الأساتذة الجامعيون والإصلاح الجامعي
إبراهيم العثماني
2022 / 9 / 2 - 02:34
من الثابت أن صيف بعض الأساتذة الجامعيين "سيقدّ من لهب هذه السنة"، وأن لحظات الرّاحة التي طالما انتظروها ستستحيل نكدا، وأن ماء البحر إن استطاع البعض إليه سبيلا سيكون طعمه مِلـْحًا يجفـّف جلودهم الجافة أصلا، وأن التشنج والتوتر والخوف على المصير لن يتبدد بسرعة. كيف لا وقد كانت هذه السنة الجامعية سنة استثنائية بامتياز: فمن مفاجأة الزيادات الخصوصية الهزيلة التي أمضتها قيادة الاتحاد من وراء ظهر هياكل القطاع إلى مفاجأة تأسيسٍ هيكل مستقلٍّ عن هياكل الاتحاد العام إلى مفاجأة الاستغناء عن بعض الشّـُعب.
1 – الشعب الأدبية واللغات وشعب العلوم الإنسانية والاجتماعية بين الدمج والحذف:
لم يكن الأساتذة الجامعيّون يتصوّرون أنّ إصلاح منظومة التعليم العالي الذي أحاطته وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بهالة كبيرة من الدعاية سيكون كارثة على الجامعة ، وأن نتائجه الأولى ستلحق ضررا فادحا بعديد الشّعب تراوح بين الدّمج والحذف.
أ – الدّمج:
أقرّت وزارة الإشراف دمج قسم الجغرافيا مع قسم التاريخ. وتمّ تقليص عدد الطلبة الموجّهين إلى هذه الشعبة. فقد وجّه حسب دليل التّوجيه الجامعي 30 طالبا إلى كليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعية 9 أفريل بتونس العاصمة (مع الإشارة إلى أنه يوجد 71 أستاذا بقسمي التاريخ والجغرافيا) في حين وجّه 200 طالب إلى المعهد العالي للعلوم الإنسانية بجندوبة. وهذا القرار أثار استغراب أساتذة قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة لأنه يعتبر "ردة نوعية عن المكاسب التي حققها التعليم الجامعي في بلادنا، ففي حين تتجه جامعات العالم أجمع إلى تفريع الاختصاصات وتدقيق التكوين، وإلى دعم هويتها الوطنية في وجه رياح العولمة العاتية وإبراز خصوصياتها التاريخية عبر تطوير البحث التاريخي تتـّجه الوزارة عندنا إلى دمج الاختصاصات وضمِّ بعضها إلى بعض بغرض "تتفيهها" (انظر اللائحة الصادرة عن أساتذة القسم بتاريخ 11 جوان 2009) ولم يقف الأمر عند هذا الحد.
ب – الحذف
تمّ حذف عدّة أقسام بجرّة قلم ودون التفكير في مصير الأساتذة المدرّسين وكيفية التحاقهم بمؤسسات جديدة ومدى قرب هذه المؤسسات من مقرّ سكناهم ودون التفكير أيضا في مصير الطلبة. فقد تم حذف قسم اللغة الصينية من المعهد العالي للغات الحية بتونس، ووقع الاستغناء عن قسم الترجمة بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس ونقلت شعبة الإسبانية والألمانية والإيطالية من كلية الآداب والإنسانيات بمنّوبة إلى المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس، وتقرّر عدم توجيه طلبة الباكالوريا إلى قسم العربية بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس ممّا يعني حذف هذا القسم تدريجيّا.
ج – الإجازة التطبيقية:
ليس من اليسير أن يستوعب الإنسان أشياء يعسر استيعابها. ذلك أن قدرته على تمثـّل الأشياء محدودة. فعندما نتحدّث عن إجازة تطبيقية في المواد العلمية والتقنية فهذا أمر منطقي ومعقول لأنّه قابل للتّحقيق، ولكن عندما نتحدّث عن إجازة تطبيقية في مواد مثل العربيّة والفرنسية والانجليزية فهذا أمر يحتاج استيعابه إلى جهد كبير. ومع ذلك ألغت وزارة الإشراف الإجازات الأساسيّة في مواد مثل علم النفس وعلم الاجتماع والجغرافيا والفرنسية والانجليزية في كليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعية 9 أفريل بالعاصمة. وهكذا تريد وزارة الإشراف تجريد الجامعة من مهامها المعرفيّة والعلميّة والبيداغوجية وتحويلها إلى جامعة للمهن وكأن توفير مواطن الشغل مرتبط بإحداث إجازات تطبيقية في مثل هذه الشعب.
