المؤرخ يوسف إبراهيم يزبك


فهد المضحكي
2023 / 10 / 21 - 11:26     

بعد أقل من ثلاثة أسابيع على الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، بدأت تَرسمُ صورة التحولات الكبيرة التي شهدتها نخبة متميزة من مثقفي لبنان، فتوفى بعضهم بطريقة مأساوية، ومنهم خليل حاوي، وتوفيق يوسف عواد، وكمال خير يزبك، وكمال يوسف الحاج وغيرهم. وانكسر الحلم الكبير على المستويين السياسي والوطني، وتراجع دور الثقافة الوطنية الجامعة، لتطفو على السطح ثقافة الطوائف والمذاهب المتناحرة، وتُدار مؤسسات الدولة اللبنانية بذهنية «العصبيات القاتلة» وفق الروائي أمين معلوف.
وعلى الرغم من خروج المُحتل الإسرائيلي مهزومًا من لبنان في مايو 2000، ترسخ حُكم المليشيات، فمارست قمع الحريات في لبنان، ودمرت مؤسسات الدولة اللبنانية، واغتالت أو سجنت أو هجرت عددًا كبيرًا من المثقفين والإعلاميين الأحرار، وما زالت تتعاون مع قوى خارجية تتلاعب بمصير لبنان واللبنانيين. هذا ما كتبه الكاتب والمؤرخ اللبناني د. مسعود ضاهر تحت عنوان «يوسف إبراهيم يزبك وكتابه تاريخ لبنان».
يذكر ضاهر، كان المؤرخ يوسف إبراهيم يزبك (1901-1982) مثقفًا إنسانيًا عميق الانتماء إلى التراث الإنساني، شديد الإيمان بعروبة لبنان الثقافية؛ فلبنان مُنفتح على كل ما هو إيجابي في تراث العرب، ومُشرعة أبوابه على كل الثقافات والأديان والحضارات البشرية. كان يزبك يظُهر تبرمًا من ذوي الآراء الجامدة أو المحددة، والتي تُكرر ما هو شائع عن تاريخ لبنان من وجهة نظر طائفية أحادية الجانب، فكان كما يقول ضاهر، يُردد أن لبنان مُتعدد في تركيبته السكانية، والدينية، ولا يمكن أن يكون تاريخه آحادي الجانب، ولا ثقافته وحيدة المصدر. وبفضل هذا الغنى والتنوع والانفتاح على قيم الحرية والإبداع، تحول لبنان إلى «وطن الرسالة» إلى جانب التمسك بكل ما هو إيجابي في التراث الإنساني، والعلوم العصرية، والثقافات المتنوعة.
يعود للمؤرخ يزبك الفضل في رفد المكتبة التاريخية في لبنان بمئات الوثائق التي جمعها من مصادر دينية وعائلية وسياسية من مختلف الطوائف والمناطق. وكان شديد الحرص على إظهار الرأي الآخر، واحترام الاختلاف، لأن الحوار مع المُختلف مصدُر غني. كان يشدد على أن من واجب زعماء الطوائف اللبنانية التوصل إلى صيغة حضارية جامعة تُبنى على احترام التنوع الثقافي والسياسي، ونبذ الاحتكام إلى العنف في ما بينها. فالصيغة الحضارية الوطنية الجامعة وحدها، جعلت من لبنان مختبرًا حقيقيًا للتعايش قل نظيره في العالم العربي، ومجالاً حيًا للتفاعل اليومي الحرّ بين جماعات دينية، وعرقية، وسياسية تعج بها منطقة الشرق الأوسط.
جيل كامل من المؤرخين اللبنانيين تأثر بمقولات يوسف إبراهيم يزبك العلمانية في كتابه تاريخ لبنان، وعلى أسس علمية وعقلانية تقوم على إسناد الوقائع التاريخية إلى وثائق أصلية كان له اليد الطولى في الكشف عنها ونشرها في خدمة الباحثين والبحث العلمي في تاريخ لبنان. نَشر أبحاثًا مُهمة في دراسة بنية المجتمع اللبناني في القرنين التاسع عشر والعشرين، فكانت أبحاثه التاريخية غنية جدًا وزاخرة بالوثائق الأصلية، ما أعطاه مكانة علمية بوصفه رائد التجديد النظري والتوثيقي بعد ما أمضى عقودًا طويلة في التنقيب عن كل ما هو أصيل وجديد في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر.
كانت السنوات المُمتدة من ولادة لبنان الكبير في العام 1920 حتى اندلاع الحرب اللبنانية في العام 1975 حافلة بالآمال لدى المؤرخين اللبنانيين، بخاصة غير الطائفيين منهم والداعين إلى قيام دولة ديمقراطية في لبنان وعلى امتداد العالم العربي. وكانت مواقفه وأعماله نموذجًا حيًّا على المُثقف الذي يُقدم حياته مرآةً لفكره، على حد تعبير الأديب عُمر فاخوري: «إذا لم تكُن حياة المُثقف مرآةً لفكره، فهو أديب مُزيف».

