بعد الاستيلاء على الفضاء السياسي: قيس سعيد يحاول الاستيلاء على الفضاء الديني/الروحي ويعمق الأزمة السياسية
حمه الهمامي
2022 / 5 / 13 - 23:24
“يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد”
عبد الرحمان الكواكبي
خطوة، خطوة، استولى قيس سعيد منذ انقلاب 25 جويلية 2021 على كامل السلطة التنفيذية وعيّن حكومة تعمل بأوامره. كما استولى على السلطة التشريعية، بعد تجميد البرلمان ثم حلّه، وأصبح يحكم بالمراسيم. ووضع يده على السلطة القضائية، بعد حل المجلس الأعلى للقضاء وتعيين مجلس موال محلّه وهو مستمر لمزيد إخضاع النيابة العمومية والقضاة لرغباته بعنوان “خدمة قضايا الشعب”. وإلى ذلك فقد منح سعيّد نفسه سلطة تأسيسية من خلال الإعداد لصياغة دستور جديد بناء على استشارة صورية وفاشلة بكل المقاييس. ومن المنتظر أن تُتْبع هذه الاستشارة باستفتاء في شهر جويلية القادم وانتخابات تشريعية في نهاية العام (17 ديسمبر 2022) لن يختلفا عنها في شكليتها وصوريتها خاصة بعد تصفية الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الحالية وتعويضها بأخرى معيّنة بالكامل من سعيّد في انتظار صدور قانون انتخابي جديد على المقاس. يضاف إلى ذلك مسعي محموم إلى وضع اليد على الإعلام وفي مقدمته الإعلام العمومي. وكأن ذلك كله لم يكن كافيا أطلّ علينا قيس سعيد يوم الاثنين الفارط،18 أفريل 2022، في القناة الوطنية ليوجّه، بمناسبة توزيع جوائز على حفظة القرآن، رسالة إلى العموم، مفادها أنّه “وليّ أمرهم”، بما يعني عمليّا أنّه صاحب “السلطة الدينية/الروحية” أيضا، الذي “يهدي النّاس إلى الدين الصحيح” و”يرشدهم” إلى ما لهم وما عليهم.
نحو الاستيلاء الكامل على الفضاء العام المدني والديني
وبهذه الخطوة الجديدة يكون قيس سعيّد قد استكمل تقريبا رسم الملامح العامة لحكمه، فهو يريد أن يكون الحاكم الفرد، المراقب لكافة أوجه حياة المجتمع المادية والمعنوية والماسك بكافة السلطات بما فيها السلطة الدينية/الروحية مستندا، لفرض سلطته، إلى مؤسستي الأمن والجيش، في غياب أي رقابة عليه، مهما كانت شكليتها ومحدوديتها، بعد أن دمّر جميع المؤسسات ذات الطابع التمثيلي أو الرقابي بقطع النظر عن مساوئها أو نقائصها. وهذا هو بالطبع الحكم الفردي بعينه، الدكتاتوري، الشمولي، الذي يهدف إلى التحكّم في كافة مجالات حياة الناس, وهو حكم لا علاقة له بالجمهورية في أبسط معانيها التاريخية ولا حتى بالصيغة المشوّهة والمحدودة التي عرفتها تونس. وهذه النقطة هي التي يجب الانتباه إليها في المقام الأول لأنها الهدف الأساسي من خطاب قيس سعيد، بينما خوضه في علاقة الدين بالدولة، وفي المذهب المقاصدي ومسألة المساواة والعدل وغيرها ما هو إلّا غطاء لتحقيق ذلك الهدف. إن قيس سعيد الشعبوي، المعادي للجمهورية والديمقراطية بعنوان “المشروعية الشعبية” التي يمنحها لنفسه، يعمل من أجل أن ينتصب شيئا فشيئا خليفة أو “سلطانا”، محتكرا إدارة شؤون المجتمع الدينية والدنيوية.
