دفاعا عن المادية التاريخية


آلان وودز
2021 / 11 / 29 - 23:49     



يعلن التيار الماركسي الأممي بفخر صدور عدد الشتاء لعام 2021 من المجلة النظرية “الدفاع عن الماركسية”! يدور هذا العدد الأخير حول موضوع المادية التاريخية. ننشر أدناه افتتاحية العدد بقلم آلان وودز.

لقد تجاوز نجاح العدد الأول من المجلة الجديدة “الدفاع عن الماركسية” حتى أكثر توقعاتنا تفاؤلاً. لقد رحب قرائنا ترحيبا حارا بتركيزنا على الفلسفة الماركسية بشكل خاص، ولا سيما الجدل ضد الجنون الذي نراه لما بعد الحداثة.


كما أشرنا، فإن هذه “الفلسفة” هي شر متعدد الرؤوس. يمتد تأثيرها الخبيث إلى مجالات عديدة، وسيستمر هذا الجدل لفضحها للأبد. العدد الحالي مخصص لمجال معين حيث كان للتأثير السلبي لما بعد الحداثة عواقبه الأكثر تدميراً – دراسة التاريخ.

يسعدنا أن نقدم دراسة جديدة ومحفزة للتفكير حول أصول المجتمع الطبقي بقلم جوش هولرويد ولوري أوكونيل، جنباً إلى جنب مع إعادة طبع مقالي عن الحضارة والبربرية، والذي كتب في عام 2005 ولكنه لم يكن متاح للقراءة لبعض الوقت.

ما بعد الحداثة والتاريخ
ينكر فلاسفة ما بعد الحداثة، إمكانية العثور على أي تفسير منطقي لتاريخ البشرية. يُزعم أنه لا توجد قوانين عامة ولا عوامل موضوعية تكمن وراء سلوك الأفراد وتحدد نفسيتهم وسلوكهم.

من هذا المنظور – وجهة النظر الذاتية المتطرفة – يتم تحديد التاريخ كله من قبل الأفراد الذين يتصرفون وفقاً لإرادتهم الحرة. إن محاولة إيجاد بعض المنطق الداخلي في هذا البحر المضطرب والخالي من القانون سيكون تمريناً عديم الجدوى مثل محاولة التنبؤ بموضع جسيم فردي دون ذري وزخمه الدقيق.

على الرغم من بعض الجاذبية السطحية، فإن هذا النهج الذاتي للتاريخ فارغ تماماً. إنه يدل على التخلي التام عن أي محاولة لاكتشاف القوانين التي تطور بموجبها المجتمع البشري، لأنه ينفي وجود أي من هذه القوانين.


الآن، إذا فكرنا في الأمر، فهذا ادعاء استثنائي للغاية. يعلمنا العلم الحديث أن كل شيء في الكون، من أصغر الجزيئات والذرات إلى أكبر المجرات، تحكمه قوانين، وأن اكتشاف مثل هذه القوانين بالتحديد هو المهمة الرئيسية للعلم والمحتوى الرئيسي له.

لماذا يجب أن نقبل أن الكون بأكمله، من أصغر الجسيمات إلى المجرات الأبعد قد تم تحديد قوانينه، وأن العملية التي تحدد تطور جميع الأنواع تحكمها قوانين، ومع ذلك، ولسبب غريب، تاريخنا ليس كذلك؟

لا داعي للقول بأن البشر معقدون على المستوى الفردي والجماعي. برغم كل شيء، الدماغ البشري هو العضو الأكثر تعقيداً في الكون بأسره، ويتم تحديد التاريخ من خلال تفاعل معقد للغاية بين العديد من العقول المختلفة، التي تسعى إلى تحقيق أهداف مختلفة للغاية.

ومع ذلك، فمن غير الصحيح بشكل واضح القول بأنه لا يمكن فهم السلوك البشري. أشار إنجلز منذ فترة طويلة إلى أنه في حين أنه من المستحيل التنبؤ بموعد وفاة رجل أو امرأة، فمن الممكن تماماً إجراء مثل هذا التنبؤ في المجموع، وهي حقيقة تحقق منها شركات التأمين أرباحاً جيدة.

بنفس الطريقة، في حين أنه من غير الممكن تحديد موقع وزخم جسيم دون ذري واحد بدقة كافية، فمن الممكن عمل تنبؤات دقيقة للغاية عند التعامل مع كمية كبيرة جداً من هذه الجسيمات. يُعرف هذا في الديالكتيك بتحويل الكمي إلى نوعي.

المادية التاريخية
يحلل المنهج الماركسي الينابيع الرئيسية الخفية التي تدعم تطور المجتمع البشري من المجتمعات القبلية الأولى حتى العصر الحديث. الطريقة التي تتبع الماركسية بها هذا الطريق المتعرج تسمى المفهوم المادي للتاريخ.

