أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - الكتابة بوصفها مِرَانًا متواصلًا















المزيد.....

الكتابة بوصفها مِرَانًا متواصلًا


عبدالجبار الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 7510 - 2023 / 2 / 2 - 10:38
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



‏ فجأةً وجدت ذاتي مولعةً بالمطالعة منذ بداية العقد الثاني من عمري، ووجدتُها بعد سنوات قليلة تحلم بالكتابة وإن كنت أراها أمنيةً شبه مستحيلة، أحسبها صنعةً خاصة ببشرٍ لم يُخلقوا إلا لها، وبعد سنواتٍ من المطالعة تجرأتُ وأقتحمتُها. بدأتُ أكتب حكاياتِ أمي وزميلاتها بلغةٍ تخرجها من العامي إلى الفصيح، وأكتب ما ينسجه خيالي من حكاياتٍ عابرة وقصص قصيرة، لا أتذكر وقتها أني عرضتُ ما كتبتُ على أيّ أحد، أكتفي بكتابتها وأشعر ببهجةٍ لبرهة، وأعود في اليوم الثاني لقرائتها بهدوءٍ فأشعر بالضجر، أحيانًا أدخل حالةَ اكتئاب مؤقت يحرّضني على التعجيل بتمزيقها. تضاعفت المحاولاتُ بمرور الزمان، وتخبّطتُ بفوضى التجريب والتكرار الممل، ممزوجةٌ تلك المحاولات بشغفٍ غريب، يلابسه خوفٌ يبلغ حدَّ الذعرِ أحيانًا، ويأسٍ من النجاح في التجارب التالية.كنتُ دائمَ التفكير بما عليّ فعلُه كي أظفر بخطوة النجاح الأول في هذه الصنعة، قادني تفكيري إلى ممارسة أشكالٍ متنوعة من الكتابة، انتقلتُ فجأةً للشعر، وان كنتُ أنفر من أكثر الشعر الشعبي، ولا أتذوق أحيانًا ما أقرأه في دواوين شعراء كبار. عثرتُ صدفةً على قصائد نثر منشورة في بعض المجلات والصحف، أيضًا لم أتفاعل معها ولم أفهم أكثرَها، غير أنها ورطتني بوهم أن كلَّ إنسانٍ يمكنه كتابةُ الشعر، خاصة إن كان من هذا النوع.كنتُ مستعجلاً فبدأتُ بكتابة ديوانٍ فرغتُ منه أظن بعشرة أيام، اتسع له دفترٌ لا أتذكر عددَ صفحاته، ربما تضمن ما لا يقلّ عن عشرين قصيدة، بعضُها يحتّل عدةَ صفحات من ذلك الدفتر.كلُّ وقتي كان مكرّسًا للشعر تلك الأيام، أكتب القصيدةَ وأعود أشطب وأضيف وأحذف، أقرأ ما أكتب وأعود إليه مرةً بعد أخرى،كلُّ ذلك من دون أن أُخبر أحدًا. أكتب لنفسي، وأقرأ لنفسي، وأحتفظ بدفتري بمكانٍ خاصّ لئلا يراه غيري، وأخدع نفسي بأن ما أكتبه ضربٌ من الشعر ليس بالضرورة أن يمتثل لمعايير الشعر المتداولة. بعد الفراغ من كتابة الديوان تركتُه عدة أيام، رجعتُ لقرائته بتأملٍ وهدوء، لا أكتفي بقراءة واحدة، كنت أعود لأقرأ ما فرغت منه عدة مرات، إلى أن اقتنعتُ أنه هراءُ مراهقٍ غير مخلوق للشعر، استفقتُ من هذا الوهم الذي مكثتُ في أسره عدةَ أشهر، في واحدةٍ من محطات ضياع اكتشاف دروب الكتابة الوعرة، لحظةَ الاستفاقة مزّقتُ الديوان، واثر انزعاجي وحنقي على هوسي بالشعر أحرقتُ ما مزّقتُه، لئلا أعود لمثل هذه المحاولة العقيمة. أشعرني هذا الموقف بشجاعةٍ أمام نفسي، وقدرةٍ على محاكمتها مبكرًا، وفضحِ أحلامها وأوهامها الزائفة.كلُّ ذلك كان يجري من دون أن يعرف به أيُّ إنسان من الأهل والأصدقاء. أبتعد عن الكلّ عندما أكتب، وأخفي عن الكلّ ما أكتب، أمزّق ما أكتبه بعد أيام، خشيةَ أن يُفتضح ضعفي وهشاشتي أمامي أولًا حين أعود لقراءته، وربما أمامهم إن عثروا عليه، وهذه واحدةٌ من أوهام الكمال الزائف الذي كنتُ وأمثالي ضحيتَه من تربيةٍ خاطئة للآباء والأمهات في القرية. العائلةُ ومجتمعُ القرية يعاملاني وأمثالي بأنّا أكبرُ من مرحلتنا العمرية، وذلك ما حرمنا من أبسط احتياجات مرحلة الطفولة، حرمني من اللعبِ والعبث الخلاق الذي يوقظ طاقةَ الإبداع ويرسخها لدى الطفل، وممارسةِ حريتي في التعبير عن احتياجات الطفل البريئة المتنوعة. غطس هذا الحرمانُ عميقًا، أجد حاجةً كامنة في داخلي أحيانًا لشيءٍ مما يلعب به أطفالي، إلا أني لا أجد قدرةً نفسية على ممارستها في عمرٍ متقدّم.
