|
الفيض الإلهي
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 7070 - 2021 / 11 / 7 - 16:26
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أركيولوجيا العدم 103 - نظرية الفيض الإلهي
الفلاسفة اليونانيون، أرسوا مجموعةً من المبادئ والأصول التي استخدموها في تنظيراتهم العلمية منذ بداية الفلسفة، ومن تلك المبادئ، مبدأ السببية، الذي يفترض وجود علاقة وثيقة بين العلة والمعلول، فطالما كانت العلة واحدة وثابتة فلا يمكن أن يكون المعلول كثيراً ومتغيراً، ومن هنا فقد رفض معظمهم القول بأن جميع الموجودات قد صدرت عن واجب الوجود بشكلٍ مباشر، بمعنى إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. وفي محاولة لإيجاد حلولٍ لهذا الإشكال المنطقي، عملت مجموعة من الفلاسفة على تبرير ذلك التناقض، كما فعل الفيلسوف أفلوطين في القرن الثالث الميلادي، من خلال ربطه لفلسفة أفلاطون المثالية بفلسفة أرسطو المادية، بقوله بإن العالم قد صدر من خلال مجموعةٍ من الفيوضات التي صدرت من العلة الأولى، وإن تلك الفيوضات قد اتخذت أشكالاً مختلفة حتى تمكنت من خلق العالم والموجودات وكل الكائنات. نظرية الفيض صارت منذ ظهورها، أحد أهم النظريات الفلسفية التي تم تداولها بين الفلاسفة، فتم توارثها جيلاً بعد آخر، حتى انتقلت وتواترت بين فلاسفة المسلمين، فقال بها كل من الفارابي وابن سينا ومسكويه وإخوان الصفا وغيرهم. الفارابي تحديداً ساهم بشكلٍ كبير في نشر تلك النظرية في كتابه المعروف "آراء أهل المدينة الفاضلة"، فقال إن الفيض الإلهي قد أدى لصدور عشرة عقول، لكل منها مرتبة محددة، وهي مرتبطة بالأجرام الفلكية، وأولها هو العقل الأول الفائض من الله نفسه، وهي تتدرج شيئاً فشيئاً حتى يصدر عنها جميع الموجودات. هذه النزعة الباطنية التأويلية المتأثرة بالأفكار الفلسفية اليونانية من جهة، وبالمعتقدات الغنوصية من جهة أخرى، وجدت مجالاً رحباً للانتشار داخل منظومة الكابالا التي نحن بصددها. فكتاب الزوهار، والذي يعني الإشراق أو الضياء كما سبق القول، تضمن الكثير من المقاطع التي تتحدث عن خلق العالم بواسطة الفيض، إذ جرى فيه التفريق بين "عين سوف"، وهو المبدأ الأول، غير المحدود، وغير النهائي، والذي لا يمكن أن تدركه العقول البشرية، أو تحيط به، وبين "إلوهيم"، الذي ورد اسمه والحديث عنه في التناخ، والذي هو أحد الفيوضات المنبثقة عن عين سوف. من هنا، فقد عملت الكابالا اليهودية على تصوير "المبدأ اللانهائي" بوصفه علة للتطور والتغير، وليس علة الخلق، تمثيلاً غير مباشر، أي عبر فيض السيفيروت. في السياق نفسه، فأن العديد من الفلاسفة اليهود، قد قالوا بنظرية الفيض وأثرها في صدور الموجودات، ومن أهمهم، الفيلسوف الأندلسي ابن جيبرول (1029 - 1070م)، والذي كتب موضحاً اعتقاده: "لم يخلق الله الكون في زمن معين، بل هو ينساب في فيض متصل متدرج من ذات الله"، وذلك بحسب ما يذكر المؤرخ الأميركي ويل ديورانت في كتابه "قصة الحضارة". زمزمة إين سوف، أي تقلص اللانهائي، هي العملية الأولية التي نتج عنها الكون وكل العوالم حسب القبالة اللوريانية. مثل العدد غير النسبي pi - π - الثابت الرياضي المسمى أحيانا بثابت أرشميدس والذي يمثل نسبة محيط الدائرة إلى قطرها، يحول الإنكماش tzimtzum الأصلي دائرة لا نهائية من الضوء إلى خط مستقيم مُقاس. قبل الخلق، كما يقول آري، سادت حالة أولية من الضوء اللامتناهي، حيث لم يكن هناك مجال أو فراغ لوجود أي شيء أو أي كائن. قبل إنشاء العوالم، أزال الله هذه الطاقة وسحبها تمامًا، مما أنتج فراغًا إجماليًا وعاما داخل هذا الضوء اللامتناهي. عندها فقط دخل في هذا الفراغ خطًا مُقاسًا من الضوء اللامتناهي المتسامي، والذي أوجد به سلسلة من العوالم والكائنات التي لا تعد ولا تحصى. لذلك فإن Tzimtzum هي طريقة الله لإفساح المجال ليكون لدينا عالمنا الخاص، يخفي عنا نوره، حتى نتمكن من اتخاذ خياراتنا وقراراتنا بأنفسنا، لكنه بطبيعة الحال يظل حاضرًا ودائم الوجود في هذا الكتمان والتستر. الفكرة الأساسية للتصوف عموما هي أن