إنّ خطاب قيس سعيّد حول علاقة الدولة بالدين ينبغي أن يفهم في هذا السياق. إن اعتبار سعيد “الدولة ذاتا معنوية” ولا يمكن أن يكون لها دين، لا علاقة له بالمفاهيم الحديثة للدولة وخاصة الدولة العلمانية القائمة على مبدأ المواطنة وضمان حرية العقيدة من خلال الفصل بين الديني والدنيوي، وبين الديني من جهة والدولة، الجهاز السياسي الأول في المجتمع من جهة ثانية. إن نصر حامد أبو زيد، المفكر المصري، الديمقراطي، التقدمي، الذي قطع جذريا مع الأطروحات السياسية للتنظيمات الظلامية، كان، حسب علمنا، أوّل من استعمل العبارة التي يردّدها قيس سعيد اليوم. وكان ذلك في مقال نشره بتاريخ 5/7/ 2010 بعنوان: “الفزع من العلمانية: فصل الدين عن الدولة”. وممّا جاء في هذا المقال: “الدولة ليس لها دين ولا يصحّ أن يكون لها دين…”دين الدولة الاسلام” عبارة يجب أن تكون مضحكة، فالدّولة لا تذهب إلى الحج ولا تصوم ولا تدفع الزكاة.” ويضيف نصر حامد أبو زيد: “الدّولة ممثّلة في النظام السياسي مسؤولة عن المجتمع بكل أطيافه بما فيها الأديان…معظم الدول العربية والاسلامية موزاييك من الأديان وهذا يعني أن الدولة التي لها دين تلغي حقوق المواطنين الذين لا ينتمون إلى هذا الدين…بل الأدهى أن هذه الدولة تضطهد أبناء نفس الدين الذين يفهمون الدين بشكل يختلف عن المؤسسات الرسمية للدولة، وهكذا تصبح مفاهيم “المواطنة” و”المساواة” و”القانون” مفاهيم خاوية المعنى”.
“الدولة لا دين لها” كي تعتنق “دين” سعيّد “السياسي”
من الواضح أن المعنى الذي يعطيه نصر حامد أبوزيد لعبارة “الدولة ليس لها دين” إنما يندرج في سياق الدفاع عن دولة، مدنية، عصرية، عَلْمَانيّة، ديمقراطية، تقدمية، تحترم حرية الضمير وتضمن حرية ممارسة الشعائر الدينية والقناعات، وتعامل مواطنيها/مواطناتها على قدم المساواة في الحقوق والواجبات ولا تستعمل الدين للتمييز بينهم أو تقسيمهم إلى مواطنين/مواطنات من درجات أو مراتب مختلفة. وهذا الموقف يتناسق مع دفاع نصر حامد أبو زيد عن الدولة العَلمانية القائمة على مبدأ “المواطنة”، والتي تمثّل الإطار الأمثل لضمان حرية الضمير والعقيدة والقناعات. فعندما سئل هذا المفكر عمّا إذا كانت العلمانية “صالحة” أم “غير صالحة” للبلدان العربية أجاب دون تردد بجملة مختصرة، دقيقة، واضحة: “العَلْمَانيّة أو الموت” وكأنه تنبّأ بما سيحدث بعد وفاته سنة 2010 من مجازر حروب أهلية في أكثر من قطر عربي أشعلتها القوى الاستعمارية والصهيونية والرجعيات العربية بعناوين دينية وعقائدية.
