|
الإنسان ومعجزة العقل
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 7140 - 2022 / 1 / 19 - 13:00
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لقد تحدثنا في سلسلة من المقالات السابقة عن الإنسان كـ " حيوان قاتل " له القدرة على إزهاق أرواح بشرية أخرى وقطع رؤوسها وتفجير أجسادها بالديناميت، غير أن الإنسان قبل أن يكون حيوانا يقتل ويدمر وينشر الخراب في العالم، فإنه حيوان "عاقل" حسب ما اتفق عليه العديد من الفلاسفة والعلماء قديما وحديثا. ذلك أن عملية القتل ذاتها تتطلب مجموعة من العمليات العقلية المنظمة والمتراتبة ليكتمل الفعل ويصل إلى مستواه النهائي. فلابد للقاتل من أن يحدد ضحيته أو هدفه ويحدد الوسيلة التي يريد إستعمالها وكذلك المكان والزمن.. إلخ. وكل هذه العمليات تتطلب شيئا نسميه مؤقتا "العقل" قادر على تنظيم وتنفيذ هذه السلسلة من الأعمال من بدايتها إلى نهايتها. ولا نشك لحظة واحدة في أن عقل القاتل لا يختلف في جوهره عن عقل المقتول .. فنحن جميعا نمتلك هذه الخاصية العجيبة المتمثلة في القدرة على "التفكير" والتنظيم والإعداد لأعمال مستقبلية وإيجاد العلاقات بين الأشياء والمواقف وتوقع النتائج لتفاديها أو لتأكيدها. فالعقل "فعل" قائم على التجريد وإيجاد علاقات الارتباط والاقتران والتتابع بين الأشياء والظواهر كما تتجلى في علاقات عديدة كالسببية والتعليل والإستنباط والتدليل .. فالقول بأن الإنسان حيوان "قاتل"، هو مجرد تعبير مجازي للدلالة على أن بعض أفراد قبيلة "الإنسان" قادرون على هذا الفعل كما هناك آخرون قادرون على أفعال أخرى مغايرة متعددة. وهنا لا بد من الإعتراف بأن العنف لايشكل في صورته التاريخية التي درسناها في المواضيع السابقة، طبيعة البشرأو جوهرالبشرية، لأن أغلبية البشر ليسوا قتلة ولأن أغلبية العائلة الإنسانية لا تمارس العنف أو الإرهاب وإنما تمارس " الحياة " ببساطتها ورتابتها رغم خلوها من المعنى أو من أي هدف غائي أو متعال. فالإنسان، حسب التعريفات المتعددة المتفق عليها، هو كائن حي مثله مثل كل الكائنات، ينتصب واقفا على قدمين وله القدرة على الحركة، يمشي ويتسكع ويجري ويتسلق الأشجار والهضاب .. يمتلك جهاز عصبي مركزه" الدماغ " عالي التطوروشديد التعقيد، يمكن الإنسان من التفكير المجرد وتكوين المفاهيم والتصورات والمقولات مستخدما اللغة والتفكير والحلم والتخيل وقادر على التوصل لإيجاد الحلول المناسبة للمشاكل التي يواجهها. ويمتلك جسدا منتصبا ذا أطراف يسهل تحريكها وتعمل بتناسق كامل مع الدماغ تجعل من الإنسان الكائن الحي الوحيد الذي يستطيع توظيف قدراته العقلية والجسدية لصناعة الأدوات التي يحتاجها من المواد الطبيعية التي يستخرجها من باطن الأرض أو التي تتواجد حوله، وقادر أيضا على تغيير "الطبيعة " واستغلالها فيما يسهل حياته اليومية. بالإضافة، الإنسان مثل معظم الرئيسيات العليا كائن "اجتماعي"، يعيش في مجموعات بشرية متفاوتة الحجم مثل القطعان ولكنه يتميز بقدرته على خلق شبكات معقدة من العلاقات الاجتماعية للتعبير عن الذات وتبادل الأفكار والمعلومات والتجارب والخبرات وتنظيم هياكل ومؤسسات اجتماعية بالمشاركة مع قطعان أخرى بدءا من تكوين العائلات والقبائل وانتهاءا بالشعوب والأمم. التفاعل الاجتماعي بين البشر كضرورة حيوية في محيط طبيعي شرس أسفر عن ظهور منظومات واسعة ومتنوعة من المقاييس والمعايير والمبادئ لتنظيم الحياة داخل كل خلية بشرية، وكذلك العديد من القيم والقوانين الاجتماعية والطقوس الدينية التي تشكل عمليا أساس كل مجتمع إنساني. ويتميز الإنسان أيضا بما يسمى بالحس