الانفعالات والأزمات
سعد الله مزرعاني
2022 / 7 / 16 - 11:11
في الأزمات تتفجّر الانفعالات. وهي تصبح أكثر حدة واتساعاً وعنفاً بمقدار ما تتعمق تلك الأزمات، وتستعصي، ويكثر ضحاياها وتتعاظم أضرارها. الانفعالات، بشكل عام، صنفان. الأوّل إيجابي والثاني سلبي. أمّا الإيجابي، فهو الذي ينبثق عنه رد فعل مدروس ومتماسك ومحفّز. يحصل ذلك، فقط، من خلال اعتماد منهجية تفكير وتحليل ترتكز إلى العلم والوعي والموضوعية. بالاستناد إلى هذه المنهجية تتبلور خطة التعامل والعمل، لجهة الأولويات والأساليب والأدوات والقوى... تبدو المؤسسات، السياسية الحزبية، والاقتصادية والاجتماعية... ذات الأهداف والبرامج والأولويات الواضحة والمحددة، وذات البنية الحديثة التشاركية في شؤون اتخاذ القرار والإدارة والتنظيم، هي الأقدر على صياغة تعامل إيجابي مع الأزمات: كبيرها وصغيرها. ولا يقتصر الانفعال الإيجابي على المؤسسات، بل يمكن أن يصدر عن الأفراد أيضاً. طبعاً، مع فارق الفعّالية. الأفراد هؤلاء، قد يكونون منفردين في تعاطيهم ومبادراتهم، أو أن يكونوا ضمن تجمعات أصغر ذات طابع مدني أو اجتماعي أو أمني أو اقتصادي أو صحي... طبعاً كل تقييم للأحداث وللأزمات وللمواقف منها، كما أشرنا آنفاً، ينبغي أن ينطوي، بالضرورة، على حد كافٍ من صحة الإدراك للأزمة موضوع الاهتمام: في أسبابها والنتائج والمسؤوليات، بما فيها تلك التي يتحمّلها المعنيون من شركاء المسؤولية، أو، أحياناً، من ضحايا تلقّي الخسائر أنفسهم.
أمّا الصنف الثاني، السلبي، فهو يتميّز بتقدم انفعاله على أفعاله. ويتسم هذا النوع من السلوك، في مجمله، بالتسرع والارتباك والاندفاع غير المحسوب... هو يعتمد، في الغالب الأعم، تفسيرات جزئية أو وحيدة الجانب. إن الأفراد هم، نسبياً، الأكثر اندراجاً في هذا الصنف بحكم أن قراراتهم وردود أفعالهم، هي ذات طابع فردي غالباً. بعضهم قد يمتنع حتى عن مجرد الاستماع إلى آراء أخرى، ولو كانت صديقة أو محايدة. وقد يستسهل هذا البعض إطلاق النعوت السلبية والشتائم، على من يُظن أنه مسؤول، وقبل أي تحقق أو تدقيق. ويغيب، غالباً، في مثل هذه الحالات، الحد الأدنى من الموضوعية في تحديد المسؤولين، أو حجم المسؤولية وكيفية توزيعها بما في ذلك المسؤولية الذاتية للمتلقّي: سواء لجهة عدم التزامه الحذر، أو حتى المشاركة في المسؤولية أحياناً، عن حصول الأزمة نفسها!
