إِلَى الخَالِد… نبيل بَرَكَاتِي في ذِكْرَى اسْتِشْهَادِه


حمه الهمامي
2022 / 5 / 15 - 22:46     



“الحياةُ تَطُولُ أوْ تقْصُرُ، تلك أمُورٌ نِسْبِيّة…
المُهِمُّ الفِعْلُ وَمَا يَتْرُكُهُ الإِنْسَانُ مِنْ أثَرٍ”
(الشهيد نبيل بركاتي)

تَحُلُّ بَيْنَنَا هذه الأيّام الذِّكْرى الخامسة والثلاثون لاسْتِشْهادِ العزيزِ عليْنَا وعلى كُلّ القوى الثوريَّةِ والتّقدّميّة ببلادنا، الرّفيق نبيل بركاتي، ابن قعفور، مدينة القمْحِ والشّعيرِ، ومحطَّة” الاس. أن. سي. أف. تي” الشّهيرة منذ وقت الاستعْمَار الفرنسي والتي كانت تنقلُ خيْراتِ الشّمال الغربي من حبوب وفسفاط وحديد وغيرهما من المناجم إلى موانئ العاصمة لترحل إلى “المتروبول”. لقد ظلّ نبيل يحتلّ مكانةً خاصّة في قلوبِ النّاس وفِي عُقولِهِم لا لأنّه شَهِيد فقط، بل خاصّة للطّريقة التي استشهد بها في الزمن البورقيبي وفي وزارة بن علي للداخلية في ذلك الوقت، أي عام 1987.

فنبيل لم تُوَجَّهْ إليه رصاصة في القلب أو في الرأس لتُرديه قتيلا في لحظة. ولم تصبه، أثناء التعذيب، “ضربة خاطئة” في مقتل من المقاتل ليتوجّع بعض الوقت ثم يستسلم للموت. ولكنّ نبيل بركاتي عُذّب بشكل واع ومع سبق الإصرار حتّى الموت. واسترسل تعذيبه بطريقة ممنهجة لمدة عشرة أيام كاملة، ناهيك أنّه عند تشريح جثّته بأحد مستشفيات العاصمة، خلُص الأطبّاء إلى أنّ ما من قطعة من جسد ابن السابع والعشرين ربيعا إلّا وحملت آثار تعذيب.

إنّ يسوع، المسيح، ذاته لم يُعذّب بهذا الشكل ولم تطل آلامه ومعاناته كما طالت آلام نبيل الفدائي، ابن الأرض، ابن العمّة “صالحة” والعمّ “سالم”. لم يقدّم “الحاج عمار” وزبانيته، لا خلّا للتخفيف من آلامه كما قدّم جلاّدو يسوع إلى ضحيّتهم حين طلب منهم أن يشرب، ولا حتى ماء يبلّلُ به رِيقَه أو أيّ شيء آخر يختم به سيْرَ حياته كما شاءت العادة في كلّ عمليات الإعدام التِي تجري في مختلف أنحاء العالم حيث يطلب من المرشّح إلى حبل المشنقة أو المقصلة أو الرمي بالرصاص أو الحقن بأحد العقارات المميتة أو الصعقة الكهربائية، أن يدلي بطلب أخير، كما أنهم لم يفعلوا أيّ شيء للتعجيل “بصلبه” مثلما فعل “بيلاطس البنطي” حين أمر بكسر رجلي يسوع للتعجيل بموته. بل كانوا يريدونه واعيا، يقظا، على الدّوام، حتّى يحسّ بكل لحظة من لحظات تعذيبه. كما كانوا يريدون أن يطول تعذيبه إلى أقصى حدّ ممكن حتّى يكون تعذيبا خالصا وأَلَمُهُ ألما مطلقا لا يُخفِّفَه خلٌّ ولا تبرِّدُهُ جُرْعَةَ ماء ولا تُعجِّل به “ضربة قاضية”. لم يدُمْ صلب يسوع، “ابن الربّ”، سوى ساعات بينما دام “صلب” نبيل، ابن العمّة “صالحة”، عشْرةَ أيّام بالكامل… حتّى جلاّدوُ يسوع كانوا أَكْثَرَ حياء من جلاّدي نبيل. لقد عرّوا القِسْمَ العلويّ فقط من جسم “ابن الربّ” ليجلدوه أمّا نبيل ابن العمّة “صالحة” فقد عرّوا جسده بالكامل ليُؤْذوهُ “قِطْعَةً، قِطعَةً”.