الجمالي وتذوقه لظاهرة الجمال والإستمتاع، وهو ما يبعث في الإنسان الحاجة للتعبير عن الذات بواسطة الخلق والإبداع في الفن والأدب والموسيقى والأكل واللباس والسكن. وكذلك قدرة الإنسان على الفهم والتأثير في محيطه البيئي وحاجته الدائمة للبحث والاستفسار عن الظواهر الطبيعية ومحاولة التعمق فيما وراء الظواهر ومعرفة القوانين التي تسيرها، ومن هنا ظهرت وتطورت العلوم الطبيعية والفلسفة والميثولوجيا والدين. ونستطيع أن نواصل كتابة عدة صفحات أخرى لوصف قدرات الإنسان الطبيعية أو المكتسبة خلال مسيرته التاريخية الطويلة وإنتاجه الثقافي والفكري منذ إكتشافه للنار والعجلة والزراعة والكتابة إلى اكتشافاته الرائعة والمروعة في العصر الحديث، غير أن كل ذلك لا يعدو أن يكون وصفا خارجيا لإنجازات حيوان خارق وعجيب مقارنة ببقية الحيوانات. في نهاية الأمر هذا الإنسان لا يعدو أن يكون حيوانا، وإن كان متطورا أو حتى شديد التطور، ولا يختلف جوهريا عن إخوته الحيوانات إلا في "درجة" هذا التطور، حيث يبقى عمليا مسجلا في نفس كتيب العائلة الذي يتضمن العنز والحمار وبقية أبناء العمومة. الإنسان إذا هو وجود آخر ومغاير لما يسمى بالفطرة أو الطبيعة البشرية، لأن هذه الفطرة والطبيعة البشرية تجعل منه مجرد حيوان متطور ولكنه خاضع للحتمية المادية وخاضع لمحدودية إمكانياته الجسدية وتجعله يسكن نفس الحضيرة مع الدجاج والأغنام والبقر. الأديان القديمة فطنت إلى هذا الفخ وقدمت صورة للإنسان تتجاوز حيوانيته وأعطته شهادة ميلاد مزورة باللجوء إلى حيلة الميتافيزيقا، فادعت أن الإنسان مخلوق استثنائي خلقه الله على صورته ليحتل الأرض وما عليها ويكون خليفة له. فالأديان لا تعترف بحيوانية الإنسان، فقطعت الحبل الذي يربطه بجذوره الأرضية وأخرجته من الحضير وأعطت له مزرعة في السماء، رغم بقائه "مخلوقا" طينيا يجيد النطق ويعرف أسماء الأشياء. ولكن في نفس الوقت، هذا الإنسان السماوي يعاني من إنفصام أبدي بين هذا الجسد الطيني وبين ما يسمى بالروح أو العقل أو الفكر أو الحياة الداخلية عموما. فهذا الجسد يعيد الإنسان في نهاية الأمر إلى أصله الأرضي وقبيلته الحيوانية، إلا إذا تمكنت روحه من ترويض هذا الجسد وجعله تابعا وخاضعا لها أوإلغائه ونسيانه نهائيا. وربما لهذا السبب يرجع البعض أصل كلمة إنسان في كلام العرب إلى "النسيان"، فقد أورد ابن منظور عن ابن عباس: "إنما سمي الإنسان إنسانا؛ لأنه عهد إليه فنسي"، إذ یقول القرآن بهذا الصدد : "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما" ( أما إسم آدم، فإنه كلمة عبرية مشتقة من "أدمه" التي تعني التراب أو الطين، كما أن حواء لها الجذر العبري والعربي المشترك "حياة" ). إن موقف الفلسفة والعلم والدين من قضية "الجسد" هو مفتاح البوابة التي قد تفضي إلى معرفة الإنسان معرفة شاملة والإحاطة بكينونته المشتته بين قطبي المادة والروح أو الله والطبيعة ..
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكايةعن الجوع والحرية
-
عن الكابوس الليبي والندم
-
الحلم بليليث
-
عذاب القبر
-
سيجارة السابعة والنصف صباحا
-
الآخر ومنفى الأنا
-
الكابالا والفلسفة الحديثة
-
التصوف والعدم
-
اللغة كسلاح ملوث
-
الثورة .. والثورة
-
عار الكلمات العارية
-
أزمة العقل وضرورة الثورة
-
المادة والثورة
-
الحيوانات تحب لعق البترول
-
الأمل أفيون الفقراء
-
فكرة .. مجرد فكرة
-
عن السلطة والمال والسلاح
-
الإنسان مشروع الألوهية
-
الرقم الروحي أو QR code
-
الفن والحشيش وضرورة الهلوسة
المزيد.....
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|