في حوزة النجف قبل 45 سنة طلب منا أحدُ مدرسي أصول الفقه كتابةَ بحث في سياق دراستنا للفقه وأصوله، وأمهل تلامذتَه أسبوعين، كثّفتُ جهودي للمطالعة والكتابة في هذا الموضوع، كتبتُ مقالةً بنحو ثلاثين صفحة، أعدتُ كتابتَها أكثر من مرة، وبعد أيامٍ من تسليمها للأستاذ أعرب عن إعجابه، ونبّهني إلى بعض الثغرات والأخطاء.كانت المرةَ الأولى لوضعِ كتابتي في مباراةٍ مكشوفة، والاحتفاءِ بها بين مجموعةٍ من أقراني.كرّر الأستاذ الطلب من تلامذته الكتابةَ للمرة الثانية والثالثة، حفّزني موقفُه على الاستغراقِ في المراجعة، والتريّثِ بالكتابة، وإعادةِ تحرير المسودات عدة مرات. في المرتين اللاحقتين أعرب الأستاذُ عن اهتمامه وحثّني على الاستمرار بالكتابة. الطريفُ أن هذا المدرس لم يكن يتقن الكتابة، قرأتُ له بعضَ الكتابات بعد ربع قرن فرأيتُها بمثابة الخطب المنبرية، لا تنطبق عليها معاييرُ الكتابة بوصفها "صناعة الإنشاء" كما يعرفها أهل البيان.
في سنة 1978حضرتُ حلقةً لتدريس العقيدة تضمّ نحوَ 25 تلميذًا، كان الأستاذُ فيها الشيخَ أحمد البهادلي، وهو علامةٌ متمكن بعلمه وبيانه، عذبٌ في التعليم، شخصيته جذابة، قرأتُ قبل حضور درسه كتابًا أصدره حول العقيدة يستوعب محاضراتِه في كلية الفقه في النجف، ومنذ ذلك الوقت وأنا أتمنى التعرّفَ عليه والتلمذةَ في حلقات درسه. سمعتُ من أستاذنا في كتاب "معالم الأصول" الشيخ صالح الصالحي ثناءً على البهادلي، وصفه بأنه من أساتذة "كفاية الأصول" الجيدين، الأستاذُ الذي يتقن تدريسَ هذا الكتاب بجدارة مجتهدٌ استنادا للتقليد التعليمي المتعارَف في الحوزة.كنتُ أتطلع لأن يكون شيخُنا البهادلي أحدَ المراجع في النجف، لا أعرف هل منعه زهدُه من التصدي، أو أنه لم يكتشف طريقَ الوصول لمقام المرجعية. في خاتمة تدريسه أخبرنا بأنه يريد امتحانَنا تحريريًا، لم يكن الامتحانُ التحريري متعارفًا وقتئذٍ في حلقات الدرس الحّرة في الحوزة. في اليوم التالي بعد أن امتحن تلامذتَه جاء الأستاذُ بالأوراق غاضبًا،كانت الأوراقُ بيدي غير أنّه لم يوزعها، لعل علاماتِ التلامذة الضعيفة منعته من ذلك. تحدّث لمدة ساعة موبخًا ومنذرًا بالتيه في هذا الطريق لو واصل التلامذةُ التكاسلَ والإهمال والافتقار للجلد والمثابرة، ذكر حكاياتٍ مؤلمةً عن بعضِ رجال الدين الذين لا يكترثون بالتعليم الرصين في الحوزة، ولجوءِ بعضهم لممارسة الشعوذة وخداع العامة. وأردف القولَ بحكايةٍ ملهمة عن مثابرة أخوين كانا في غرفةٍ واحدة بأحد المدارس الدينية بالنجف، في الليل كانا يطالعان تحت ضوء مصباحٍ مُضاء بالنفط، عندما يغفو أحدُهما يضع علامةً على قنينة المصباح الشفافة، ليسعى في الليلة التالية أن يعوّض ما فاته في ليلةٍ ماضية، إن لبث أخوه وتفوّق في ساعات السهر يواصل المطالعة. تألمتُ من توبيخ مدرسنا، ذهبتُ إليه بعد انصراف بعض الزملاء لأعرف نتيجتي، كنت متردّدًا مضطربًا، عندما تكلمتُ ماتت الكلماتُ في شفاهي، غرقتُ بين حياءٍ ووجل من توبيخٍ إضافي، أجابني الشيخُ البهادلي بحماس: لا تقلق، أنت الوحيد الذي حصلت على 100. ظلّ موقفُ أستاذي هذا يمدّني بطاقةٍ مضاعفة كلّما خارتْ عزيمتي، وعشتُ حالةَ وهن، وأدركتني الهشاشة، والشعورُ بالعجز عن الكتابة.
هذه تجربتي الشخصية،كلُّ تجربة من هذا النوع تعكسُ ذاتَ الكاتب، وتنكشف فيها مواهبُ الذات وقدراتُها وأقدارُها وأحوالُها وظروفُها وثقافتُها ونمطُ رؤيتها للعالم ومحطاتُ حياتها.
#عبدالجبار_الرفاعي
#الكتابة