أمّا قيس سعيد الذي قد يكون استعار العبارة من صاحبها، دون ذكره، فإنّه جرّد الدولة من “دينها” (الدولة ليس لها دين) لا اعترافا بضرورة طابعها العلماني وبالتالي المدني والديمقراطي، وإنّما لترذيل الدولة في حدّ ذاتها وتحديدا الدولة الديمقراطية، (مع العلم أنّه شبّه الدولة بشركة تجارية) ليجد لنفسه مبرّرا كي ينتصب، كفرد، سلطة فوق الدولة، أو ليكون هو “الدولة” أو “النظام” كما كان يقول بورقيبة عن نفسه (أنا النظام، le système, c’est moi) فيتصرّف كـ”خليفة” أو “سلطان” مسؤول عن “الرعية” في دينها ودنياها. ولا شكّ أنّ كلّ من تابع خطاب قيس سعيد لاحظ أنه في خطابه تحدث بمفهوم “الأمة الإسلامية” تاركا مفهوم الشعب أو الأمة بمفهومها الحديث الذي ظهرت معه الدولة القومية الحديثة التي لم تتحقق إلى حدّ الآن بالنسبة إلى الأمة العربية بفعل التقسيم والتدخل الاستعماريين. وبطبيعة الحال فإن قيس سعيد يجرّ البلاد بكل هذا، كما جرّها قبله بن علي والغنوشي وغيرهما إلى الانقسام وإلى الصراع حول من يمثل “الدين الصحيح” ومن “لا يمثله”؟. هذا هو غرض قيس سعيد من خطابه، أي احتكار السلطة الدينية إلى جانب بقية السلطات الأخرى ليضفي على حكمه طابعا فرديا مطلقا. وهو ما يتأكّد إذا أمعنّا النظر في مواقفه من بعض القضايا التي جاءت في خطابه الأخير أو في خطابات سابقة والتي لا علاقة لها، من حيث المضمون، بالعَلمانية والديمقراطية والتقدّم، بل إنها لا تختلف في نهاية الأمر عن مواقف خصومه السياسيين في الحركات الظلامية ومن بينها حركة النهضة إن لم تكن أكثر تطرّفا أحيانا. وفي هذا السياق لا نعتبر أننا نخطئ إذا قلنا إن قيس سعيد الشعبوي، الذي يعتقد، مثله مثل كل الشعبويين المسكونين بنزعة “رسولية”، أنه “صاحب رسالة”، إنما أصبح يبحث لحكمه عن “شرعية دينية” أو “شرعية إلهية” تعلو على أيّ شرعية مدنية، انتخابية، ديمقراطية.
سعيّد: خطوة إلى الأمام أم خطوتان إلى الوراء؟
إن كلّ متتبّع للشّأن العام يعلم أن سعيّد دافع، عند مناقشة دستور 2014، عن ضرورة دسترة “الشريعة مصدرا أساسيا من مصادر تشريع الدولة” بما ضفي في الحقيقة طابعا دينيّا عن الدولة التي يقول اليوم أَنْ لا دين لها. كما يتذكّر الجميع موقفه السّلبي، وهو رئيس، من الفصل السادس من الدستور، المتعلق بحرية الضمير والذي خصّه، من بين بقية فصول الدستور، بتعليق كلّه استهجان، تمهيدا، على ما يبدو، للتخلص منه، في دستوره الجديد. وبالإضافة إلى ذلك، وفي الوقت الذي ألغت فيه أو علّقت معظم دول العالم العمل بحكم الإعدام فإن قيس سعيد استغلّ وقوع جريمة شنعاء أثارت استنكارا واسعا لدى الرأي العام ليدافع عن حكم الإعدام متناسيا أنّه رئيس وأن من واجبه أن يترك القضاء يقوم بعمله وألّا يوجّهه أو يصدر أحكاما مسبقة. وبالطبع لا يمكن ألّا نستحضر أيضا موقفه من المساواة بشكل عام والمساواة في الميراث بشكل خاص. وهي المسألة التي أثارها لأول مرّة، وهو رئيس، في خطابه يوم 13 أوت 2020 بمناسبة عيد المرأة التونسية. إن قيس سعيد يتفّه أو هو يستخفّ بمبدأ المساواة التي يصفها بـ”الشكلية” بمعنى ألّا قيمة لها، ويستعيض عنها بمفهوم “العدل” مدّعيا أنّ هذا المفهوم يعلو عليها. وهو في ذلك يموّه، لإخفاء معاداته للمساواة ودفاعه عن التمييز (discrimination) خاصة في العلاقة بين الجنسين مستعملا الدين لتبرير موقفه وسلوكه.