آه كم حملت الأرض فوق أديمها من يسوع !
غيْرَ أنّ نبيل، الشّهيد، الفِدائي، لم يحتلَّ مكانةً خاصّةً فِي قُلوبِ النّاسِ وفِي عقولهم بسبب طريقةِ قَتْلِهِ واسْتِشْهاده فحسب، بل كذلك للسبب الذي من أجله قُتِلَ واسْتُشْهِد. لم يكن نبيل مبشّرا بدين جديد أو بهرطقة جديدة في زمن لم يعد فيه مكانٌ لا لِلأنبياء ولا لِلْهراطِقَة، بل كان مبشّرا بالحريّة، بخلاص الإنسان من كابوس الاستبداد والخوف في عصر فهم فيه الإنسَانُ أنّه سيّد نفْسِه ومصيره وأنّ سبب شقائِه وبؤْسِهِ كامِنٌ في علاقة الإنسان بالإنسان وفِي الأرْضِ لا في السَّمَاء. أوقفوه بسبب منشور لحزب العمال بعنوان: “الصّراع الدستوري – “الإخواني” لا مصلحة للشعب فيه” (ما أشبه اليوم بالأمس وإن تغيّرت المواقع والأدوار) وهو منشور يَحْمِلُ قضيّة العمال والكادحين والفقراء التي لا يريدها الحزب أن تضيع في غمرة صراعات بين كواسر من أجل السلطة.

لم تكنْ غَايَةُ “الحاج عمّار”، رئيس مركز الشرطة بقعفور، حَمْلَ نَبِيل على الاعتراف بكونه وزّع المنشور أو بكونه ينتمي إلى حزب العمال فحسب. بل كان يريد منه، وهذا هو الأهم، أن “يبيع” رفيقاته ورفاقه ليرفعَ ذلك إلى أسْيادِه ليَتَمكّنوا من تفكيك التنظيم الذي دوّخ البوليس بنشاطه وطرق تنظيمه السرّية رغم جِدّةِ تكوينه. ولكنّ نبيل الذي كان يدرك معنى الانتماء إلى حزب ثوري، مكافح، أقسم ألّا يخون. كان مستعدا للمنازلة: الموتُ ولا الاعتراف، الموتُ ولا كَشْف الرفيقات والرفاق وتقديمهم لقمة سائغة إلى الجلاّدين لِيُنكّلوا بهم. كان نبيل يحرّكه الإيمان بأنّ الإِنْسَانَ الإِنْسَان لا ينبغي أن تُجْبِرَهُ أَيّةَ قُوَّةٍ فِي الكَوْنِ على نفي ذاته الإنسانيّة وإعلان الخضوع لجلّاده لما في ذلك من امتهان وإذلال لتلك الذات، بل إنّ الإنْسَانَ الإنسَانَ المُعتزَّ بذاته هو ذاك الذي يهزم الجلاّد ويُبطل مفعول “شرّه” ويحرمه من التلذّذ بنشوة الانتصار ويهزمه حتّى لو تتطلّب الأمر تقديم حياته قربانا إكراما لذاته الإنسانية. “بإمكانك تدمير الإنسان، ولكن لا يمكنك هزمه”، هكذا قال بطل ملحمة “هيمنغواي” المسماة: “العجوز والبحر”. وتلك هي القوة الجبّارة التي كانت تحمل نبيل على الصمود والمقاومة وتَجعلُهُ يحمل فوق كتفيه أوجاع شعبه وأحزانه وآلامه ويفدي بحياته كل المظلومين والمقهورين.