2 – " الإصلاح" والتجاوزات القانونية:
إن السّياسة التعليمية القائمة على الارتجال والاعتباط والإسقاط لن تفرز إلا مثل هذه النتائج الكارثيّة. فقد انفردت وزارة التعليم العالـي والبحث العلمي بإصلاح التعليم واستجابت لإملاءات صناديق النهب الامبريالية ورفضت المقترحات التي قدّمتها الجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي فكانت النتائج – رغم أنها لا تزال في بداياتها- وخيمة، بل إن الوزارة تجاوزت حتى القوانين التي ارتكزت عليها في هذا الإصلاح. فالفصل 11 من الأمر عدد 23 لسنة 2008 يوزّع التكوين الإجازي بالجامعة إلى تكوين تطبيقي في حدود الثلثين وتكوين أساسي في حدود الثلث الباقي، ونسبة الثلثين من الطلبة وليس من الإجازات كما ارتأت الوزارة أخيرا، ويمكن الحصول عليها بتوجيه الطلبة إلى المعاهد والمدارس العليا فقط. لذا ليس هناك أي داع إلى تحويل أقسام (عربية، فرنسية، أنجليزية على سبيل المثال) عرفت بتخصصها في التكوين الأكاديمي الأساسي إلى إجازات تطبيقية.
كما تجاوزت وزارة الإشراف صلاحيات هياكل الجامعة. فالقانون التوجيهي للتعليم العالي عدد 19 لسنة 2008 ينصّ في فصله 11 على استقلالية الجامعة في أداء وظائفها البيداغوجية والعلمية وضمان موضوعية المعرفة. إلا أن الوزارة اتخذت هذه القرارات دون استشارة أي هيكل. لذا كان رد بعض الأقسام والمجالس العلمية فوريا ورافضا لاختيارات الوزارة.
3 – ردود الفعل:
لم تعلم وزارة الإشراف الأقسام المعنية بهذه "الإصلاحات" ومرّت إلى التنفيذ الفعلي دون مقدمات. وقد اطلع الأساتذة والنقابيون على ذلك من خلال دليل التوجيه الجامعي. فكانت الردود متنوعة ومختلفة: مجالس علمية تنعقد لتدارس هذه المستجدات، أقسام تصدر مواقف وبيانات (قسم علم الاجتماع بصفاقس، قسم التاريخ بسوسة، قسم العربية بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس)، اجتماعات نقابية تعقد بمؤسسات جامعية (سوسة، 9 أفريل، ابن شرف، منوبة)، مقالات وحوارات صحفية. وقد أجمعت كلها على حالة التوتر التي تعيشها الجامعة وأدانت سياسة الارتجال والتعالي ونبهت للمخاطر التي تتهدّد الجامعة.
4 – صورة المجتمع من صورة الجامعة:
الجامعة هي الفضاء الذي تقدّم فيه المعارف النظرية والتطبيقية لتوظف لاحقا لخدمة البلاد والعباد، منها يتخرج الأطباء والمهندسون والعلماء والأساتذة، وفيها تصقل العقول وتتدرّب على البحث والنظر وإعمال العقل واستنباط الحلول. والجامعة هي القاطرة التي تقود تطوّر البلاد وتدفع نموّها إلى الأمام. وعندما تكون الجامعة وكرا للخرافة والشعوذة يكون المجتمع بالضرورة قروسطيا متخلفا، وعندما تدرّس فيها قيم الحداثة والعصرنة والتقدم ينعكس ذلك على المجتمع فيتجلى من خلال الاختلاط في المؤسسات التعليمية واشتغال المرأة واندماجها في الحياة الاجتماعية ومشاركتها في الحياة السياسية. وعندما تجرّد وزارة التعليم العالي الجامعة من مهامها الأساسية وتحولها إلى جامعة مهن باسم التشغيلية فإن العواقب ستكون وخيمة. ولن يكون لنا في المستقبل علماء وباحثون ونقاد وكتّاب، وسيتخرج في جامعاتنا مستكتبون عاجزون أحيانا عن كتابة جملة سليمة. وبهذه الصّورة تتعمّق الهوّة بين البلدان الرأسماليّة المتطوّرة المنتجة للمعرفة في التقسيم العالمي للمعرفة، وبين بلادنا التي يظل دورها في ظل هذا التقسيم محصورا في استهلاك ما ينتجه الآخرون الذين ربّما سيتولّون هم كتابة تاريخ بلادنا ودراسة خصائصها الاجتماعية ونفسيات مواطنيها...
5 – المقترحات
إن الجامعة العامّة للتعليم العالي مطالبة وبإلحاح في هذا الظرف الحساس، بالدفاع عن الزملاء والجامعة وذلك بإيقاف الإجراءات الخطيرة التي اتخذتها وزارة الإشراف وحملها على التراجع عنها وفتح باب التفاوض الجدي لمناقشة ما سيترتّب على هذا "الإصلاح المشؤوم".
ضرورة تحذير وزارة الإشراف من التمادي في سياسة الهروب إلى الأمام وتجاهل المقترحات التي قدمتها الهياكل النقابية الجامعية.
الاستعداد مبكرا لخوض نضالات فعالة منذ مفتتح السنة الجامعية المقبلة وتنويع أشكال النضال لإنقاذ ما يمكن إنقاذه دفاعا عن الجامعة ودورها الأساسي في تطوير البلاد.
وأخيرا وليس آخرا فإنّ من واجب النقابة فتح نقاش عميق صلب الزميلات والزملاء للوقوف عند مسؤوليتنا نحن الأساتذة في ما آلت إليه أوضاعنا.
[ كُتب هذا المقال في صائفة 2009].