في كثير من الأحيان، تُبذل محاولات لتشويه سمعة الماركسية باللجوء إلى رسم كاريكاتوري لمنهجها في التحليل التاريخي. ليس هناك ما هو أسهل من نصب رجل من القش من أجل إسقاطه مرة أخرى. التشويه المعتاد هو أن ماركس وإنجلز “اختصرا كل شيء في الاقتصاد”. هذا الكاريكاتير العبثي لا علاقة له بالماركسية.


إن ما تؤكده الماركسية – وهو افتراض لا يمكن لأحد أن ينكره بالتأكيد – هو أنه في التحليل الأخير، سيتم تحديد قابلية نظام اجتماعي اقتصادي معين من خلال قدرته على تطوير وسائل الإنتاج، أي، الأسس المادية التي يقوم عليها المجتمع والثقافة والحضارة.

تمكننا هذه الطريقة العلمية من فهم التاريخ، ليس كسلسلة من الحوادث غير المترابطة وغير المتوقعة، بل كجزء من عملية مفهومة ومترابطة بشكل واضح. إنها سلسلة من الإجراءات وردود الفعل التي تغطي السياسة والاقتصاد والطيف الكامل للتنمية الاجتماعية.

إن كشف العلاقة الجدلية المعقدة بين كل هذه الظواهر هو مهمة المادية التاريخية. يغير الجنس البشري الطبيعة باستمرار من خلال العمل، وبذلك يغير نفسه.

نظرية رجعية
فكرة أن التاريخ لا يعرف القوانين، وأنه مجرد سلسلة من الأحداث العشوائية غير المترابطة، ملائمة جداً للمدافعين عن النظام الحالي، الذين بالنسبة لهم كانت الرأسمالية (أو شيء يشبهها) موجودة دائماً وستظل موجودة دائماً.

لكن هذه النظرية المريحة لا تدعمها الحقائق المعروفة. حتى أكثر مراقبي التاريخ سطحية سيرون على الفور وجود أنماط محددة. تتكرر عمليات معينة باستمرار: صعود وسقوط تشكيلات اجتماعية واقتصادية معينة، ومجتمعات وحضارات، وأزمات اقتصادية، وحروب وثورات.

فكما أن الأفراد يولدون وينمون ويصلون إلى مرحلة النضج ثم يدخلون في مرحلة من التدهور تنتهي بالموت، وكما هو الحال في التطور، تتبع فترات الركود الطويلة انفجارات مفاجئة يمكن أن تدفع بالتطور إلى الأمام أو تؤدي إلى الانتكاسات والانحدار، لذلك نرى سيرورة مماثلة في تاريخ تشكيلات اجتماعية واقتصادية محددة عبر مجرى التاريخ.


الإقطاعية خلفت المجتمع العبودي، والتي خلفتها بدورها الرأسمالية، التي ظلت تشكل التكوين الاجتماعي والاقتصادي المهيمن على مدى الثلاثمائة عام الماضية. شهدت تلك القرون أكثر الثورات إثارة للدهشة في العلوم والصناعة والزراعة والتكنولوجيا على الإطلاق. لكن هذا وصل الآن إلى حدوده. نحن نعيش الآن في مثل هذه الفترة من التدهور – عذاب الموت للرأسمالية.

لا شك أن البعض سيرى مجرى التاريخ بأكمله، إذا اقتبسنا من كلمات المؤرخ العظيم إدوارد جيبون “أكثر من مجرد سجل للجرائم والحماقات والمصائب البشرية”. ولكن على مستوى أعمق، هناك قوى أكثر جوهرية تضحي بنفسها.

يفتح كل تكوين اجتماعي اقتصادي إمكانية تطور أكبر للقوى المنتجة، وبالتالي يزيد من سيطرة البشرية على الطبيعة. وبهذه الطريقة يتم إعداد الأساس المادي لما وصفه إنجلز بقفزة الإنسانية من عالم الضرورة إلى عالم الحرية.

إن مهمة الاشتراكية هي أن تدرك الإمكانات الهائلة التي أوجدتها الرأسمالية بالفعل للتنمية البشرية، ولكنها عاجزة عن تحقيقها. هذه هي مهمتنا. والشرط المسبق لتحقيقها هو هدم النظام القائم وإعادة بناء المجتمع على أساس جديد وأعلى.

إن أهم خطوة في علمية الهدم هذه، هي هدم الأسس الأيديولوجية الفاسدة للنظام الحالي، وهذه هي المهمة التي نقوم بها هنا.

لندن، سبتمبر/آيلول 2021

ترجم عن النص الأصلي:

In defence of historical materialism: new magazine out now!