مارتوف.. الشرعية البرلمانية


محمد الأشقر
2022 / 5 / 18 - 10:02     

كتب هذا النص جوليوس مارتوف أحد قادة الحركة الاشتراكية الديمقراطية في روسيا. وذلك في خضم الأزمة التي اندلعت في بدايات شهر ديسمبر من العام 1907 بعد معركة البرلمان التي خاضها نواب الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي في الدوما الثانية، وبعد إلقاء القبض عليهم وتقديمهم للمحاكمة اندلعت موجة احتجاجات هائلة تقودها البروليتاريا الثورية في روسيا.
تاريخ النشر: في 29 ديسمبر 1907
عنوان النص بالانجليزية: The Lesson of the Events in Russia
تم تعريب النص من النسخة الانجليزية على موقع: Marxists’ Internet Archive.
تعريب: محمد الأشقر

________________


يوم الخامس من ديسمبر في سان بطرسبرج هجر 75000 عامل أماكن عملهم؛ في موسكو، في ذات اليوم توقف أيضا 300.000 عامل عن العمل في أكثر المصانع أهمية. في تفليس وباكو وهاربين (في منشوريا) شمل الإضراب معظم المناطق: حيث بقيت المتاجر مغلقة، وتوقف الترام عن العمل. أغلقت المصانع في فيلنا وساراتوف وإيفانو فوسنيسنسك وفي العديد من مدن الطبقة العاملة الأخرى. وفي موسكو وسان بطرسبرج، ترك الطلاب مقاعد الدراسة استجابة للإضراب في جميع المدارس العليا.

لماذا جاء هذا الإضراب على غير المتوقع؟

يوم الخامس من ديسمبر افتتحت المحكمة التي كان من المقرر أن يتم فيها محاكمة نواب الاشتراكية الديمقراطية في الدوما الثاني، وكرد فعل على هذه الجريمة الجديدة من جانب الطبقة الارستقراطية أعلنت البروليتاريا الروسية احتجاجها.

عمت المظاهرات الضخمة المدن الصناعية الرئيسية؛ وفي المدن الصغيرة إذا لم يكن هناك إمكانية لتنفيذ الإضراب كانت ترفع شعارات التضامن مع النواب الذين يتم محاكمتهم؛ ودخلت النقابات المهنية ايضا على خط الاحتجاج، والتي لم يكن يربطها بالحزب الاشتراكي الديمقراطي علاقة تنظيمية بل تحركت بدافع التعاطف العميق معنا.

كان نطاق الحركة الاحتجاجية يتجاوز أكثر التوقعات تفاؤلا. في ظل الشتاء الروسي، والرعب الذي ينشره أرباب العمل داخل صفوف الطبقة العاملة لم نكن نتوقع مطلقا ان تنخرط الطبقة العاملة في الصراع مجددا. وشككت النقابات في نجاح الحركة الاحتجاجية عشية الدعوة للتظاهر. لكن مشاعر السخط كانت تجتاح دون مقاومة الجماهير البروليتارية الروسية، وفي صباح يوم الخامس من ديسمبر ترك العمال بشكل منظم - حتى لا تجد الشرطة ذريعة للتدخل - العمل وذلك من أجل التصويت لصالح قرارات تدين القيصرية.
كانت النساء أول من بادر بالإضراب في أغلب المصانع.
كانت الحركة الاحتجاجية واسعة النطاق تحفز ردود فعل انتقامية من جانب القوى الرجعية، تعرض العمال لشتى ألوان الارهاب، سواء من ارباب العمل أو من رجال البوليس، وكانت الاعتقالات والمطاردات والفصل من العمل وازدياد وتيرة القمع تدفع الحركة العمالية إلى مزيد من المقاومة.
كانت الرجعية ترتجف. كان ستولبين Stolypin [ ستولبين هو رئيس الوزراء في تلك الفترة - المترجم] يصرح بأن الثورة قد تم سحقها تماما. ولكن جاء في صحيفة نوفي فريميا شديدة الرجعية: "هل يمكننا أن نتحدث بجدية عن سحق الثورة عندما كان 75000 عامل في العاصمة لديهم القدرة على التظاهر لصالح آرائهم الجمهورية؟"

في سان بطرسبرج وفي ظل الإضراب، اندلعت مظاهرتان في المدينة ذاتها. في مجلس الشيوخ الإمبراطوري، الذي امتثل أمامه النواب، الذين طلبوا أن يتم إجراء جلسة للنقاش العام، الأمر الذي تم رفضه من هيئة المجلس. بعد ذلك الرفض، غادر النواب المحكمة العليا برفقة محاميهم وهم يهتفون: "يسقط الحكم المطلق!"

بالقرب من غرفة القيصر التي لا يمكن الاقتراب منها، وسط الموظفين والنخبة التي تتمتع بالامتيازات هؤلاء الذين يشكلون الدوما الثالثة، قام نائب عمالي - الرفيق كوسوروتوف - وقرأ بيان كتلة نواب الاشتراكية الديموقراطية؛ من أول الكلمات والتي جاء فيها: "ندين الواقعة التي لم يسبق أن حدثت في التاريخ، وهي توجيه الاتهام إلى نواب لانهم قاموا بأداء عملهم!" صاح أصحاب الامتيازات من أجل التشويش على البيان. إن هذه النخبة تتشابه إلى حد كبير مع النبلاء الصغار في بلاط فرساي الذين حاولوا ايضا حجب صوت جاريبالدي، الأمر الذي يشير إلى أن النخبة التي تتمتع بالامتيازات حتى في ظروف اختلاف الأزمان لا يمكن أن تختلف أخلاقها. لكن، ممثل البروليتاريا الروسية لم يتأثر بتشويشهم، بل قام بالسخرية منهم. وحينها قامت الكتلة الاشتراكية الديموقراطية بمغادرة القاعة.
في النهاية تم إصدار الحكم على النواب الاشتراكيين في مجلس الدوما الثاني بعقوبة الأعمال الشاقة والنفي في سيبيريا، الأمر الذي زادت معه حصيلة ضحايا ثورة 17 أكتوبر 1905.

