الحزب الشيوعي الاسرائيلي يتأرجح بين حزب العمل وحزب الله
اسماء اغبارية زحالقة
2006 / 9 / 18 - 09:50
كيف مِن موقف الدعم الجارف للشرق الاوسط الجديد بقيادة رابين والامريكان عام 1993، وصل الحزب الشيوعي الى دعم المعسكر المضاد بقيادة سورية، ايران وحزب الله؟ لم يكن هذا على اساس مراجعة للذات، بل انجرارا وراء المزاج الشعبي واعتبارات سياسية ضيقة تعبر عن فقدان البرنامج.
اسماء اغبارية
صمود حزب الله في وجه الجيش الاسرائيلي المتفوق، جرف وراءه الامم و"الاممية". فلم تكن الشعوب العربية والاسلامية وحدها التي هلّلت لنصر الله، بل قيادة الحزب الشيوعي الاسرائيلي ايضا.
قرر الحزب بان حرب لبنان الاخيرة كانت مبادرة امريكية-اسرائيلية مخططة سلفا، هدفها بسط الهيمنة الامريكية وتمهيد الظروف لبناء الشرق الاوسط الجديد. ولانه ليست هناك مصادر اسرائيلية قريبة تدعم هذا الادعاء، لجأ الحزب الشيوعي لاستيراد "ادلة" على ادعائه من الولايات المتحدة.
في صحيفة الحزب الشيوعي "الاتحاد" كتبت القيادية البارزة في الحزب، تمار غوجانسكي، مقالا (22/8) هو عبارة عن اقتباسات مطولة من مقال سموير هيرش، المعلّق الامريكي في اسبوعية "نيويوركر" (21/8). ادعى هيرش ان اسرائيل وامريكا نسقتا الحرب على لبنان، ضمن الاستعدادات لضربة امريكية مستقبلية على المفاعل النووي الايراني.
النقاش الحاد في اسرائيل حول عدم جاهزية جيش المشاة للحرب، لدرجة النقص في المعدات الاساسية وحتى الماء والطعام، وعدم جاهزية الجبهة الخلفية للمواجهة ايضا، والمطالبة على اثر ذلك بتشكيل لجنة تحقيق رسمية، كلها تشير الى ان اسرائيل لم تكن مستعدة للحرب ولا خططت لها. ولكن الحزب الشيوعي لا يبدو متأثرا بما يدور تحت انفه. هيرش الموجود وراء المحيط كان اكثر اقناعا.
والنتيجة ان محمد نفاع، الامين العام السابق للحزب، رأى واقعا مختلفا. فقد كتب في الاتحاد (22/8) ان الجيش الاسرائيلي "حارب جوا وبحرا وبرا بشكل لا مثيل له في التدمير والاجرام..."، ولكن "الامر الجديد هو هذه المقاومة الجبارة". بمعنى ان المشكلة لم تكن في اداء الجيش، بل في التحدي الجديد الذي مثل امامه.
عندما تخطط اسرائيل لحرب، تكون الاجواء مشبعة برائحة الدخان القادم. ولكن هذه المرة كانت الاجواء معبأة ضد حماس وليس ضد حزب الله. حتى امين عام حزب الله، حسن نصر الله، اعترف انه لم يتوقع حربا اسرائيلية في هذا التوقيت. في مقابلة لقناة "ان.تي.في" اللبنانية (27/8) قال انه لو عرف ان اسرائيل سترد بحرب على عملية خطف الجنود لما نفذها. ويتضمن هذا التصريح اعترافا بان عملية الخطف هي التي استفزت اسرائيل للحرب، خلافا لموقف الحزب الشيوعي الذي دافع عن نصر الله معتبرا الحرب مبادرة امريكية اسرائيلية مخططة سلفا.
تصريح نصر الله الاخير يناقض ادعاء سابقا له بعد ايام قليلة من اندلاع الحرب، زعم حسبه ان اسرائيل كانت تخطط للحرب. مع هذا سؤال غريمه وليد جنبلاط: اذا كنت تعرف لماذا لم تنذرنا؟ بقي دون جواب. واضح ان هذا الادعاء كان محاولة مكشوفة من نصر الله لتحميل اسرائيل مسؤولية الحرب، التي جرّت عليه نقدا داخليا. والحقيقة انه فوجئ بالحرب، كما صرّح نائبه نعيم القاسم لصحيفة "النهار" اللبنانية في 26/8.
اسرائيل ايضا فوجئت بها. لدرجة ان بعض الضباط قارنوها بالمفاجأة التي اوقعتها بهم حرب اكتوبر 1973 مع المصريين. اذن لقد فوجئ الطرفان واحد لم يخطط للخروج الى حرب. وتبقى الحقيقة المرة، التي لم تحظ بشعبية ابدا، وهي ان هذه الحرب التي زرعت الدم والدمار كانت رد فعل اسرائيلي غير متوازن ولا معقول على مغامرة حزب الله غير المحسوبة.