كان نبيل يدرك أنّ له حياةً واحدة، لا حياتين، وأنّه بإمكانه الحفاظ عليها، خاصّة أنّه في مقتبل العمر، ولو بتقديم “بعض الاعترافات” التي يخفّف بها شراسة جلّاديه وعنادهم ويخفّف بها هو الآلام والأوجاع التي تلتهم جسده النّحيل ويستردّ بها بعض الأنفاس. ولكنّ نَبِيلَ النّبيلَ كان واضحا، حاسما، صارما، غير قابل للتنازل ولو عن ذرة واحدة من كرامته وهو ابن بلدة قعفور التي تغذّى من ثرى أرضها وفُطِم على حُبِّها وحُبِّ أهاليها الفلاّحين، المعْدمين، الطيّبين، الذين تعلّم منهم الصّرامة والعِزّةَ والشّهَامَةَ… كان يُدرّس بناتهم وأبناءهم… كان شاهدا على بُؤْسِهِم وفقْرِهِم… كان على الدّوام يحمل معه “إبرة وخيطا” يُرَقّعَ بها أدباش تلامذته المعدمين…كان “يْقَعْمِزْ” (يَجْلِسُ القُرْفُصَاء) أمام حنفيّة المدرسة ليغسل سيقانهم المُشقّقة من الحفاء رغم صغر السنِّ، والتي تُغَطّيها طبقاتٌ سوداء مِنَ “الحشن” لفقدان عائلاتهم الريفيّة الماء سواء للشرب أو للاستحمام الذي كان عادة ما يتمّ، إذا توفّر الماء، في “قَصْعَةٍ” من النُّحَاس أو من الخشب. لم يكن بإمكان هذا الفتى المُفْعَمُ بالعِزِّةِ والكرامة، الذي تربَّى على حبّ الكادحين والفقراء، وعلى الإِيثار الذي كان الدافع إلى انتمائه إلى حزب العمال، أن

يقبل الانحناء:
“كانَ بَيْنَ الوُحوشِ يُعَذِّبُهم…
أيُّهَا الهُمَّجُ الجُبَنَاء…
الشُّيُوعِي لا يَعْرِفُ الاِنْحِنَاء…
جاء مُنْتَصَفُ اللَّيْل…
قالوا اِعْتَرِفْ يَا نبيل…
اِعْتَرِفْ وانْصَرِفْ…
دَمْدَمَ الحَيَوَانْ…
ضَجَّ حَاجُ الجَرِيمَة…
جنّ ثمّ نامْ…

اِعْتَرِفْ وعليْكَ الأَمَانْ
كانتِ الأرْضُ تَرُجّ لا…
كان كلُّ الذي فوْقَهَا هَاتِفًا…
مَنْ تَكلّمَ خَانْ…
مَنْ تَكَلّمَ خَانْ…” (1)

تلك عظمة نبيل. كان أمامه اختياران. كانَ بإِمْكانه، خلافا للعديد من الشّهداء الأبطال الذي نالهم الموت، مباشرة، دون مقدّمات ولا فرصة اختيار، الحفاظ على حياته “بالتنازل عن شيء من كرامته”. لكنه قرّرَ، مثله ذلك الصّنف النادر من المناضلين، المجاهدين، الأبطال، الشّهادة على التّنازل أو الاستِسْلَام لجلاّدِيه. لقد خيّرَ الخلودَ الحَقِيقِيّ على المهانة التي تَعْنِي المَوْتَ الأَبَدِيَ. فضّل انتصَار الإنسان فيه على التنازل للنوازع الأنانية، الفردانية، التي تُوَسْوِسُها الذّاتُ الاِنْتِهَازِيّةُ فِي مِثْلِ هذِه الظّروفِ القاسِيةِ والمُظْلِمَةِ. في الظّاهر أو في المباشر أعطى نبيل حياته من أجل منشور بسيط مكتوب بآلة راقنةٍ قَدِيمَةٍ لتنظيم سِرِّيٍّ نَاشِئٍ، اسْمه “حزْبُ العمّال الشّيوعِي التّونسي”، يدعو إلى ثورة العُمّال والكادحين، إلى ثورة الشّعب المُعْدَم والمفقّر، ويُبشّرُ بعالم جديدٍ، تسودُهُ الحرّية والمساواة، عالمٍ خالٍ من استغلال الإنسان للإنسان. ولكنّه في الحقيقة وفي العُمْقِ، أعطى حياته من أجل شيْءٍ أَعْظَمَ، شَيْءٍ كامِنٍ وراء كلّ تلك الأهدافِ السِّيَاسِيّة والاجتِمَاعيّة، وهو كرامة الإنسان التي لا يمكن ولا ينبغي أن تُهَانَ في أيّ ظرفٍ من الظّروف أو حالة من الحالات مهما كانت الأسباب أو الذّرائع. وبذلك رسم الشهيدُ الشابُّ لنفسه طريقا للخلود وأصبح المنَارَةَ التي تُضِيئُ وتهدِي في اللّحظات الصّعْبَة والمُظْلِمَة التي يمرّ بها الإنسان المناضِلُ، المُكَافِحُ، طَوَالَ عُقودٍ من طُغْيَانِ الدِّكتاتوريَّةِ والاِسْتِبْدَاد:

