دعمه للفلسطينيين وقضيتهم. لكن والحق يقال أنه شكّل دائرة مواجهة واسعة، مؤثرة وفعالة، مع "إسرائيل" أهمها جبهة جنوب لبنان "حزب الله". وكذلك رفع، بالتنسيق مع أطراف ما أسموه "محور المقاومة"، شعار وحدة الساحات الذي يعني مركزة القوة في مواجهة العدو. غير أن هذا الشعار، كما يبدو، هو سلاح بحدين، فهو من ناحية يمكن أن يكون أداة بيد إيران لتحريك القوى الأخرى المتحالفة معها في مواجهة أميركا، التي يشكل الصراع معها أس بناء العقيدة السياسية والقتالية الإيرانية، والتي يشكل وجود حزب الله رأس الحربة فيه لقربه من "إسرائيل"، ولعبه دور "سكينة الخاصرة" التي توجع بها إيران أميركا، المعنية بأمن "إسرائيل" في حال وقعت مواجهة بينهما، لكنه في نفس الوقت أداة احراج واضطرار لإيران لتنفيذ شروطه ومبادئه التي تقضي حماية أي طرف من أطراف ساحات المواجهة عند صدامه مع العدو، حتى وإن كان عبر آخرين، كالذي يقوم به الصهاينة الآن في محاولتهم القضاء على حماس في غزة.

ومن هنا يأتي تعقيد الموقف العسكري في الصراع الجاري في المنطقة الآن، وغموض مآلاته، بعد بدء معركة "طوفان الأقصى". فالولايات المتحدة سارعت، من ناحية، لإرسال أساطيلها وإعلان دعمها غير المحدود لـ"إسرائيل"، وقامت بنشر تهديداتها لردع أي محاولة لتوسيع دائرة المعارك، وإيران قامت بدورها بالرد عبر هجمات حزب الله المحدودة على الحدود، والتلويح بالتدخل في القتال، بحسب الادعاءات المعلنة، عند (الهجوم البري على غزة)، ولا يبدو أن هناك طرفا يدرك بوضوح نوايا الطرف الآخر ليقرر خطوته اللاحقة.

لذا فالجميع يشعر، بدرجة وأخرى، بالورطة، وأكثر من يشعر بوطأة التورط هي "إسرائيل" نفسها، فهي لا تستطيع أن ترد كما يحلوا لها، وكما اعتادت، لترد ماء وجهها بعد الضربة الموجعة التي تلقتها يوم 7 أكتوبر، وذلك بسبب مخاوفها من الخسائر والهزيمة المحتملة عندما تذهب لخيار الاقتحام البري الذي يبدو أنه سيكون مكلفا للغاية لها. ولا يمكنها في نفس الوقت أن لا ترد وتبتلع الإهانة. ولهذا هي تحاول أن تحصر خسائرها، المادية والمعنوية، عند اقل مستوى ممكن، بتحييد حزب الله ومنعه، بأي طريقة، من التدخل بالمعركة، للانفراد، إن استطاعت، بحماس وبقطاع غزة، لتحقق "نصرا"، وإن شكليا عليهما. ومن هنا تأتي أهمية موقف حزب الله ودوره، بين أن يحقق لإسرائيل ما تريده بعدم تدخله بالمعركة، وتأثيره على مجرياتها، وإبقاء المناوشات معها بحدود "منضبطة" لن تضر "إسرائيل" بل، والأكثر، أنها ترضيها، أو بإرغامها على ابتلاع خسارتها وقبول الأمر الواقع سواء بالتدخل الفعلي لإنقاذ غزة، أو بالتهديد الحقيقي الذي يردع "الإسرائيليين" ويوقفهم، لان واقع الخسائر البشرية الموجع الذي تسببه آلة الحرب الصهيونية لأهالي غزة لا يمكن قبوله أخلاقيا ولا السكوت عليه.

لهذا لا يوجد أي مسوغ لحزب الله، برأيي، في تقديم يد العون "للإسرائيليين" بترك زمام المبادرة بأيديهم، والتعامل معهم بحدود رد الفعل على أفعالهم واحتمالاتها، لأن ما يريدونه في الواقع هو تجزيء المواجهة للانفراد بكل طرف على حدة.

الغريب والمؤلم أن جميع الأطراف المعنية بالصراع رسمت مواقفها ووضعت خطوطا حمراء تهدد بها بعضها الآخر، لكن لم يتضمن أي من هذه المواقف والخطوط حياة المدنيين الفلسطينيين العزل، خصوصا الأطفال منهم، (مناظرهم توجع القلب)، بل انصبت كلها على هموم سياسية وحسابات تكتيكية خاصة، فالنظام المصري جعل من تهجير الغزاويين إلى سيناء خطه الأحمر الوحيد، غير حافل بحياة الفلسطينيين، ولا بكرامته كنظام سياسي ينبغي عليه أن يقوم بإجراء ما لوقف همجية الصهاينة على حدوده، وضد شعب يشترك معه، شاء أم أبى، في أرومة واحدة، أو على الأقل لعب دور في مشكلة إقليمية لها تأثير على أمنه القومي، أو حتى للحفاظ على منظره "برستيجه" أمام شعبه. وكذلك فعل حزب الله وإيران حينما رسما، بغير تأكيد وتشديد حقيقيين، من الاجتياح البري خطا أحمر لهما. أما المواقف العربية والدولية، لاسيما الغربية، فهي منحطة في أبسط توصيف لها، فقد أسقط الغرب الرسمي، الليبرالي اليميني الوقح، القناع عن قناعه الزائف، وكذلك انفضحت الأنظمة العربية جميعا، سواء تلك التي والت العدو، كنظام ابن زايد، أو تلك التي صمتت عنه.

ولهذا يبرز هنا تصور، سيخضع مثل غيره من توقعات أو تصورات للمستقبل لإثباته أو نفيه، وهو أن حزب الله، إن لم يتدخل بشكل جدي ومؤثر لإنقاذ الفلسطينيين الآن، فهو سيقدم قناعة واضحة للرأي العام في أن دوره العسكري والسياسي بالأصل، لاسيما بعد تحرير الأرض اللبنانية، وصنع توازن الردع مع العدو " الإسرائيلي"، هو من أجل المصلحة الإيرانية وحدها لتستخدمه كمخلب قط في حال مواجهتها المحتملة مع أمريكا، وأن دعاواه عن تحرير فلسطين، واستعداده لحماية الشعب الفلسطيني، ما هي إلا مسوغات دعائية تبرر وجوده وتسلحه لا أكثر. بمعنى أن دوره وقراره في الصراع العربي الصهيوني، مرتهن، مالم يثبت عكس ذلك، بالمصلحة الإيرانية وحدها أولا وأخيرا، وبهذا سيسقط القناع أيضا عنه هو وراعيته، إيران، مثلهما في ذلك مثل الآخرين ممن سقطت أقنعتهم ومروءتهم وأخلاقهم.