في 18/7 كتب احمد سعد المحرر الرئيسي لصحيفة "الاتحاد"، ان اسرائيل وامريكا والقوى اللبنانية والانظمة العربية استغلت عملية حزب الله كذريعة، لتنفذ بطريق الحرب خطة لتدجين لبنان والهيمنة عليه وبناء شرق اوسط جديد. وذلك بعد ان فشلت محاولة القوى نفسها في استغلال اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية، رفيق الحريري، لتنفيذ نفس الخطة بالطرق "السلمية" التي تجسدت في قرار مجلس الامن رقم 1559.
قرار 1559 الذي نص على انسحاب سورية من لبنان، انتشار الجيش اللبناني في الجنوب وتفكيك سلاح حزب الله، لم ينفَّذ بالكامل. ومن هنا يستنتج سعد: "ما فشل المتآمرون من لبنانيين واسيادهم الامريكيين والاسرائيليين في تحقيقه سلميا، يأملون اليوم ان يحققوه عن طريق الحرب التدميرية الهمجية الاسرائيلية".
المشكلة في هذا التفسير انه غير جدلي. فبينما يفسر لنا سعد خطط معسكر واحد، يهمل تماما دور الطرف الثاني في المعادلة، حزب الله. فحزب الله لم يأسر الجنود لمجرد تحرير مزارع شبعا والاسرى اللبنانيين، بل كانت له اعتبارات سياسية داخلية. وقد قدّر ان عملية كبيرة قد تعيد له شعبيته وتؤكد شرعية سلاحه، وتؤثر على موازين القوى الداخلية التي تراجعت في غير صالحه، بعد الانسحاب الاسرائيلي ثم السوري من لبنان وفوز المعارضة اللبنانية في الانتخابات (2005).
عالم ذو قطبين؟
في المقال نفسه (18/7) يكتب سعد: "ما يرافق هذه الحرب العدوانية هو ان الصورة تتضح اكثر حول الفرز التقاطبي الحاصل، من ناحية قطب التحالف الاستراتيجي العدواني الامريكي-الاسرائيلي الذي يمارس العدوان بهدف الهيمنة... ويتواطأ معه العديد من الانظمة العربية. مقابل هذا القطب، تقف حركات المقاومة والقوى التقدمية والنظام السوري في المنطقة وبضمنها حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية".
ليس واضحا الاساس الذي اعتمادا عليه قرر سعد هذا التقسيم. فهل نسي مثلا ان حزب الله شريك كامل في الائتلاف الحكومي اللبناني الموالي لامريكا؟ ثم لماذا يعتبر القطب المضاد لامريكا تقدميا بالضرورة؟
محمد نفاع يقدم لنا التفسير. في مقال على موقع "الجبهة" (23/8)، اعرب فيه عن تأثره بالمظاهرات في لبنان التي رُفع فيها العلم الاحمر والمطرقة والمنجل الى جانب اعلام حزب الله، كتب نفاع ما يلي: "لا يمكن لمن تكون امريكا صديقته ان يكون تقدميا ومناضلا، ولا يمكن لمن تستهدفه امريكا من نُظُم واحزاب وقوى ومنظمات الا ان يكون اهلا للتضامن، لان الخطر الاكبر هو الولايات المتحدة. وهذا ينطبق على حزب الله وعلى ايران وعلى سورية وعلى حماس وعلى فنزيولا وغيرها".
في مقاله من اليوم السابق (الاتحاد،22/8) كتب نفاع على نحو أوضح: "آن الاوان لتأكيد مقولة لينين ان الباشا المصري الذي يدافع عن استقلال بلده، افضل من العامل الذي يصنع السلاح للعدوان والاحتلال. وآن الاوان لندرس ان هنالك قوى اصولية دينية تناضل ضد العدوان والاحتلال، وهي اشرف من كل اليسار المدعي والمزيف... المهم الآن هو لجم هذا المخطط العدواني الامريكي الاسرائيلي في العالم والمنطقة، فهذا بالتالي يخدم النضال الطبقي".
تصعب قراءة هذه الكلمات دون التساؤل: هل حسب هذه النظرية كان علينا دعم بن لادن؟ هناك امر خاطئ وخطير في تبني معادلة "عدو عدوي صديقي". يكفي ان نذكر الحاج امين الحسيني، مفتي فلسطين في 1948، الذي دعم المانيا النازية كتكتيك لتحرير فلسطين من البريطانيين والصهيونيين. يبدو انه فكّر، حسب معادلة نفاع، ان بريطانيا كانت "الخطر الاكبر".
