|
النقاش حول نظام الإرث ليس نقاشا دينيا
أحمد عصيد
الحوار المتمدن-العدد: 7288 - 2022 / 6 / 23 - 20:55
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
"لا شيء يستطيع إيقاف فكرة آن أوانها" ميشيل مافيزولي. يرتبط النقاش في موضوع الإرث بمشكلة المنظومة الفقهية التقليدية وعوائقها المنهجية والمفاهيمية، كما يعكس طبيعة العقلية السائدة في المجتمع، وكذا من جانب آخر وبلا جدال طبيعة السلطة وآليات اشتغالها، وهي كلها عوامل يحرص الفكر الفقهي القديم على الحفاظ عليها ورعايتها حفاظا على وجوده واستمراره، رغم تغير الأحوال وانقلاب الأوضاع في الواقع الملموس. يفسر هذا لماذا يزعم كثير من الناس أن النقاش في موضوع الإرث مفتعل ولا موجب له ولا ضرورة، وعلى رأس هؤلاء ثلة من فقهاء الدين ورجال التدين السياسي من "الإخوان" و "السلفيين"، وجميع الذين لا يشعرون بارتياح عندما يطرح موضوع ما للنقاش والحوار والتبادل بسبب ظلم أو ضرر، حيث يفضلون أن تبقى الأمور على ما هي عليه دون تقديم أي بديل عملي، ولإيقاف النقاش يجعلونه نقاشا دينيا صرفا، بينما هو في الحقيقة نقاش في الحقوق الاقتصادية للنساء. والحقيقة أن أي موضوع يطرح للنقاش ليس اختيارا إرادويا، وإنما يفضي إليه واقع اجتماعي لم يعد يمكن غضّ الطرف عنه، فالقضايا التي تنفجر في النقاش العمومي لا تصل إلى هذا المستوى إلا بعد أن تكون قد عبرت عن نفسها بالمكشوف في الواقع الاجتماعي الحيّ والمباشر، من خلال توترات أو مفارقات تجعل فئة من الناس تشتكي وتطالب بحلول عاجلة، بوصفها متضررة. حيث تصبح هناك حاجة ملحة لطرح الموضوع والبت فيه وتقليب مختلف جوانبه، فيدخل على الخط المتخصصون في القانون والسياسة والباحثون السوسيولوجيون وعلماء النفس وحتى الفنانون والأدباء وعامة الناس ممن يحكون عن تجاربهم ويقدمون شهاداتهم من الواقع المباشر. من البديهي أنه لا يمكن للقانون الثابت أن يحيط بالوقائع المتغيرة أو يحدّها، لأن ذلك من المحال، والمتحدثون باسم السماء حجتهم ضعيفة عندما ينحازون إلى النص من باب العاطفة لا غير، أو إلى التراث الفقهي ضدّ الإنسان وضدّا على الواقع، إذ الغلبة في النهاية للواقع وللتاريخ اللذين لا يقوى أحد على تحديهما مهما كانت قوته واعتداده بسلطته. ولنا عبرة فيما حدث للمسلمين خلال القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين، حيث اضطروا إلى التخلي عن الكثير من الممارسات والتشريعات وأشكال التدين التي كانوا يعتقدون أنها من صميم الدين وجوهره، ليتبين لهم بعد ذلك أن تلك القوانين الدينية إنما كانت تستجيب لأوضاع لم تعد قائمة، ما يعني أن الاستمرار في تكريسها يؤدي إلى شيوع الكثير من الظلم وهدر الكرامة، علاوة على التصادم مع الدولة وعرقلة تطور الواقع الإنساني. لقد أظهرت تجارب الشعوب والبلدان الناجحة بأن دينامية القوانين تكمن في أنها تتجدّد بتجدد واقع الناس، بل إنها قد تنقلب وتتغير بالكامل لتساير أحوال البشر في معاشهم ووجودهم الاجتماعي. وقد عبر القدماء عن ذلك بالقولة الشهيرة "تغيير الأحكام بتغيّر الأحوال"، ولا يمكن استثناء نصوص بعينها من هذه القاعدة تحت ذريعة كونها نصوصا "قطعية الدلالة" لأن ثمة نصوص كثيرة وردت بنفس الصيغة ولم يعد يتمّ الاحتكام إليها بسبب تلاشي البنيات السوسيولوجية والثقافية والسياسية التي كانت تستجيب لها تلك النصوص، حيث تنعدم الحاجة إلى النصوص بانتفاء المبرر الواقعي للجوء إليها، وهكذا تخلصنا من كل فقهيات الرق والعبودية مثلا، بانعدام أسواق الرقيق وإعلان التحرّر الكامل للبشرية، كما أوقفنا العمل بالعقوبات الجسدية التي لم تعد تطابق مفهوم الإنسان في عصرنا، وصرفنا النظر عن فكرة "الجهاد" و"الغزو" ضدّ جيراننا الذين لا يشبهوننا في العقيدة، وهي أمور وردت فيها كلها نصوص "قطعية صريحة". لقد كان نظام الإرث عادلا تماما عندما كانت المرأة رهينة "الحريم"، وكان الرجل يعمل وحده خارج البيت ويتحمل النفقة على الأسرة، ولم