تشكل الانتخابات النيابية التي أجريت في 15 أيار الماضي محطة أُريد لها أن تكون حاسمة أو انعطافية، على الأقل، إثر اندلاع وتفاقم واستعصاء الأزمة الطاحنة التي ضربت لبنان وشعبه عموماً، قبل نحو ثلاث سنوات. بسبب الحجم الهائل للكوارث والخراب اللذين نجما عن تلك الأزمة، كان ينبغي أن تكون المحاسبة قاطعة عبر إقصاء وإسقاط شاملين للمسؤولين عن الانهيار المدمّر الذي أصاب البلد وناسه. لذلك حفلت المرحلة التي سبقت الانتخابات، خصوصاً بعد انفجار المرفأ قبل نحو سنتين، بصراع ضار انخرطت فيه قوى كبرى، دولية وإقليمية، فضلاً عن نشاط استثنائي لقوى محلية، وبدور قيادي مباشر للإدارة الأميركية. تم، في هذا السياق، تجنيد إمكانات هائلة سياسية وإعلامية ومالية وتحريضيه لتغذية الأزمة، من جهة، ولاستثمار نتائجها وتحميل مسؤولية حصولها لطرف دون سواه ولهدف ذي طابع إقليمي بعيد نسبياً عن الأزمة وعن المسؤولين الفعليين الداخليين، وداعميهم الخارجيين، عنها. رؤساء دول ورؤساء منظمات دولية، كانوا مجنّدين في الحملة السياسية لإجراء الانتخابات «في موعدها». «صندوق النقد الدولي» أصبح لاعباً أساسياً في بذل الوعود وتحديد الشروط وصولاً إلى المجاهرة بـ«دراسة الجدوى السياسية» لكل قرض أو مساعدة محتملة بما فيها تمويل الكهرباء الأردنية والغاز المصري. هذا الصخب الخارجي الدولي والإقليمي والداخلي سبقه وخذله عجز «قوى التغيير» الناشئة، وخصوصاً منها المدعومة والمدارة من الخارج، عن البقاء في الشارع، وعن التوحد في المعركة الانتخابية. يضاف إلى ذلك أن قوى التغيير الوطنية قد عجزت عن التوحد في تيار وطني واسع، ما أدى إلى اكتفائها بدور ضعيف وهامشي في الانتخابات وفي الحياة السياسية عموماً. من جهتها، استحضرت قوى السلطة، الأساسية والعريقة منها خصوصاً، ترسانتها المجرّبة في المعركة (وخصوصاً منها سلاح العصبيات الطائفية والمذهبية)، من أجل الدفاع عن مواقعها وتحديد خسائرها إلى الحد الأقصى. لم تأت النتائج حسب التوقعات والرغبات والمخططات. كيف تعاملت معها القوى المختلفة مع النتائج؟ وماذا كانت الانفعالات وردود الأفعال؟
لنبدأ، أوّلاً بالطرف الأبرز، الأميركي، حيث بكّر أحد مسؤوليه السابقين (شينكر) في التعبير عن خيبته من النتائج مستنداً إلى ما وصله من المعطيات لجهة صعوبات وتشتت حلفاء واشنطن. وهو ما لبث أن تراجع عن تصريحه لرفع المعنويات ولأن المعركة مستمرة! أمّا الطرف الأكثر مبالغة وانتصارية وتسرعاً، فكان رئيس «القوات» جعجع الذي تصور نفسه عاجلاً في القصر الرئاسي، وزفّ إلى حلفائه في واشنطن والرياض أنه استحوذ على الأكثرية التي تمكنه من تطبيق شعار «بدنا وفينا»! الثالث، في التسرع، على خفة ووقاحة، كان السنيورة الذي أعلن أنه بات يمتلك كتلة من 7 نواب، ما لبث أن كذّبه منهم 6! السفير السعودي وقع ضحية تسرع جعجع والسنيورة، وكتب يعلن انتصاره هو الآخر! باسيل، من جهته، تجاهل التراجع الكبير الذي مني به تياره وركّز على النجاحات فقط...
تعامل معظم أطراف السلطة على ضفتي الموالاة والمعارضة، بأنه الرابح الأول: لجهة، إمّا المحافظة على القديم، أو لجهة كسب أكثرية جديدة (الصحيح أن عدم سقوطهم المدوّي هو ربح أكيد !). لكن اللافت كان ولا يزال في انفعالات عدد من مرشحي التغيير ممن كان حصادهم متواضعاً جداً في الأصوات. هؤلاء تفردوا إلى درجة المبالغة، وحتى عدم الاتزان، باللجوء إلى إطلاق الشتائم ضد الشعب ووصفه بالقطيع والجاهل والذي لم يستمع إلى مخلصيه... كان الأحرى أن يُجري هؤلاء وسواهم من قوى التغيير الحزبية والمدنية، بحثاً معمّقاً حول مجريات المعركة ومدى التداخلات فيها والقوى الكبرى التي تتصارع على كسبها... وكان عليهم بالطبع أن يراجعوا تجربتهم الخاصة، في هذا السياق، خصوصاً أن بعضهم يخوض تجربة مماثلة للمرة الأولى، تلك التجربة تحتاج إلى دراسة لجهة ظروفها وأشخاصها، ولجهة الشعارات وتعدد اللوائح، ولجهة الجهد والاستعداد المتوفرين قبل المعركة وأثناءَها... كذلك ينبغي إيلاء أهمية خاصة، وتحديداً في الجنوب، لجهة أن عنوان المعركة الأساسي من قبل المعارضة المدارة أميركياً، إنما تجسّد في استهداف «حزب السلاح»... وأن جزءاً من جمهور المقاومة ومن مؤيديها قد عضّ على جرحه النازف على أيدي قوى المحاصصة والنهب والفساد، من أجل إفشال المشروع الأميركي!