فلسطين الطبقة العاملة العربيّة وحركتها النقابيّة
إبراهيم العثماني
2021 / 12 / 15 - 19:56
[أولت الأممية النّقابيّة الحمراء منذ تأسيسها (1921) الحياة النقابيّة في مجمل بلدان العالم أهميّة قصوى وخصّت المستعمرات وأشباه المستعمرات بلوائح ومقرّرات في مؤتمراتها الأربعة. ولم تكتف بذلك بل وظّفت نشريتها الشّهريّة الّتي اختارت لها من الأسماء "الأممية النقابية الحمراء" لإنجاز دراسات وبحوث تُعنى بالبلدان الرّأسماليّة والمستعمرات على حدّ سواء. وكانت فلسطين حاضرة من خلال مقال موسوم ب"الطبقة العاملة العربيّة وحركتها النقابيّة" من تأليف ج.ج. زيمنغ نُشر بالعدد 71 ديسمبر1926. المعرّب]
--------------------------------------------
إنّ بدايات الحركة العمالية العربيّة في فلسطين وتطوّرها قد حدّدتهما نفس الأسباب الّتي أدّت إلى تشكّل طبقة عاملة يهوديّة في هذا البلد ونموّها. وإنّه لمن الظّلم أن يدّعي عديد المؤلّفين أنّ العرب لا يمتلكون كفاءات تقنيّة، وتبعا لذلك، لا يستطيعون أن يُستخدموا كعملة صناعيين (1). وفي حقيقة الأمر فإنّ فلسطين، بوصفها بلدا فلاحيّا، لا تشجّع تملّك المعرفة التّقنية الصّناعيّة. لكنّ الحرف توجد منذ زمن بعيد في هذا البلد وقد مارسها العرب بكلّ نشاط. وهذا العمل وحده يثبت أنّ السّكان العرب تدرّبوا على تعاطي الحياة الصّناعيّة. إلاّ أنّ صناعة فلسطين وهي تتطوّر فإنّ الكفاءات والصّفات الضّروريّة للعمل في المصانع هي كذلك تتطوّر بشكل غير محسوس. ومن ناحية أخرى، فإذا ما اعتبرنا الحاجات المتواضعة وقدرة العمال العرب على التّكيّف مع ظروف الحياة والعمل السيئة فإنّنا سنفهم لماذا نافس العامل العربي منافسة سعيدة العمّال الآخرين في المصنع وبصفة عامّة في المدن.
يُوظّف الأجراء الفلاحيّون العرب أساسا في المستعمرات الأوروبيّة وفي مزارع التّبغ وحقول "الأفنديّة" (النّبلاء الرّيفيّون). ويشتغل في الفلاحة أكثر من 20.000 من بين 50.000 عامل عربي ويشتغل 10.000 عامل في المستعمرات اليهوديّة وعدد آخر يعمل في مزارع التّبغ (2.000عامل قار و6.000 عامل موسمي). وعلينا أن نلاحظ أنّ النّساء والأطفال يُدرجون كذلك ضمن هذا العدد. وكثيرا ما حلّوا محلّ عامل كهل، وجمل، وحمار.
يشتغل عرب المدن في صناعة البناء، وفي النّقل وفي المصانع (المتوسّطة أو الصّغرى: معامل الصّابون، معامل الزّيت، ورشات ميكانيكيّة، مصانع التّبغ والأحذية والمطاحن...إلخ) وفي مصانع الحرفيين الصّغرى. أمّا أهل الاختصاص فهم بالخصوص البنّاؤون والنّجارون والإسكافيّون...إلخ. ويوجد، من بين العدد الجملي للبروليتاريا العربية، أكثر من 20.000 يعملون في ساحات التّعمير وفي الأشغال العامّة. وما يقارب 4.000 يشتغلون في المصانع أوفي معامل الحرفيين الصّغرى. وتوجد سلسلة من الصّناعات الحضريّة الّتي قلّما يشتغل فيها العرب ( على سبيل المثال في معمل الصّابون).
ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أنّ عدد العرب العاملين في المصانع يميل إلى النّموّ بصفة عامّة. وهذا الميل يُلاحظ حتّى في المؤسّسات الّتي أُنشئت بأموال وطنيّة يهوديّة، وبمساعدة الإدارة الصّهيونيّة. ولن نجانب الصّواب ونحن نقدّر عدد العمّال الصّناعيين العرب بأقلّ من 4.000 عامل بما في ذلك عمّال السكك الحديديّة (أكثر من 2.000عامل). ويجدر بنا أن نلاحظ أنّ عدد عمّال المصنع العرب قد تطوّر بشكل ملحوظ في حين سجّل عدد الأجراء الفلاحيين ميلا إلى التّقلّص. فعلى سبيل المثال، وفي بطاح تكفا(2) حيث تتركّز زراعة اللّيمون والبرتقال يعمل حاليّا ما يقارب 1.000 عامل عربي في حين كان عددهم في 1923- 24 حوالي 3.000 وكذلك هناك أحداث مماثلة يلاحظها المرء جزئيّا في مناطق أخرى.
