|
ظل آخر للمدينة46
محمود شقير
الحوار المتمدن-العدد: 7183 - 2022 / 3 / 7 - 19:38
المحور:
الادب والفن
في تلك الأثناء، بعد الذهاب إلى شفاعمرو وحيفا، يعاودني الحنين إلى كتابة القصة القصيرة، فأكتب قصة بعنوان "الخروج" أقوم بنشرها في مجلة "الجديد". ولا تلبث مشاغل العمل السياسي المباشر أن تصرفني من جديد عن الكتابة القصصية، ثم أغرق في قراءة مجموعة من الوثائق عن فترة الثورة الفلسطينية الكبرى العام 1936 وما تلاها من تطورات. كانت الاعتقالات في الذكرى الثانية لهزيمة حزيران وما تلاها من شهور لا تتوقف، ولا يسلم من أذاها أحد من النشطاء السياسيين، أو من المنتمين إلى التنظيمات المسلحة. وكنت منكباً في تلك الليلة ( 27 / 7 / 1969) على قراءة الكتاب الأبيض الذي أصدرته لجنة أنجلو _ أمريكية لتقصي الحقائق في فلسطين، إثر اندلاع ثورة 1936. سمعت أصوات سيارات تتوقف عند ساحة بئرنا الغربية، خمنت أن أمراً غير عادي يحدث من حولي. نهضت مسرعاً، أخرجت بطاقة هويتي من جيب بنطالي المعلق على مشجب في غرفة نومي. فتحت باب البيت، وأنا أتأهب لمغادرته. فوجئت بالجنود وقد طوقوا البيت من جميع الجهات، فألقوا القبض علي، ثم قاموا بتفتيش البيت. وبعد ذلك، انطلقوا بي إلى سجن المسكوبية، الذي تفصله عن بيتنا مسافة لا تزيد عن سبعة كيلومترات.
*** كانت لسجن المسكوبية سمعة مخيفة، ففي زنازينه استشهد عدد من المناضلين الوطنيين تحت التعذيب (قاسم أبو عكر مثلاً). أغادر في تلك الليلة بيتي معصوب العينين في سيارة عسكرية، يملأها الجنود. تجيش نفسي بمشاعر شتى، أتهيأ لمواجهات ساخنة وأنا أغالب خوفي مما سأتعرض له من أذى. بعد أقل من عشرين دقيقة، تتوقف السيارة. يقتادني أحدهم خارجها، ثم ينزع العصبة عن عيني. ثمة ساحة ترابية فيها أشجار سامقة، أمام مبنى قديم. أرى أشخاصاً يقفون ووجوههم متجهة نحو السور الذي يحيط بالبناية. أشعر بقشعريرة تغزو بدني. أدخل المبنى، ثمة إضاءة قوية في الداخل. الضابط المكلف باعتقالي يأمرني بأن أجلس على كرسي في زاوية الردهة. أجلس وأنا أرتجف. أحاول أن أمارس ضغطاً على عضلات وجهي وكتفي وأطرافي، لعلها تكف عن الارتجاف، فلم أفلح. أتمنى بيني وبين نفسي لو أنهم يبادرون إلى التحقيق معي فوراً، لأن الانتظار يربكني. أحدق في كل شيء تقع عليه عيناي، يغيظني الظهور الاستعراضي للمحققين، بعضلات أذرعهم النافرة. أحدهم يتوقف بالقرب مني، وهو يحدجني بنظرات حادة. أخيراً، جاء المحقق. دعاني إلى إحدى غرف التحقيق. جلس خلف مكتب وجلست قبالته. كان يتظاهر بدماثة الخلق. أخبرني أنه سيوفر علي الكثير من الضرب والإهانات لاعتقاده أنني مثقف، وينبغي علي ألا أعرض نفسي للإهانة. وقال إنه سيكتفي بطرح عشرة أسئلة علي، فإذا أجبته عنها، فإن بإمكاني العودة إلى البيت قبل شروق الشمس. بدأ بسؤال