إنّ موقف قيس سعيد من المساواة بشكل عام والمساواة في الميراث بشكل خاص ليس جديدا، فهو موقف كل المعادين لحقوق النساء ولحريتهن. ولكن حتّى لا نعود إلى زمن بعيد، يكفي أن نذكّر أن حسن البنّا، مؤسس حركة الإخوان في مصر، كان أجاب، سنة 1948، نفس جواب قيس سعيّد حين سئل عن موقفه من المساواة بمناسبة جدل حول المساواة في الميراث بين النساء والرجال: نحن مع العدل ولسنا مع المساواة. وهو نفس جواب حركة النهضة أيضا كلّما أثير نقاش حول هذه المسألة. وبعبارة أخرى فإن قيس سعيد الذي يزعم أنه يقاوم “الإخوان” هو في الواقع لا يختلف عنهم فكريا ويقاسمهم نفس الموقف من المساواة بشكل عام والمساواة في الميراث بشكل خاص. لقد ناضلت الإنسانية التقدمية في كل العصور ضدّ الميز بين البشر أي من أجل المساواة التي تعني الاعتراف بأن البشر كل البشر “يولدون أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق” وبالتالي لا يمكن تقسيمهم إلى مراتب أو التمييز بينهم. ومن النافل أنّ تمكّن الإنسانية في العصر الحديث من تحقيق هذا الهدف أي الاعتراف بالمساواة مبدأ إنسانيا أو إن شئنا الاعتراف بوجود جنس بشري واحد، يمثل مكسبا كبيرا في تجاوز الوحشية وخطوة لا بدّ منها لتحويل هذا المكسب إلى واقع. ومن المعلوم أن الاعتراف بالمرأة كائنا إنسانيا مساويا للرجل، لم يأت إلا بعد عقود من النضال والتضحيات في المجتمعات المتقدمة خاصة، إذ أنّ المساواة لم تشمل النساء في البداية. وانتظرت البشرية ثورة أكتوبر الاشتراكية 1917 لتكون أول ثورة في التاريخ تعلن المساواة التامة والفعلية بين الجنسين في الحقوق.
لا عدل إلّا في إطار المساواة
أما العدل، وهو ككل المفاهيم، مفهوم، تاريخي، نسبي، فهو لا يتحقق أولا وقبل كل شيء إلا بين كائنين متساويين في الحقوق. وهو ما ينساه أو يتناساه قيس سعيّد. إن العدل في غياب المساواة يتحول إلى مفهوم أجوف، يوظّف لطمس الميز. فالعدل بين السيد والعبد مثلا هو أن يقبل كل بـ”مرتبته” ويتصرف وفقا لها. فالسيّد له السيطرة المطلقة بما في ذلك التصرف في حياة العبد وليس لهذا الأخير سوى الطاعة المطلقة لمن يتحكّم في رقبته، وفي أحسن الأحوال يطلب من السيد أن “يحسن معاملة” عبده. وهو ما يمكن قوله بخصوص العلاقة بين الجنسين، فالعدل في غياب المساواة بين المرأة والرجل لا يعني أكثر من “احترام” كل طرف لموقعه، فللرجل دور السيد الآمر الناهي وللمرأة دور العبد، الخاضع، المطيع، والعدل في هذا النطاق لا يتجاوز مطالبة الرجال بمعاملة النساء بـ”معروف”. وبعبارة أخرى فإن المبدأ الأصل، الأول، الذي ترتبط به بقية حلقات السلسلة هو مبدأ المساواة الذي يوفر الإقرار به الأرضية المناسبة للعمل أو بالأحرى النضال من أجل تكريسه والنزول بالمساواة من مستوى القانون إلى مستوى الواقع تحقيقا لمبدأ العدل والإنصاف.