إنّ أغلب العمّال العرب موزّعون على ورشات صغرى. فهم منعزلون ومشتّتون. ويوم عملهم غير محدود وليست لديهم فكرة عن يوم العمل القارّ. كما يجد النّساء والأطفال أنفسهم في مثل هذه الوضعيّة. وفي هذا الصّدد فإنّ ظروف عمل العمّال العرب هي، بشكل محسوس، أكثر سوءا من الظّروف الّتي يعيشها المهاجرون. وفي الحقيقة يزول الفرق عندما يتعلّق الأمر بالعمّال المختصّين. وفي أغلب الحالات يكون الأجر حسب العمل المنجز. [أمّا] العمّال غير المختصّين فيكدحون من شروق الشّمس إلى غروبها. وفي المدن فإنّ أجر يوم عمل ب12- 16 ساعة يتراوح من 5 إلى 20 قرشا(3)، ويرضى الفلاّحون بمرتّب زهيد (في الرّيف يتراوح المرتّب المتوسّط من 4 إلى 8 قروش).
يتكوّن فطور عامل عربي (يكون ثمنه بعض القروش) من فطيرة ذُرَة وحبّات زيتون، وأحيانا يقتصر العربي على هذا الفطور طوال يوم عمل مضن جدّا (فطور نازح يهودي يكون أكثر كلفة من 3 إلى 5 مرّات).
تعيش البروليتاريا العربيّة حياة بدائيّة، فالأغلبيّة السّاحقة منها جاهلة (%98 أميون) يسحقها نير استغلال لا ينتهي وتخضع لتأثير رجال الدّين القوي ولنبلاء القرى وسلطة ربّ العمل.
إلاّ أنّنا نلاحظ تحسّنا خلال السّنوات الأخيرة وفيما مضى لم يقم العمّال العرب بأيّ محاولة للتّنظّم، ولم يسعوا إلى الرّفع من مستواهم الثّقافي. وشكل التّنظيم الوحيد الّذي كانت بعض العناصر تمتلكه هو فرق تعاضد كانت تدافع عن مصالح المستغِلّين بدل دفاعها عن مصالح العمّال. وكان صاحب المؤسّسة يتّفق مع فريق العمل عن الأجور وطبيعة الأشغال، ويقتطع نسبة مائويّة عن كلّ عامل (تقريبا 5 قروش). إنّه هو الّذي كان يقوم كذلك بدور المراقب ويثير حماس العمّال( أسلوب مازال يُمارس إلى يوم النّاس هذا)، لكن منذ مدّة وتحت تأثير الحركة النقابيّة المصرية (توجد في فلسطين عديد النّقابات المصريّة) والحركة العمالية اليهوديّة نلاحظ لدى العرب ميلا شديدا إلى النّقابات.
تعود المحاولات الأولى إلى تنظّم العمّال العرب إلى أربع سنوات خلت. فقد توجّهت مجموعة من العمّال الأكثر وعيا أي عمّال السكة الحديدية إلى نقابة سكك الحديد اليهوديّة المنخرطة في "هيستدروث" طالبة منها قبولها في منظّمتها. لكنّ سلسلة من المجموعات اليهوديّة، و المتديّنة والشّوفينيّة ،"الهيستدروت في العدد، قاومت بكلّ ما أوتيت من قوّة فكرة التّجمّع المختلط. لكن كان العمّال العرب منذ سنة 1923 يشاركون في ندوة عمّال سكك الحديد لأنّهم يشتغلون جنبا إلى جنب مع العمّال اليهود. لقد فتحت جامعة السكة الحديديّة أبوابها أمام العمّال على اختلاف جنسيّاتهم. وفي سنة 1924 كانت جامعة عمّال سكك الحديد والبريد والبرق تعدّ 40 منخرطا عربيّا من بين عدد جملي يساوي 300 عضو. ومن الطّبيعي أن يُعلى من شأن هذه المنظّمة. وفي مستهلّ سنة 1925 كانت جامعة السكة المنظّمة النّقابيّة الأولى الّتي اعترفت بها رسميّا إدارة سكة الحديد. وكانت الإدارة الفيدراليّة تضمّ خمسة عمّال يهود وخمسة عرب. ونشاطها برّر المبدأ الأساسي لمنظّمتها. وقد أقرّت ندوة السكة الحديدية المنعقدة يومي 9 و10 جانفي 1921 المقرّر التّالي:
"لن تستحيل الجامعة قويّة ولن تقدر على تذليل كلّ الصّعوبات إلاّ إذا جمّعت كلّ عمّال السكة على اختلاف جنسيّاتهم، وإلاّ إذا أصبحت منظّمة منتشرة فوق كامل تراب البلد".