ترك يوسف إبراهيم يزبك أعمالاً رائدة وضعته في طليعة المؤرخين اللبنانيين والعرب، فقد شارك في تأسيس «حزب الشعب اللبناني» سنة 1924، وكانت له إسهامات منشورة في كثير من صُحف تلك المرحلة ومجلاتها، ومنها «الإنسانية»و «الدهور» و«الطليعة» و«وصوت الشعب»و«الطريق» وغيرها. وأقام صلاتٍ حميمية مع عددٍ كبيرٍ من المثقفين الطليعيين في الوطن العربي. كان شغوفًا بارتياد الموضوعات الجديدة، فينُقب على وثائقها في أدراج مُغلقة. وكان من أوائل من تابع مأساة المهاجرين في بلاد الاغتراب، وخصهم بكتاب هو باكورة أعماله صدر في العام 1929 تحت عنوان «مأساة المواشي البشرية في طريقها إلى بلاد الله». ثم نَشر كتابه الثالث سنة 1936 تحت عنوان «14 تموز» للتعريف بأفكار الثورة الفرنسية الكبرى لعام 1789. وأتبعه بكتابٍ آخر سنة 1937 تحت عنوان «نضال العراق ضد الإنكليز». نقل رواية أناتول فرانس المعروفة Grainquebille إلى العربية وصدرت في العام 1938 تحت عنوان «فقير أمام القضاء». ونَشر في العام نفسه وثيقة تاريخيّة ما زالت مصدرًا لجميع المهتمين بتاريخ الانتفاضات الفلاحية في جبل لبنان في القرن التاسع عشر.
في العام 1939 نَشر يزبك كتابًا بعنوان «دريفوس»، حلل فيه الضجة الكبرى التي شغلت الأوساط الفرنسية لسنوات طويلة في أواخر القرن التاسع عشر. إبان الحرب العالمية الثانية، وفي السنوات القليلة التي أعقبتها، أنصرف المؤرخ يزبك إلى عالم الصحافة فقط. ثم أصدر سنة 1953 «ليلة المصمك» - المصمك قلعة بالرياض - يروي فيه قصة تحرير الرياض على يد الملك عبدالعزيز بن سعود. وفي العام 1955 نَشر كتابًا وثائقيًا بعنوان بعنوان «مؤتمر الشهداء». ثم انصرف كليًا لإصدار مجلة «أوراق لبنانية» خلال سنوات 1955-1958. وقد جُمعت في ثلاثة مجلدات ضمت وثائق أصلية لا تقدر بثمن لمن يكتب تاريخ لبنان على أسس علمية دقيقة. ولازالت هذه المجلة تُصنف كواحدة من أفضل المطبوعات التي ضمت وثائق أصلية تتعلق بمختلف الطوائف اللبنانية.
أمد يزبك وسائل الإعلام بسيلٍ من مقالاته الصحافية، ومُحاضراته الفكرية وندواته الإعلامية الكثيرة. وأسهم في مراجعة بعض المذكرات التاريخية وإعدادها للنشء الجديد، وفي تحقيق بعض المخطوطات ونشرها لإرساء مدماك صلب في الدراسات اللبنانية وضمت وثائق أصلية بالغة الأهمية وتُنشر للمرة الأولى، فأحدثت تلك الوثائق نقلة نوعية في كتابة تاريخ لبنان استنادًا إلى الوثائق الأصلية.
بعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان سنة 1975 وجد يزبك نفسه غريبًا في وطن أحبه كثيرًا وأفنى عُمره في الدفاع عن تراثه وتقاليده الإنسانية والحضارية؛ فقد غيرت الحرب كل شيء وطمس العنف الدموي آثار الحوار الثقافي، فآثرَ ترك لبنان إلى باريس، حيث أمضى فيها سنوات طويلة كانت له فيها إسهامات ثقافية متقطعة في بعض الصحف العربية هناك. ومن باريس بالذات صدر له سنة 1981 كتاب «الجواد العربي»، وفيه تذكير بنبل صفات الخيول العربية في وقت عزت فيه قيم النبل والشهامة لدى العرب.
بعد وفاته بأكثر من عشر سنوات، أصدرت له دار نوفل في بيروت سنة 1993 كتابًا بعنوان «الجذور التاريخية للحرب اللبنانية». وهي مجموعة انطباعات وآراء في تاريخ الحروب بين اللبنانيين سجلها سنة 1975 وأودعها الدرج قبل سفره إلى باريس على أمل أن تُنشر لاحقًا.
يقول المؤرخ والكاتب د. مسعود ضاهر: تألم إبراهيم يزبك كثيرًا لما تعرض له لبنان على أيدي اللبنانيين، فكان صراع الطوائف أقصر السبل لتدمير اللبناني. وبعدما انكسر الحلم الكبير على المستويين السياسي والوطني، لنسحب طوعًا من الساحة الثقافية، وهو في أوج عطائه. وحاولت شخصيا، وكثيرًا، حضه على كتابة مذكراته الغنية جدًا، لكنه آثر الصمت؛ فلقد شعر بمرارة كبيرة حين رأى الثقافة الوطنية، والديمقراطية، المناهضة للطائفية إلى انحدارٍ مُريع في زمن صعود الطوائف المتصارعة إلى الحُكم، فغادر «التفاؤل التاريخي» الذي اشتهر به، وآثر الانسحاب بصمت على أمل أن يأتي زمن يُكرم فيه الكبار في بلادنا. توفي وفي قلبه غصّة، وفي داخله أكثر من حُلم مكسور.