لبنان الانتصار ام الانقسام
اسماء اغبارية زحالقة
2006 / 10 / 26 - 11:07
انتهت الحرب، وعاد لبنان ليواجه الشبح الرابض عليه ابدا، شبح الحرب الاهلية. مهرجان النصر الذي احتشد فيه مئات الآلاف تحت راية حزب الله، كان انذارا خطيرا سرعان ما لقي ردا لم يقلّ خطورة من الخصوم السياسيين. واصبح انه كلما احتدت النبرة مطالِبةً بالوحدة الوطنية وبحكومة الوحدة الوطنية، كلما تعمّق الانقسام السياسي حتى بلغ ذروة غير مسبوقة.
اسماء اغبارية
النصر الذي أعلنه امين عام حزب الله، حسن نصر، في المهرجان الكبير في 22/9، هو "الهي"، "تاريخي"، "استراتيجي"، "اكبر بكثير مما تطيقه عقولنا". تحقق بنصر من الله، والسر هو المقاومة المتوكلة والمنظمة والمدربة. ويتلخص "الانجاز" في صمود المقاومة 33 يوما بالتمام والكمال امام العدوان، على نحو اذهل العالم. لقد تمكنت المقاومة بصمودها من احباط كل اهداف العدوان، واسقاط مشروع الشرق الاوسط الجديد، هزّت "صورة الجيش الذي لا يقهر"، جعلت من لبنان "قوة عظمى" واعلنت عن "مرحلة جديدة، العصر الذي نملي فيه شروطنا على العدو". لا اقل.
التناقض الكبير ان "القوة العظمى" التي يفاخر بها نصر الله، تواجه مأزقا باعترافه: "هناك مأزق حقيقي في لبنان اليوم، خصوصا بعد الحرب. هناك انقسام وطني حاد.. ولا احد يقدر على القول نحن اكثرية." كيف يمكن اذن اعلان النصر وقد انهزم النسيج الداخلي ووضع في خطر لبنان كله؟
"النصر" الذي يباهي به نصر الله لا يحظى باجماع داخلي، بل يشكل نقطة جدل عنيف. سعد الدين الحريري، رئيس كتلة المستقبل، من اهم مكونات كتلة 14 آذار، انتقد نصر الله دون تسميته فقال في خطاب نقلته صحيفة "الحياة" (27/9): "المأساة ان هناك من يحجب صورة الكارثة التي اوقعها العدوان الاسرائيلي بلبنان"، وراح يعدد الخسائر من شهداء وجرحى ودمار، واضاف: "انها كارثة حقيقية وسّعت نطاق الاحتلال وزادت عدد الاسرى، وجاءت بالجحافل والاساطيل التي يعترضون عليها، من كل انحاء العالم".
وفي خطاب آخر عزا الحريري الى الحكومة اللبنانية، وتحديدا رئيسها فؤاد السنيورة ورئيس المجلس النيابي، نبيه بري، (وليس الى المقاومة) الفضل في وقف الحرب (الحياة، 3/10 و12/10). ووجه عميق الشكر للدول العربية والمجتمع الدولي على دورهم في دعم الحكومة في مجهود اعادة الاعمار واعادة اطلاق الاقتصاد اللبناني، وتولي الامم المتحدة المسؤولية عن حل قضية شبعا والاسرى. صورة عكسية تماما لما يصفه حزب الله.
ما وراء "حكومة الوحدة الوطنية"
واضح ان حزب الله يتصرف بدافع القلق من تغيير موازين القوى الداخلية في لبنان، والتي تراجعت في غير صالحه منذ انسحاب اسرائيل عام 2000، والذي فتح الباب امام المطالبة الداخلية بنزع سلاحه. العملية العسكرية التي قام بها حزب الله كانت خطة عمل اولى لاثبات شرعية سلاحه، ولكنها قادت للنتيجة العكسية. صدور قرار مجلس الامن رقم 1701 الذي ادان حزب، وفتح الباب على نحو اوسع امام تفكيك سلاحه، استلزم خطة عمل ثانية لوقف استحقاقات القرار او على الاقل تقليل الاضرار. هكذا ولدت فكرة حكومة الوحدة الوطنية.
تعتمد خطة حزب الله على الورقة السياسية، مع التهديد باللجوء الى الشارع. في استعراض العضلات الكبير في "مهرجان النصر" هاجم نصر الله الجميع. فالحكام العرب "اذلاء لا يساوون شيئا"، لانهم "تخلوا عن لبنان"، ولانهم "قادرون على استعادة فلسطين من البحر الى النهر، لكن المشكلة عندما يضع انسان نفسه بين خيارين: بين شعبه وعرشه يختار عرشه".