يكن عمل المرأة داخل البيت يعتبر عملا تُجازى عليه، ولم يكن يُعتبر ضمن الجهد في إنتاج الثروة، وكانت العائلة منظمة بالمفهوم العشائري الممتدّ، وعلى من يرفض اليوم إعادة النظر في نظام الإرث أن يعيد المرأة إلى الواقع القديم، ويعيدنا إلى نظام الأسرة السابق، حتى يعود التطابق بين النص والواقع، أما الآن فلم تعد ثمة علاقة ثابتة بين النص الديني والفكر الفقهي وبين واقع الناس. بهذا المعنى الذي أشرنا إليه يصبح من مازال يحاول إيقاف النقاش في موضوع الإرث واضطهاد من يثير الأسئلة حوله، يُصبح خارج التغطية، لقد كان السيد مصطفى الرميد الوزير السابق المكلف بحقوق الإنسان يقول بأن وزارته "غير معنية بإدارة أي حوار حول المساواة في الإرث"، لأن هذا الموضوع في رأيه "مستفز" للمجتمع، والحقيقة التي لم ينتبه إليها الوزير آنذاك هي أن المجتمع هو الذي يستفز الفكر والنقاش بما يعرفه من مخاض وتحولات تطرح علينا تحديات جديدة، فالتيار المحافظ ينظر إلى المجتمع كما لو أنه بركة آسنة راكدة لا يجوز لأحد أن يلقي فيها ولو حصاة صغيرة ، بينما الحقيقة أن المجتمع يغلي بالتحولات التي لا يمكن إيقافها، والتي من أهمها وضعية المرأة التي أصبحت تكشف بشكل صارخ عن قصور القوانين وجمودها. ولهذا نجد اليوم مؤسسات عمومية، مثل المجلس الوطني لحقوق الإنسان، تطرح سؤال نظام الإرث وتكشف عن تناقضات الواقع، كما نجد أن الدراسة الجديدة التي تحمل عنوان “نظام الإرث: ما هي آراء لمغاربة”، والتي أنجزتها “جمعية النساء المغربيات من أجل البحث والتنمية” بشراكة مع “المنظمة المغربية لحقوق الإنسان”، قد أظهرت وجود تقارب بين المؤيدين والمعارضين لتعديل مقتضيات مدونة الأسرة في الشق المتعلق بالإرث عكس ما يعتقده كثيرون، حيث عبر 44 في المائة من عينة البحث عن رفضهم لأي تعديل يمس مقتضيات نظام الإرث في مدونة الأسرة، بينما أكد 36 في المائة من المستجوبين تأييدهم لمراجعة ذلك النظام، ولم يعبر 20 في المائة عن أي موقف أو رأي حاسم. كما كشفت الدراسة عن أنّ الكثير من المواطنين الذين لا يعبرون عن موقف الرفض لنظام الإرث الحالي يلجؤون رغم ذلك إلى “الالتفاف” بأنواع من التحايل على قواعد اقتسام الميراث المعمول بها للحفاظ على الثروة لأبنائهم وبناتهم. إن المجتمع يستفزنا يوميا بمفارقاته، وعلينا أن نكون في مستوى انتظاراته، أما الذين يفضلون الاحتكام إلى قوالب فكرية جاهزة منذ ألف عام، فعليهم عوض أن يلعنوا القطار المتحرك ، أن يسارعوا باتخاذ أماكنهم فيه، لأن ذلك هو خيارهم الوحيد.
#أحمد_عصيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من المدرسة القرآنية إلى المدرسة الحديثة،، مسافة ضياع
-
مشكلات الكتاب والقراءة بالمغرب
-
أبطال التفاهة
-
تجزيء الديمقراطية معرقل للتغيير
-
جهاد المشايخ: نكوص عقلي مزمن
-
المغرب بين الأمني والثقافي
-
هزائم السلفية
-
-الإفطار العلني- في القانون الجنائي المغربي
-
الدراما التلفزيونية بين الدين والتاريخ
-
شيخ الأزهر و-قواعد- ضرب النساء
-
عن -القيم الإسلامية النبيلة- المطاردة في التعليم والإعلام، س
...
-
-كأس العرب- التي سيفوز بها -العجم-
-
نداء إلى أحرار ليبيا من أجل وطن يحتضن كل مكوناته
-
مشكلة الإسلام السياسي مع المدرسة العصرية
-
دروس الانتخابات المغربية
-
كيف أصبح المغربي الهولندي أحمد بوطالب أفضل عمدة في العالم ؟
-
إلى السيد أبو يعرب المرزوقي: من حقنا أن نختار -أخف الضررين-
-
انهيار -العدالة والتنمية- ليس نهاية -الإخوان-، تحليل ونداء
-
طالبان بين الديمقراطية والشريعة
-
الديكتوقراطية
المزيد.....
-
أسعد أولادك…. تردد قناة طيور الجنة التحديث الجديد 2025 على ج
...
-
استقبلها الان.. تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024
-
“فرح أطفالك طول اليوم” استقبل حالا تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية
...
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|