ولمزيد التوضيح والتدقيق فعندما طرحت مسألة المساواة في الميراث على مؤسس “الإخوان” في مصر، أجاب كما قلنا أعلاه، بأن “الإخوان” مع العدل. وعندما يسأل “الإخوان”: ما العدل؟ فإنهم يجيبون: إن الرجل خلقه الله أعلى درجة من المرأة وهو يشتغل وينفق على العائلة، فمن باب العدل أن يكون نصيبه أكبر من نصيب المرأة في الميراث لأن المساواة في هذه الحالة “غير عادلة” وفيها “ظلم” للرجل. وعندما يقال لهم إن المرأة تعمل اليوم وتساهم في الإنتاج وفي خلق الثروة وتسهم في نفقات العائلة وفي تمويل صناديق الدولة ولم يعد من فارق بينها وبين الرجل، يتخفون مباشرة وراء “الشرع ” ويقولون إن آيات الميراث من “المحكمات” وهي “غير قابلة للتأويل”، ضاربين عرض الحائط قرونا من التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والفكري والقيمي منذ ظهور الإسلام، متناسين “المحكمات” التي تم تجاوزها ومنها تعدد الزوجات وضرب النساء والعبودية وقطع الأطراف بخلاف، وقطع يد السارق الخ…
إن قيس سعيد استعمل، عندما تعرّض في عيد المرأة التونسية (13 أوت 2020) لموضوع المساواة في الميراث، نفس “حجج” “الإخوان” وكل الفرق الظلامية المعادية للمساواة. فقد تخلّى، وهو الرئيس “الحامي للدستور” عن الطابع المدني للدولة وعما جاء في الدستور وفي المواثيق الدولية التي صادقت عليها الدولة التونسية من تأكيد على المساواة بين الجنسين، بل شطب عقودا من نضال النساء التونسيات وتضحياتهن، واحتمى بـ”النص” لتبرير رفضه المطلق للمساواة التامة في الحقوق بين الجنسين وخاصة في مجال الميراث بدعوى أن المسألة “غير قابلة للتأويل”. وقد ذهب سعيّد إلى أبعد من ذلك، عائدا بنا إلى عصور الظلمات والوحشية، حين صرّح بأن الفضاء العائلي هو “فضاء خاص” لا يخضع للقانون مما يبرّر كافة أشكال الميز والظلم التي تسلّط على النساء والأطفال في هذا الفضاء.
لا علاقة لسعيّد بالمذهب المقاصدي.
لا بد من التطرق إلى مسألة أخرى أثارها قيس سعيد في خطابه وهي تخص المذهب الشاطبي نسبة إلى إبراهيم بن موسى الشاطبي (الوفاة: 1388و/790هـ)، المعروف بالمذهب المقاصدي، الذي يختلف عن المذهب النقلي، النصّي، في سعيه إلى الوقوف عند “مقاصد” النص، أو إن شئنا ما يريد تحقيقه النص، لا عند لفظه أو حَرْفِيّتِه. وقد تكلّم قيس سعيّد عن هذا المذهب في محاولة منه إلى التباين مع حركة الإخوان ومثيلاتها من الحركات الأخرى التي تتعاطى مع النص كدغم غير قابل للتنسيب أو التّأويل أو التجاوز وفقا لتطور الظروف. ولكن قيس سعيد كان بعيدا كل البعد عن المذهب المقاصدي في مواقفه بل استعمل هذا المذهب من باب الديماغوجيا لا غير. ويكفي أن نجري مقارنة بسيطة بين موقف سعيّد الرافض للمساواة في الميراث، وموقف الطاهر الحدّاد “المقاصدي” من نفس الموضوع. فالحدّاد دافع بقوة، عام 1930 في كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” عن المساواة في الميراث من زاوية مقاصدية. فقد اعتبر أن أحد مقاصد النص تحقيق المساواة وعليه فإن التمييز بين الرجل والمرأة في الميراث، زمن مجيء الإسلام، كان موقفا أملته “الظروف” التي ما تزال فيها العقليات متخلفة وكان لا بد من التدرج. وبما أن المجتمعات تطورت ومعها تطور دور المرأة مما أدى إلى توفر شروط تحقيق المساواة فالمطلوب تحقيقها لا مواصلة رفضها انطلاقا من نظرة ثبوتية للأحكام الواردة في النص والتي تتعلق بشؤون الحياة لا بالعقائد الأساسية.
ويمكننا أيضا المقارنة بين موقف قيس سعيد المدافع عن حكم الإعدام بموقف “مقاصدي” آخر وهو المفكر الراحل محمد الطالبي الذي دافع عن إلغائه. ومن نفس الموقع اعتبر الطالبي أن “مقصد” الدين هو الحرية وبالتالي فمن حق الإنسان أن يتبني العقيدة أو القناعة التي يريدها، في الوقت الذي ما يزال فيه قيس سعيد يتحدث عن “الشرك”. وإلى ذلك فقد اعتبر الطالبي، مثله مثل الطاهر الحداد، أن تشريع تعدد الزوجات موقف ظرفي مراعاة لعادات الوقت وأن الهدف هو منع هذا التعدد وهو ما حصل اليوم نتيجة التطور الاجتماعي. هذا هو لبّ التفكير المقاصدي الذي لا نجده عند قيس سعيّد المحافظ بدرجة تقرّبه أحيانا من الحركات السلفية المتشددة. ومن هذا المنطلق يتبيّن لنا أن خوض قيس سعيد يوم الاثنين 18 أفريل في بعض قضايا الدين ومحاولة ظهوره بمظهر “المقاصدي” لا هدف منه في الحقيقة سوى الاستيلاء على الفضاء الديني/الروحي للتونسيات والتونسيين والسعي إلى التحكم فيه من موقع محافظ رجعي واستعمال الدين لتمرير مشروعه السياسي، وهو لا يختلف في ذلك عن الحركات الظلامية ومنها حركة الإخوان.