تقول النّقطة الثّالثة من هذا المقرّر:" قرّرت النّدوة أن تطلب من المؤتمر العام للمنظّمة اليهوديّة تطبيق المبدإ الأممي. وسنبني مستقبلا كلّ المنظّمات وفق هذا المبدإ. وسنؤسّس منظّمة نقابيّة أمميّة ستكون جامعة السكة عنصرا مؤسّسا لها".
وفي نهاية سنة 1925 كانت جامعة السكة تضمّ 350 عاملا عربيّا من بين عدد جملي يساوي 650عضوا. وهي تضمّ، حاليّا، 884 عاملا من بينهم 420 عربيّا. وفي نقابات عمّال الصّيدليّات يوجد 22عربيّا (4) من بين 79 عاملا. والعمّال العرب ال350 المنظّمون في يافا واللّد والقدس وحيفا والقنطرة أعطوا المثل لإخوانهم من الجنسيّات الأخرى. وتحت تأثير جامعة السكة تمّ خوض حملة لانضمام المؤجّرين العرب إلى النّقابات المماثلة المنتسبة إلى"الهيستدروث".
انتاب قلق شديد رجال الدّين والشوفينيين والإصلاحيين! فقد كانوا يخشون أن تُفقدهم هذه المنظّمة مواقعهم في الحركة النقابية بفلسطين. وتبعا لذلك فإنّ "عبدوت قمفودا"، وهو حزب قائد في صلب "الهيستدروث" يريد أن تستمرّ سياسته القوميّة، يقترح تنظيم العمّال العرب في نقابات منفصلة. وقد حدث ذلك حتّى أنه، لمّا أثار أعضاء القسم النّقابي الشّغب في النّوادي لفائدة التّنظيم الموحّد للعمّال اليهود والعرب تمّ تهديدهم بالإقصاء. إلاّ أنّ القوانين الأساسيّة الّتي أقرّها المؤتمر الثاني" للهستدروث" المنعقد سنة 1923 تتضمّن فقرة تطالب حرفيّا بإقامة علاقات أخويّة مع العمّال العرب. وهذا المؤتمر نفسه كان قد أعلن الانتماء الحر لعمّال أي جنسيّة إلى النّقابات. ولكن رغم ذلك، فإن قادة الهيستدروث يتباهون بعرقلة تنظيم العمال العرب. وهناك حدث آخر اعترض انتماء عدد كبير من العمّال العرب إلى النّقابات اليهوديّة هو أنّ "الهيستدروث" تُسمّى رسميّا "منظّمة يهوديّة". وفي النّدوة القادمة للسكة الحديديّة الّتي انعقدت في حيفا، في مارس1925، حيث يوجد ستة مندوبين عرب أعلن هؤلاء أنّ هذه التّسمية تعرقل من جديد انتداب عرب.
إنّ مقاومة قادة "الهيستدروث" الكهنوت والشوفنيين والإصلاحيين ورَيْبة العمّال العرب لعبتا دورا نحسا. وقد بدأت حركة لفائدة منظّمة للعمّال العرب مستقلّة. فقادة النّوادي العربيّة والمسلمة والمسيحيّة ومنظّمات أخرى معادية للطّبقة العاملة قد استغلّوا ذلك للشّروع في حملة مناهضة للتّوحّد مع العمّال اليهود. وقد أعدّوا مخطّطا للتّنظيم النّقابي يستند إلى برنامج الوفاق الطّبقي. وعلى سبيل المثال، في القدس و في أفريل- ماي 1923، وقع التّنظيم الجزئي لنقابة الطّباعة العربيّة (100 منخرط) تحت تأثير نقابة عمّال الكِتاب المصريين. وكان الاجتماع التّأسيسي قد قرّر الاندماج مع نقابة الكتاب القائمة، لكنّ القادة منعوا تكريس هذا القرار.