“عِندَما تَدْلَهِمُّ السَّبِيلْ…
وتَغْدُو بِلاَ بَوْصَلَةْ
عندَما يُخْلِفُ العَاشِقُونْ
موْعِدَ السُّنْبُلَة
عِنْدَمَا يَتَوارَى النّهَارْ
ويَسْكُنُ هَذِي الخَرِيطَةَ لَيْلٌ طوِيلٌ طَوِيلْ…
ولا مِنْ خِيَارْ
تَرَى عِشْقَهُ المُسْتَحِيلْ…
عِنْدَمَا، عِنْدَمَا…
لا فَتِيلَةَ فِي الأَرْضْ…
لا شيْءَ إلّا دُمَى ودَمَارْ
ولاَ مِنْ خِيَارْ
ولا مِنْ سَبِيلْ
ولا مِنْ دَلِيلْ
تَذَكَّرْ فَتًى لا يَخُونْ
ولاَ يَسْتقِيلْ” (2)

المَجْدُ لكْ… والخُلُودُ لَكْ… يا سيِّدَ الشُّهدَاء ويَا زَيْنَهُمْ…لقد ظلّ قبرك بقعفور مزارا سنويا للمناضلات والمناضلين… كان شهر أيار/ماي من كل عام يمثّل، منذ استشهادك، يوم 8 ماي 1987 كابوسا للدكتاتورية التي كانت تنشر أعوانها في كل الطرقات لمحاصرة المدينة الجليلة وسدّ مداخلها أمام الوافدات والوافدين من كُلِّ حدب وصوب للوقوف عند رأسك وتذكّر مسيرتك واستحضار صمودك في وجه عذاب يصعب حتّى على الجبال تَحَمُّلَ وِزْرَهُ، والتّعاهد على مواصلة المسيرة. كنت الملهم في كلّ الظروف وفي كلّ الأوقات. وكان مجرّد تذكّرك يدفع ويحفز ويُقّوي العزائم. ولم يكفّ الناس عن تذكّرك حتّى بعد الثورة التي مهّدتَ لها مُبكّرا باستشهادك كما مهّد لها كل الشهيدات والشهداء، الثورة التي التفّ عليها في النهاية ظلاميّ وعميل وفاسد ومهرّب وانتهازيّ ورجعيّ يحنّ إلى الماضي. وها هي صورتك تعود اليوم، في ذكرى استشهادك الثالثة والثلاثين، بأكثر قوة، لتضيء الدرب وتُصحّح البوصلة في وضع ينبئ بانفجار كبير.
المَجْدُ لك… والخلود لكْ… والمجد والخلود لكلِّ الشّهداء من بنات الوَطنِ وأبنَائِه الذِينَ ما فتِئُوا يُضِيئُونَ الطَّرِيقَ… ويَشْحَذُونَ الهِمَمَ… ويُقوُّونَ العزائم:
“إذا مَا طَمِحْتُ إلى غايَةِ
ركبتُ المُنَى ونَسِيتُ الحَذَرْ
ولم أتجنّبْ وُعُورَ الشِّعَابِ
ولا كُبَّةَ اللَّهَبِ المُسْتَعِرْ
ومَنْ يَتهَيَّبْ صُعودَ الجِبَالِ
يعشْ أبدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَرْ”(3)

(1) و(2): القصيدان للشاعر الطاهر الهمامي، كتب الأولى إثر استشهاد نبيل والثانية في الذكرى الأولى لاستشهاده.
(3)أبو القاسم الشابي، إرادة الحياة.