أن ما اقترفته القيصرية من جرم لا يمكن أن يعرقل مسيرة الأحداث. ففي السابق ظنت الأوتوقراطية أنها قضت على الثورة عندما أعلنت حل الدوما الأول وسحقت ثوار ديسمبر 1905. ومع ذلك، بعد بضعة أشهر شهدت انتفاضة ضدها من جانب أقصى يسار الدوما الثانية، الفصيل الذي لم تمنعه من الوصول إلى الدوما ​​ذرائع قانون الانتخابات. بعد أن كافحت البروليتاريا الثورية في الشوارع من خلال الإضراب، استفادت من "الشرعية" التي منحها القيصر لرعاياه. ومنذ الجلسات الأولى، أظهر ممثلو الثورة المنتخبون، ببراعة كيفية استغلال حزب طبقي هذه الشرعية البائسة على الرغم من تهديدات نظام المحاكم العسكرية. ولهذا السبب عندما اختارت الأغلبية الليبرالية خيار الصمت على البيان الرجعي المهين للحكومة، عرف الاشتراكيون الديمقراطيون كيفية كسر مؤامرة الصمت هذه من أجل إدانة النظام الإمبراطوري وإعلان ذلك بكل قوة ووضوح مرة واحدة وإلى الأبد؛ أنه لا من خلال مجلس الدوما ولا من خلال المفاوضات مع النظام الملكي بل في الشوارع وبالقوة سيتم تقرير مصير الحرية في روسيا.

لم يتوقف الاشتراكيون الديموقراطيون أبدا عن الرد على حالة اليأس التي ألحقتها الهزيمة بالشعب الروسي. لقد ناضلوا برلمانيا ضد قرارات وسياسات حكومية مضادة لمصلحة الشعب. لقد استخدموا محكمة الدوما كأداة لتنشيط الحركة الجماهيرية. لقد أسقطوا الجدار الذي أرادت الحكومة إقامته بين الناخبين وممثليهم من خلال منع نشر تقارير الجلسات.

إن الإدانات التي وجهها فوكوييه - تينفيل، والنائب كاميشانستي، للثورة المضادة، تثبت أن الكتلة الاشتراكية الديمقراطية كانت مركز قيادة الجيش الثوري. المركز الذي توجهت صوبه من جميع الجهات في روسيا آمال العمال الذين ظلوا أوفياء لمطالب أكتوبر الداعية إلى جمعية تأسيسية وجمهورية ديمقراطية. كما توجهت إلى نفس المركز بيانات تضامن الجنود والبحارة إخوة الشعب الروسي.

لقد أوضح نوابنا بشكل متكرر، أنه لا هم، ولا الدوما، يستطيعون تحرير الشعب، وأن الأمر متروك للبروليتاريا نفسها لمواصلة النضال مرة أخرى حتى يتم تحقيق النصر التام.

في يوم 31 مايو الماضي عندما دعا وزير العدل إلى رفع الحصانة البرلمانية عن الكتلة الاشتراكية الديموقراطية، رد زعيم الكتلة الرفيق تسيريتيلي: "نعتقد أننا نكون أوفينا بالتزاماتنا كممثلين للشعب بإخبار الناس أن نضالهم فقط هو الذي سينقذ قضية الحرية!"

لقد سعت الحكومة بكل أصرار لنزع سلاح "الشرعية" من أيدي الاشتراكيين الديمقراطيين. وسلمت الكتلة البرلمانية للمحكمة بحجة مؤامرة لم تكن موجودة. بشكل غير قانوني تم تشويه قانون الانتخابات من أجل تجريد البروليتاريا من سلاحها الشرعي. من أجل "تطهير" البرلمان من الاشتراكيين، دهست القيصرية جميع الحقوق البرلمانية وانتهكت القوانين الأساسية للدستور. وهي تأمل بهذه الطريقة أن تجعل المؤسسة التي حطمتها ثورة أكتوبر بلا أنياب. بعد أن تراجعت الحركة البروليتارية، ووضعت في مواجهة مباشرة مع الرجعيين، تأمل الحكومة في إعادة إنتاج أوتوقراطية مطلقة تحت قناع برلماني. إذا نجحت كتلة اشتراكية ديموقراطية صغيرة على الرغم من ذلك في تجاوز حواجز الدوما الثالثة، فإن الأغلبية الرجعية ستعمل على حجب صوتها بالصياح.

بصرف النظر عن المآلات، فإن الأحداث التي تناولتها تشير بجلاء إلى الكيفبة التي يمكن من خلالها استخدام الشرعية بشكل ثوري من قبل البروليتاريا الاشتراكية. وتشير أيضا أنه بحلول يوم 5 ديسمبر، وبعد سقوط سلاح الشرعية، كيف أبدع الاشتراكيون في ابتكار أساليب واستخدام وسائل ثورية أخرى. وإجمالا فإنهم أثبتوا أنه يمكن استخدام كل الأسلحة خلال مسيرة النضال من أجل التحرر.
.