ولكن هل القوى التي يوصي نفاع بدعمها، هي تقدمية فعلا؟ لنلقي نظرة:
أ. النظام السوري: هل يختلف فعلا عن الانظمة العربية؟ هل هو اقل فسادا واكثر ديمقراطية؟ هل نسينا ان سورية شاركت في الحرب على العراق عام 1990-1991، ضمن الائتلاف الحربي الذي قادته امريكا بمرافقة الانظمة العربية "المدجنة العميلة" كما يصفها سعد ونفاع؟ الحزب الشيوعي نفسه وقف في تلك الحرب مع العراق ضد سورية. ألا ينطبق على سورية ما قاله نفاع اعلاه "لا يمكن لمن تكون امريكا صديقته ان يكون تقدميا ومناضلا"؟ ام يريد اقناعنا ان سورية قدمت التوبة؟
صحيح ان سورية لم توقع بعد على اتفاق سلام مع اسرائيل، ولكنها تسعى الى ذلك لو ان اسرائيل اعطتها الفرصة. ترى ماذا سيكون موقف الحزب الشيوعي عندما توقع سورية الاتفاق وتحظى بالرعاية الامريكية لتخرج من العزلة وتنقذ نظامها؟
ب. الحركات الاصولية: يدعونا نفاع لاعادة النظر في الموقف من الحركات الاصولية، وتبنيها كشريك في "النضال الطبقي"، لا اقل.
ولكن الاصولية لا يمكن ان تكون تقدمية، لان طموحها هو العودة بنا الى الوراء، الى الاصول. ولا يجب ان ننسى ان هذه الحركات كانت الذراع العسكرية لامريكا الرأسمالية في حربها ضد الاتحاد السوفييتي في افغانستان في الثمانينات، ثم من بعدها في شرق اوروبا (البوسنة، كوسوفو) وآسيا (الشيشان)؟ صحيح ان الشراكة انفضت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، كما تبين في 11 ايلول 2001، ولكنها تعود لتصبح تلقائية عندما يتعلق الامر بمحاربة عدوهما المشترك، الشيوعية والقوى اليسارية التقدمية.
في مقال على موقع الجبهة (27/7) يعترف سعد انه "في ظل ضعف قوى اليسار والتقدم في البلدان العربية، فان القوى المؤهلة لان تكون البديل السلطوي لبعض هذه الانظمة... هي الحركات الاسلامية الاصولية". ولكن ألم يساهم في اضعاف اليسار في العالم العربي تضافرُ قوى النظام والحركات الاسلامية ضد القوى التقدمية؟ ولم نفهم ايضا لماذا لم يستنتج سعد من تحليله وجوب تقوية اليسار واعادة بنائه، بدل تقوية المعسكر المضاد له؟ هل يعني هذا انه تنازل عن برنامجه ودوره التاريخي؟
ثم هل يمكننا اعتبار البديل السلطوي الذي تقدمه الحركات الاصولية، نظاما تقدميا؟ هل كان نظام طالبان الاصولي في افغانستان مثلا، مقبولا على الحزب الشيوعي؟ هل هناك احتمال اصلا لحزب شيوعي ان ينشط في ظل انظمة كهذه؟
الحركات الاسلامية الاصولية التي يمثلها اليوم حزب الله الشيعي وحماس السنية، تقود خطا متطرفا، تقترح ان النزاعات هي حروب دينية وحضارية، تعزل بلادها وتسبّب انقساما عميقا في العالم العربي. ألم تسبب قضية شهاب الدين انقساما في الناصرة، معقل الحزب الشيوعي؟ عندها لم ير الحزب ان الحركة الاسلامية التي في داره هي جزء من قطب تقدمي مناوئ لامريكا.
ج. النظام الايراني: قبل اعلان الحزب الشيوعي عن دعمه للنظام الايراني، كان الحري به ان يفحص موقف الحزب الشيوعي الايراني (Tude) من النظام. وثيقة اللجنة المركزية للحزب الممنوع من النشاط في ايران، والصادرة في ديسمبر 2005، تتحدث عن نظام "ولاية الفقيه" المحافظ وتصفه بانه مظلم ورجعي، وانه يدعم البرجوازية الكبيرة وينتهج سياسة الخصخصة التي تزيد الفجوات الطبقية.
تنص الوثيقة على ان نظام احمدي نجاد تبنى اسلوب الدعاية الفاشية، اذ يستغل فقر الناس للفوز بالحكم. وبدل مواجهة المشاكل الحقيقية لبلاده، حيث يعيش 31% عند خط الفقر و19% تحته، فانه يحرف انظار الشعب ويعبئه على الجهاد ضد العدو الخارجي، اسرائيل وامريكا.