ثم هاجم نصر الله الحكومة اللبنانية، واتهمها بانها "ليست قادرة لا على حماية لبنان ولا على إعمار لبنان ولا على توحيد لبنان". حتى انه لم يقتصد في الاستهتار بالسنيورة، فقال: "ان الدموع لا تحمي احدا". والمطلوب "بناء الدولة القوية العادلة النظيفة القادرة على حماية الشعب بالسلاح والقوة والعقل". واقترح نصر الله ان تتم مواجهة التحديات الخطيرة من خلال تشكيل "حكومة وحدة وطنية".
وأوضح "للذين قلوبهم محروقة بدّن يحلّو مسألة السلاح"، انه "عندما نبني الدولة القوية القادرة العادلة سوف نجد بسهولة حلا مشرّفا لمسألة المقاومة وسلاحها". وقال صراحة: "اريد من هذا المهرجان الكبير... ان اقول ان الرهان على انهاء المقاومة بالضغط والحصار هو رهان خاسر"، محذرا من ان المقاومة تمتلك اكثر من 20 الف صاروخ.
الى الحكومة الجديدة يريد ان يأتي نصر الله بحلفائه الذين لم يحظوا بتمثيل في الحكومة الحالية، وابرزهم ميشيل عون (رغم انه معارض لسورية ولكنه ناقم لاقصائه عن امتيازات الحكم) وشخصيات مهمة امثال سليم الحص وسليمان فرنجية والحزب الشيوعي اللبناني، كما يسعى لتقريب نبيه بري. الهدف الاساسي تغيير موازين القوى داخل الحكومة على نحو يجعله يتحكم بحق الفيتو على اي قرار، وهو حق لمن له ثلث مقاعد الحكومة.
رد الحريري
على هذه الحرب المفتوحة التي تقصد بشكل سافر لاسقاط الحكومة الحالية، رد سعد الحريري في نفس الخطاب المذكور الذي نقلته الحياة (27/9)، بالقول: "ان شر البلية ما يضحك. فالقاتل هو اولمرت والمطلوب للاعدام السياسي هو فؤاد السنيورة". وتساءل الحريري كيف تكون الحكومة "غير قادرة"، في حين وافق حزب الله (دون تسميته) على النقاط السبع التي وضعتها نفس الحكومة وعلى القرار 1701، وعلى نشر 15 الف جندي لبناني في الجنوب، وتوسيع اليونيفيل وتعزيز سلاحها". ثم تساءل: "هل المطلوب مزارع شبعا ام السراي الحكومي؟". واضاف: "البعض يريد وضع اليد على رئاسة الحكومة كما تم وضع اليد على رئاسة الجمهورية".
واعتبر الحريري ان "اية دعوة لتغيير حكومة السنيورة بغير الوسائل الديمقراطية والدستورية، دعوة مرفوضة. وناشد الجميع "الترفع عن استخدام خطاب الشارع، لان مثل هذا الخطاب يدفع الآخرين حتما الى ان يقولوا: الشارع بالشارع، والمهرجان بالمهرجان، والتعبئة بالتعبئة، والبادي اظلم".
وعلى نحو صريح بشكل خاص قال الحريري: "ان بعض ما سمعناه مؤخرا، يشكل لكثير من اللبنانيين ترجمة محلية غير مقبولة لخطاب بشار الاسد. بدءا من اختزال الانتصار، مرورا بالدعوة لاسقاط السلطة اللبنانية، وصولا الى تخوين وتأنيب قيادات العرب وجيوش العرب، والاشقاء الحقيقيين الذين وقفوا مع لبنان ودعموه بالفعل لا بالقول". واعتبر الحريري ان هذه المفاهيم "مستوردة من ريف دمشق وتتعارض مع مفاهيم الوحدة الوطنية ومع مصالح لبنان".
في بيان صادر عن مجلس المطارنة الموارنة قال البطريرك نصر الله صفير: "ان الجدل القائم بين فريق من السياسيين وفريق آخر حول استبدال الحكومة القائمة بحكومة وحدة وطنية، يجب الا تكون وراءه مقاصد خفية يراد منها تفشيل تأليف محكمة دولية للنظر في جريمة اغتيال المغفور له الرئيس رفيق الحريري وكل الاغتيالات التي تبعته، والا يكون ذلك لرغبة جهات دولية وفئوية".