الله، بطريقة ما، أكثر حضورا في غيابه من حضوره. يصف Hayyim Vital ، أحد التلاميذ الأربعة الرئيسيين للوريا أسد صفد كما يسمونه أحيانا، التسيمتسوم بهذه الكلمات : "اعلم أنه قبل انبثاق الانبثاقات وخلق المخلوقات، كان نور علوي بسيط يملأ كل الواقع. لم يكن هناك مساحة خالية، في صورة الهواء الفارغ مثلا أو تجويف من أي نوع، كل شيء كان مليئًا بهذا الضوء البسيط اللامتناهي؛ ليس له بداية ولا نهاية. كل شيء كان نورا خفيفًا، واحدًا، بسيطًا، متجانسًا، وهذا ما نسميه نور اللانهائي أو اللانهائي En Sof. عندما " صعد إلى إرادته البسيطة ليخلق العوالم ويفيض منها الفيوضات لإظهار كمال أفعاله وأسمائه وصفاته، والتي كانت سببًا في خلق العوالم، فعندئذ أنكمش في ذاته، هو اللانهائي، في نقطته المركزية، في المنتصف تماما، قلص هذا الضوء، والذي ابتعد إلى الجوانب، حول النقطة المركزية، وبقي هكذا هناك : مكان فارغ هواء، تجويف فارغ، من هذه النقطة المركزية .." هذا النص الغامض كان موضوع العديد من القراءات والتفسيرات والتكهنات على مدار عدة قرون. يمكن تصنيف التفسيرات الكلاسيكية لمفكري الكابالا في فئتين رئيسيتين: التفسيرات الحرفية interprétation littérale والتفسيرات المجازية أو الإستعارية allégoriques. بالنسبة لمؤيدي التفسير الحرفي، فإن tzimtzum هو انسحاب نتج عنه إنفصال اللانهائي أو الإين سوف عن العوالم. على العكس من ذلك، بالنسبة للتفسيرات المجازية، فإن tzimtzum لا يعني انسحابًا، بل إخفاء وتغطية حضور اللانهائي في العالم. ومع ذلك، فإن tzimtzum له حقيقة الواقع من وجهة نظر المخلوقات فقط ولكنه لا يؤثر على اللامحدود أو اللانهائي نفسه. ومع ذلك ، فإن هذين النوعين من التفسيرات يشتركان في شيء واحد. في كلتا الحالتين، اللانهائي يعين الله بذاته. إن Tzimtzum يهتم بقضية الله في نهاية المطاف، سواء أخذنا في الإعتبار الله نفسه كإله كما في حالة "الحرفيين"، أم الله وفقًا لطرق تمظهره كما هو الحال عند "المجازيين". من خلال التقلص أو الإنكماش الذاتي، فإن En Sof، أي الله، يترك مجالًا وفضاء لكائن آخر محدود غير الله نفسه. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه بعد tzimtzum، لن نتحدث بعد الآن عن الله، بل عن الإلهي divin. يستبدل الـ tzimtsum اللاهوت la théologie، بعلم الإلوهية la science du divin، وعلم العلاقات بين مستويات الكينونة التي تشكل وتسلسل الهرمية للعوالم الخمسة التي تتحدث عنها قبالة Louria وهي : الإنسان الأولي l Homme Primordial، عوالم الإنبثاق أو الفيض les mondes de l Emanation، عوالم الخلق la Création وعوالم التكوين la Formation وعوالم الفعل l Action.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شرعية القبيلة وشرعية الإقتراع
-
غربة الله
-
القمر الأسود
-
فكرة الله في التصوف الكابالي
-
لغة الأحجار
-
الأسد المقدس
-
تماثيل الملح
-
النوارس وحدها لا تركب القوارب
-
كابالا - إسحق لوريا
-
مسرح الجريمة
-
المركبة النارية
-
مكعب الحديد
-
المربعات الليلية
-
الكابالا وفيثاغوراس
-
طلاسم الطلاسم
-
يا جهلاء العالم .. أتحدوا
-
ويفوتك القطار
-
الثقب
-
صحافة كلاب الحراسة
-
الكابالا وكتاب الزوهار
المزيد.....
-
تعود إلى عام 1532.. نسخة نادرة من كتاب لمكيافيلّي إلى المزاد
...
-
قهوة مجانية للزبائن رائجة على -تيك توك- لكن بشرط.. ما هو؟
-
وزيرة سويدية تعاني من -رهاب الموز-.. فوبيا غير مألوفة تشعل ا
...
-
مراسلنا: تجدد الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيرو
...
-
الرئيس الأمريكي: -أنا زوج جو بايدن.. وهذا المنصب الذي أفتخر
...
-
مسيرة إسرائيلية تستهدف صيادين على شاطئ صور اللبنانية
-
شاهد.. صاروخ -إسكندر- الروسي يدمر مقاتلة أوكرانية في مطارها
...
-
-نوفوستي-: سفير إيطاليا لدى دمشق يباشر أعماله بعد انقطاع دام
...
-
ميركل: زيلينسكي جعلني -كبش فداء-
-
الجيش السوداني يسيطر على مدينة سنجة الاستراتيجية في سنار
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|