ولا يجب ان ننسى الدور المركزي الذي لعبته ايران في اسقاط العراق، وتعاونها مع امريكا في حكمه من خلال الاحزاب الشيعية الموالية لها. بمعنى سورية دعمت امريكا ضد العراق في مطلع التسعينات، واليوم تدعمها ايران. فهل يمكن لصديقة امريكا في العراق ان تكون تقدمية وتستحق التضامن، ايها الرفيق نفاع؟
تسعى ايران لنشر نفوذها في العالم العربي، وتمعن بذلك في إضعافه. ولا شك ان لهذه الظروف الاقليمية اثرها على شعور حزب الله بان له سند ونفوذ، مما دفعه للقيام بالعملية في 12 تموز، والتي انتهت الى اندلاع الحرب الاخيرة في لبنان.
في ايران، لبنان والمناطق الفلسطينية هناك طبقة وسطى ترفض القبول بالنظام الاصولي كنهج حياة. صحيح ان هذه الشريحة موالية لامريكا وبعيدة عن طموحات الشعب، ولا تستحق دعمنا، ولكن هذا لا يعني ان نقفز لدعم المعسكر الاصولي المضاد.
الحزب الشيوعي ينقاد وراء الجماهير
افتقار الحزب الشيوعي لبرنامجه الخاص جعله ينجر وراء دعم برامج غريبة عنه بل ومضادة له. نداء نفاع لفضح ومقاطعة اليسار الاسرائيلي والدول الاشتراكية الديمقراطية الاوروبية التي دعمت اسرائيل في الحرب، ومطالبته بالمقابل بدعم الحركات الاصولية وايران وسورية، يهددان بعزل الحزب والجمهور الذي يمثله.
لا نريد تبرئة ذمة اليسار الصهيوني الذي دعم الحرب، ولكن يبدو ان دعم الشيوعيين لحزب الله دفع هذا اليسار اكثر لاحضان اليمين، ولم يساعده في اتخاذ موقف عقلاني. ولا يبدو ان هذا اليسار اقتنع ان حزب الله الذي يخدم مصالح ايران التي تهدد ليل نهار بالقضاء على اسرائيل، يمكن ان يكون شريكا له.
ثم ماذا يعني عمليا موقف مقاطعة اليسار ودعم الاصولية الذي يدعو له نفاع؟ فهل يقصد ان الحزب سينضم قريبا للحركات المسلحة التابعة لحزب الله او حماس، ويخرج فورا من تحالفه في الهستدروت مع حزب العمل بقيادة عمير بيرتس، "وزير الحرب"، كما يسميه؟
يقيننا ان الحزب لا يمكنه حتى ان يتصور سيناريو من هذا النوع، لذا فليس امامنا الا الاستنتاج ان دعمه لحزب الله يعبر عن انجراره وراء الموقف الشعبي في صفوف العرب في اسرائيل، جمهور مصوّتيه الاساسي. على المدى القصير قد يربح الحزب اصوات الناخبين، ولكنه على المدى البعيد سيكتشف انه نفّذ عملية انتحار سياسي.
الاحزاب لا تصل الى هذه المراحل بين عشية وضحاها. فالشرق الاوسط الجديد الذي يعارضه الحزب الشيوعي بحماسة اليوم، حظي بدعمه عام 1993. وبفضله ومن خلال الكتلة المانعة تم تمرير اتفاق اوسلو (ب) في الكنيست وانقاذ حكومة رابين. ومعادلة دعم حزب الله لان امريكا هي "الخطر الاكبر"، بدأت عندما نادى الحزب الشيوعي لدعم زعيم العمل شمعون بيرس في الانتخابات لرئاسة الحكومة عام 1996، بادعاء انه اهون الشرين، وان بنيامين نتانياهو هو "الخطر الاكبر". وتكرر الامر نفسه في التصويت لايهود براك عام 1999.
من الشرعي ان يغير حزب موقفه، ولكننا لم نسمع بان الحزب راجع بجدية مواقفه بالنسبة لعلاقاته بحزب العمل ودعمه لاتفاقات السلام الامريكية. كما اننا لا نعتقد ان الحزب صار يؤمن بالفعل بالاصولية وبنهج نصر الله. موقفه باختصار نابع من انجرار وراء مزاج الشارع، مما يعكس فقدان البرنامج والهوية السياسية، والتنازل عن القيادة والنضال على وعي الجماهير الطبقي اليساري. الحزب الذي يتنازل عن دور القيادة يصبح مشكلة، ولكن عندما يهلّل للاصولية فانه يلعب بالنار، ويصبح "خطرا اكبر" بكثير.