محاولات لاحتواء الازمة
لاحتواء الازمة بين الخصوم دخل الى الخط بقوة رئيس المجلس النيابي، نبيه بري. مصدر نيابي بارز اكد لصحيفة "الحياة" (5/10) ان "احدا لا يملك تصورا لما سيكون عليه الوضع السياسي بعد انتهاء شهر رمضان، الموعد الذي حدده حزب الله لاطلاق برنامج لاستبدال حكومة وحدة وطنية بالحكومة الحالية".
الا ان المصدر ذاته اكد ان "الجميع في مأزق"، والجميع يخشى الاحتكام للشارع لان من شأنه شحن الاستنفار الطائفي. واضاف المصدر ان "حزب الله الذي انتصر في الحرب التي شنتها اسرائيل، ليس في وارد استخدام انتصاره في تصفية الحسابات الداخلية".
وأشار المصدر الى ان بري، الذي يراهن نصر الله على تقريبه، فضّل عدم الدخول في الوقت الحاضر في معركة "كسر عظم" مع الاكثرية في البرلمان واقترح العودة الى الحوار. واضاف ان بري يرفض الاقدام على اي دعسة ناقصة يمكن ان تؤدي بالبلد الى المجهول بدلا من اعتماد سياسة النفس الطويل بحثا عن تسوية بن الحزب وقيادات قوى 14 آذار.
ورجّح المصدر ان يكون المخرج في التوصل الى اتفاق على تفعيل الحكومة الحالية، خاصة ان برنامج حزب الله المجيء بحكومة الوحدة الوطنية لا يزال يفتقد الى خطة العمل والافكار المعتمدة فيه... غير قابلة للتطبيق".
الاصولية ورقة خاسرة
بغض النظر عن النتائج التي ستقود اليها محاولات التهدئة، فلا يجب تجاهل الخطر الكبير المحدق بلبنان الممزق اليوم. ان الانقسام الداخلي الذي تعمّق بعد ان وضعت الحرب اوزارها، يؤكد ان مشكلة لبنان الطارئة اليوم ليست اسرائيل، بقدر ما هي النقاش الداخلي الذي ازداد حدة بعد الانسحاب الاسرائيلي عام 2000. ويتمحور النقاش حول هوية وشكل لبنان: دولة اصولية مقاومة مسلحة، ام دولة رأسمالية منفتحة على الغرب وامريكا. للاسف لبنان اليساري العلماني الديمقراطي، غير مطروح على جدول الاعمال اليوم.
لبنان اليوم لا يزال ساحة تتقاسمها مصالح اقليمية متضاربة: اليوم سورية وايران من خلال حزب الله وبرنامج المقاومة، ومن الجهة الاخرى امريكا وفرنسا من خلال الحكومة اللبنانية البرجوازية.
واضح ان الاحداث التي قادت اليها عملية الانسحاب الاسرائيلي، ورغبة الحكومة اللبنانية في الانفتاح الاقتصادي الرأسمالي، تدل على تطورات سياسية، اقتصادية واجتماعية عميقة جدا، لا يمكن لحزب ان يتجاوزها بعملية عسكرية او لا حتى بحرب، ولا بشعارات وحدة يراد بها انقسام.
والاهم من كل ذلك، ان المسار الذي يتجه فيه لبنان البرجوازي منظور له ان يعمّق الفقر والفجوات الطبقية وبالتالي عدم الاستقرار، كما يحدث في كل مكان بالعالم تبنى السياسة الاقتصادية الامريكية. غير ان مواجهة تبعات هذا التطور لن تكون ممكنة من خلال فرض برنامج شيعي اصولي قديم، غير ملائم للعصر الذي نعيش، يعتمد المقاومة المسلحة كوسيلة وحيدة، ويتنازل عن الدعم السياسي حتى الداخلي ومستعد للمجازفة بلبنان كله في سبيل تحسين موقعه. ان برنامجا كهذا كونه بتعريفه طائفيا ليس من شأنه الا اثارة الخلافات وتكريس الطائفية وبالتالي الابقاء على مواطن الضعف والفرقة التي هي وصفة اكيدة لعدم الاستقرار والازمات.
وبالتأكيد لن تكون مواجهة هذه القوى ممكنة، اذا كان الحزب يواصل التمسك بالتحالف معه في الحكومة ليناله من الحب جانبا، على حساب مبادئه ومعتقداته.
ان ما يحتاجه لبنان ونحتاجه جميعا هو بديل عصري لا يخضع للاصولية الايرانية ولا للعولمة الامريكية، بل بديلا علمانيا ديمقراطيا يعد المجتمع بالتقدم والازدهار والحرية على اساس من المساواة والعدالة الاجتماعية التي لا تفرق بين البشر على اساس طائفي، عرقي، قومي وديني. وبكلمات اخرى، اننا نحتاج للاشتراكية.