عن اسمي ومكان سكني ووظيفتي، فأجبته. ثم طلب مني أن أذكر أسماء من ألتقي بهم دائماً من أصدقائي. أخبرته أنني لا أستطيع ذلك، لأن التلفظ بأسماء أصدقائي في مكتب للتحقيق يعتبر إساءة لهم. لم تعجبه إجابتي. لاحظت فجأة أنني توقفت عن الارتجاف، وسيطر علي إحساس بالخدر، فازددت ثقة في نفسي، وتشجعت على مزيد من المواجهة. قال إن إحجامي عن ذكر أسماء أصدقائي يعني أن ثمة أمراً ما يدفعني إلى ذلك، ما يجعله يتشكك في براءتي وبراءتهم، وإلا لكنت نطقت بأسمائهم. قلت إن علاقتي بأصدقائي هي واحدة من خصوصياتي، وليس من اللياقة أن أعرّض هذه العلاقة للانتهاك. قال إن هذا الأمر يقود إلى نتائج غير سارة، منها أنني لن أخرج من هذا المكان في وقت قريب، وسوف أعرض نفسي للضرب وللإهانات. داهمني الخوف من جديد، ولكن دون ارتجاف. حاولت أن أراوغ، فاقترحت عليه أن يقفز إلى السؤال الذي يلي سؤاله هذا، فامتنع عن ذلك، لأن الأسئلة -كما قال- يفضي بعضها إلى بعضها الآخر. حاولت أن أستفسر منه عن تهمتي التي سببت لي هذا الاعتقال، فلم يرقه هذا السؤال، قال إنه هو الذي من حقه أن يطرح الأسئلة، وأنا الذي يتعين علي أن أجيب. حينما أيقن أن دوره لم ينطل علي، نهض وهو يتوعدني، وأخبرني أنني سوف أندم لعدم اغتنام هذه الفرصة التي أتاحها لي. بقيت صامتاً، ولم يلبث أن غادر الغرفة. كنت على بينة من هذا النمط من المحققين، اعتماداً على تجربة المناضلين الذين سبقوني إلى السجون، كما أن خبرة أعضاء الحزب الطويلة في غرف التحقيق كانت تصاغ لنا في كتيبات لا نكف عن قراءتها، وتمثّل ما فيها من صمود في الزنازين وفي غرف التحقيق، كي لا نفقد عضوية الحزب، وذلك هو العقاب الذي يتعرض له من يدلون باعترافات من أعضائه، علاوة على ما سوف يتعرضون له من نبذ وتشهير، ومن عزلة قسرية عن كل أشكال النشاط السياسي والاجتماعي. جاء محقق آخر بعضلات نافرة، طلب مني بلهجة آمرة أن أتبعه، تبعته إلى ممر مضاء، واقتادني إلى الخارج، جعلني أقف ووجهي ملتصق بسور البناية. كنت أثناء ذلك، أستمع إلى أصوات سيارات عسكرية تأتي بمعتقلين جدد، وإلى أصوات الجنود مختلطة بوقع خطواتهم، وهم يخرجون من باب المبنى أو يدخلون إليه. يتبع..
#محمود_شقير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ظل آخر للمدينة45
-
ظل آخر للمدينة44
-
ظل آخر للمدينة43
-
ظل آخر للمدينة42
-
ظل آخر للمدينة41
-
ظل آخر للمدينة40
-
ظل آخر للمدينة39
-
ظل آخر للمدينة38
-
ظل آخر للمدينة37
-
ظل آخر للمدينة36
-
ظل آخر للمدينة35
-
ظل آخر للمدينة 34
-
ظل آخر للمدينة33
-
ظل آخر للمدينة32
-
ظل آخر للمدينة31
-
ظل آخر للمدينة30
-
ظل آخر للمدينة29
-
ظل آخر للمدينة28
-
ظل آخر للمدينة27
-
ظل آخر للمدينة26
المزيد.....
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|