كما فشل اجتماع الخبّازين المنعقد في القدس سنة 1925 بمشاركة عمّال يهود وعرب بسبب حضور مندوبي ناد مسلم ومسيحي. وقد احتجّ هؤلاء المندوبون على الانضمام إلى نقابة سيكون اليهود جزءا منها.
وبقدر ما كانت الحملة لفائدة التّنظيم النّقابي مستمرّة بين العمّال العرب سعى أعداء الطّبقة العاملة العربيّة إلى السيطرة على النّقابات. ومنذ مدّة والرّأسماليون العرب بفلسطين يؤسّسون نقابات للعمّال العرب للتّحكم فيها. و تضمّ هذه النّقابات في آن واحد عمّالا وأعرافا وتهدف أساسا إلى تحويل وجهة الصّراع الطّبقي للعمال العرب. ويجب أن نلاحظ كذلك تأسيس ناد للسكة الحديدية يحمل اسم"جمعيّة ورعة" ذات توجّه شوفيني وديني. وأكبر منظّمة خاضعة لرقابة الأعراف هي اتّحاد يافا الّذي يضمّ حاليّا (نهاية 1926) ما يقارب 3.000 عضو. ويوجد في هذه المنظّمة عمّال وأعراف، ويمثّل العمّال %90من العدد الجملي للمنظّمة وهم مسيحيّون فقط. وينتمي إلى اللّجنة التّسييريّة مسيحيّو مدينة يافا الأكثر ثراء، ولا تحتوي اللجنة التّنفيذيّة للمجلس إلاّ على عضو واحد هو خوجة دبّاس مالك مصانع الصّابون. لكنّنا نلاحظ لدى العناصر العماّليّة الواعية، أعضاء هذه المنظّمة، تيّارا تجديديّا: فالمنظّمة المعدّلة قد تقبل انضمام المسلمين واليهود وقد لا تكون مفتوحة أمام الأعراف.
وهكذا نلاحظ، في بعض الحالات، أنّ العمّال العرب بدؤوا يذلّلون الصّعوبات الّتي تعترض تشكيل منظّمة طبقيّة. وهناك حدث مميّز: فمنذ مدّة شرعت "الهستدروت"، وهي منشغلة بالخروج من عزلتها، في القيام بعمل حثيث بين العمّال العرب، وقادت حملة لتدعيم الصّحيفة العربية للهستدروث "اتحاد العمّال"، لكنها من ناحية أخرى تتمادى بكلّ إصرار في سياستها الخيانيّة وذلك ببقائها متشبّثة بمبدإ المنظّمات حسب الجنسيّات.
بدا العمّال العرب شيئا فشيئا ميّالين إلى التّنظم في كلّ قطاعات العمل. وهكذا نلاحظ منذ مدّة غليانا شديدا بين نجارة مدينة القدس ومدن أخرى. وأمام هذه التّحرّكات كانت "الهستدروث" مضطرّة إلى التّظاهر بالاهتمام بالعمّال العرب وبالرّغبة في تنظيمهم. لكن في الواقع ليست لها إلاّ رغبة وحيدة هي التّأجيل ومنع تأسيس منظّمة نقابيّة طبقيّة تضمّ كلّ العمّال على اختلاف جنسيّاتهم. إلاّ أنّ إرادة تأسيس مثل هذه المنظّمة موجودة، والعمّال العرب يقتربون من هذه الفكرة. وفي الحقيقة هم ليسوا نشطاء بعد بما فيه الكفاية لكنّ عملهم سيساهم في التّعجيل بإعادة تنظيم"الهستدروث" على أسس أمميّة. وفي المنظّمة الجديدة المتآخية والموحّدة سيتساوى العمال العرب والعمال اليهود في الحقوق.
j.j. Zimming, “Palestine la classe ouvrière arabe et son action syndicale”, in Revue Internationale Syndicale Rouge, numéro 71, décembre 1926.
الهـــــــــوامش:
1) Seidel (H. J.), Der britische Mandatstaat Palästina im Rahmen der Weltwirtschaft
2 ) Petah-Tikva : بطاح تكفا كانت تُسمّى ملمس الفلسطينية، وهي أوّل مستوطنة استعمرها اليهود سنة 1878. المعرّب
3) Piastre :ترجمناها بالقرش وهو"نوع من المسكوكات يتعامل به، وقد اختلفت الأقطار في مقداره، فهو جزء من مائة من الجنيه أوالليرة"، حسب تعريف المعجم الوسيط. وهذه العملة كانت متداولة في عدّة بلدان منها سوريا والسّودان ومصر ولبنان. المعرّب.
4) Données pour Juillet 1926.