السّير الحثيث نحو استبداد شعبوي فاشل
إن قيس سعيد يسير بخطى حثيثة نحو تكريس مشروعه السياسي الاستبدادي الذي يطول كافة المجالات. ولكنه في نفس الوقت بصدد تعميق الأزمة السياسية في البلاد. لقد ادعى سعيد أنه قام بانقلاب 25 جويلية لتصحيح مسار الثورة وتخليص الشعب والوطن من المنظومة المتعفنة (وهي متعفّنة حقّا) التي حكمت البلاد بزعامة حركة النهضة لمدة عشر سنوات. ولكن ما يتضح يوما بعد يوم أنه لم يفعل سوى استغلال الغضب الشعبي على حكم حركة النهضة للاستيلاء على الحكم واستبدال الديمقراطية التمثيلية التي عفّنتها لوبيات الفساد، بنظام شعبوي استبدادي مُصفّيا ما حققه الشعب التونسي بتضحياته ودمائه من مكاسب ديمقراطية. وهو ما تشهد به كل الإجراءات الانفرادية التي قام بها والتي أتينا على ذكرها في البداية والانتهاكات المستمرة لحرية التعبير والإعلام الذي سيكون في المستقبل هدفا مؤكّدا لـ”صواريخ” قيس سعيد. كما يشهد به الوضع الاقتصاد والمالي والاجتماعي المتدهور بشكل غير مسبوق. فالبلاد على حافة الإفلاس، والشعب ينهشه الفقر والبطالة والجوع والمرض. وليس لقيس سعيد أي حلّ لمواجهة هذا الوضع غير مزيد رهن البلاد للقوى والمؤسسات المالية الأجنبية وإغراقها في التبعية ولن يكون أمامه من حل لإسكات غضب الشعب غير القمع. ولكن منذ متى كان القمع هو الحل لإسكات الجائعين؟
إن بلادنا، تسير بخطى حثيثة نحو الانفجار بفعل الأزمة الخانقة التي تعصف بها. وليس أمام القوى الوطنية، الثورية والتقدمية، من حلّ لإنقاذ وطننا سوى الإعداد لتأطير هذا الانفجار ببرنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، وطني، ديمقراطي، شعبي ولفّ أوسع الطبقات والفئات الكادحة والشعبية حوله، لاستكمال ثورة توقفت عند تغيير شكل سلطة الدولة من دكتاتورية إلى ديمقراطية، حتى وإن كانت هذه الديمقراطية محدودة، غير مكتملة، مكبلة بموروث المرحلة النوفمبرية وبما أفرزته موازين القوى بعدها، دون المساس بالقاعدة الطبقية/الاجتماعية لهذه الدكتاتورية وهو ما قادها إلى الفشل الذي فسح المجال في هذه المرحلة لصعود الشعبوية للحكم والانقلاب على الثورة وعلى مكتسباتها المحدودة. لقد عانى الشعب لعقود من النظام الدستوري/النوفمبري وثار عليه. كما عانى من منظومة حكم حركة النهضة وحلفائها لمدة عشرية كاملة ولفظها. وهو يسير اليوم نحو المجهول بفعل شعبوية، استبدادية، رثّة. إن الخلاص في اتباع نهج مستقل والنظر إلى المستقبل وليس إلى الوراء. واتّعاظا بدروس الماضي على الشعب وقواه الحيّة أن يفكّرا هذه المرة لا في إسقاط الاستبداد فحسب وإنما بما يستبدل به الاستبداد أيضا.
تونس في 25 أفريل 2022