#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يولد النص بكل ترجمة ولادة جديدة
- الولاء والبراء ‏في ضوء الإنسانية الإيمانية
- فلسفة التديّن
- القيمُ ضرورةٌ لأنسنة الإنسان
- سبيلُ الله هو سبيلُ الإنسان
- فعل الخير في ضوء مقولة الولاء والبراء
- فعلُ الخير ليس مشروطًا
- القرآنُ الكريم كتابٌ واقعي
- مفتاحُ تفسيرِ الكتاب الكتابُ نفسُه
- للإنسانِ في القرآن الكريم بُعدان
- حدود الديني والدنيوي
- مَنْ ينسى الفلسفةَ تنساه أعيادُ التاريخ
- ايقاظ النزعة الإنسانية في الدين
- الكتب كالأبناء يصعب الانفصال عنهم
- اقتصاديات الكلام
- مفهوم الاغتراب الميتافيزيقي
- الخلاصُ من احتكارِ الخلاص في علم الكلام الجديد
- يولَدُ الإنسانُ مُكرّمًا ولا يكتسبُ الكرامةَ بعدَ ولادته
- الدينُ والرؤيةِ الجمالية للعالَم
- الدينُ والرؤيةِ الجمالية للعالَم (1)


المزيد.....




- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...
- -تصريح الدخول إلى الجنة-.. سائق التاكسي السابق والقتل المغلف ...
- سيون أسيدون.. يهودي مغربي حلم بالانضمام للمقاومة ووهب حياته ...
- مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى في ثاني أيام الفصح اليهودي
- المقاومة الإسلامية في لبنان .. 200 يوم من الصمود والبطولة إس ...
- الأرجنتين تطالب الإنتربول بتوقيف وزير إيراني بتهمة ضلوعه بتف ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - الكتابة بوصفها مِرَانًا متواصلًا