|
المسرح الشعري ..الغايات والوسائل
مهدي بندق
الحوار المتمدن-العدد: 1652 - 2006 / 8 / 24 - 06:34
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
بدا كاتب هذه السطور رحلته، مع الكتابة في الثالثة والعشرين، حيث أصدر له المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية بمصر أول كتاب، وكان هذا الكتاب نصاً مسرحياً بعنوان "سفينة نوح الضائعة"، دارت أحداثه حول جماعة أرادت أن تنجو من الفناء، بعد أن دمرت الحرب النووية حضارة البشر. بيد انهم يكتشفون –بعد نجاتهم- أن الإنسانية لا يمكن أن تنطلق مجدداً من نقطة "الصفر" النظيف. فنقطة الصفر هذه لا شك محملة بكل الخبرات السلبية للتاريخ، وهو ما يشير إلى أن الإنسانية مهددة بالانقراض، لا بسبب تهديد أسلحة الدمار الشامل حسب، بل وأيضاً لقصور منظوماتهم القيمية عن تحقيق السلام العادل فيما بينهم. لماذا؟ ذلك هو السؤال الذي حاول الكاتب، في ورشة عمله الخاصة التي أنتجت ستة وعشرين كتاباً، عبر السنوات الأربعين التالية، أن يجيب عنه. وهاهو ذا صاحبنا، وقد بلغ الثالثة والستين، يرى نفسه لا تزال ضاربة في التيه، كلما أمسكت بشيء، أفلت هذا الشيء من بين الأصابع، مثل فرس الضوء الجموح، وكلما عادت إلى موضع في النهر وجدت الموضع قد اختفى مع التيار المتدفق أبداً. وهكذا فإن كل ما ظنه صلباً رآه يذوب في الهواء. وأما القيود التي نجح في نزعها فقد حلت محلها قيود من نوع جديد. ومع ذلك، علمته الكتابة، وهي خير معلم بحسبانها توتراً خلاقاً بين التأمل والممارسة التي تتحدى اليأس، علمته أن الشعر ليس مجرد صور، وألفاظ، وموسيقى تعبر جميعاً عن أحاسيس القائل، بل هو –أي الشعر- كشف واقتحام وخلق، كما علمته الكتابة أن المسرحية ليست تمثيلاً لحدث ذي حبكة، وشخصيات تتصارع (في الغالب على السلطة والثروة) بقدر ما هي تواصل إنساني، ودعوة للـ.. "الأنا الآخر" أن يشارك "الأنا" في إبداع المصير المرغوب (وليس المصير المكتوب سلفاً) وعلمته الكتابة ثالثاً أن الفكر ليس تأملاً سكونياً أو بناءً نقيمه لنسكن فيه ونستريح، وإنما هو بناء وهدم، ثم بناء جديد وهدم.. دواليك. إنه –أي الفكر- فعل دائب التغير، مواز لحركة الطبيعة التي تتبدل ذاتياً بفضل منتجاتها غير الواعية (=المادة في جدليتها) أو بفضل منتجها الأخير الواعي (=الإنسان) وعليه فإن ما تعلمه الكاتب من الكتابة ليس بالذي ينسى أو يهمل. ومن ثم فإن مشروعه الثقافي الذي تحدد بالذات في المسرح الشعري، إبداعاً ونقداً، يمكن أن يعد أساساً لفلسفة مستقبلية، قوامها ذلك الأمل الغامض الذي حملته لنا الفيزياء الحديثة حين تقول إن كل القوانين الكونية (=الضرورة) تتعطل داخل الثقوب السوداء (=الصفر) وهو ما يعني أن الحرية ممكنة، ولو نظرياً. حين ينظر الكاتب إلى مسرحيته الشعرية "حتشبسوت بدرجة الصفر" بنظرة نقدية، فإنه يستبين ذلك المعنى، حين يرى انبعاث إنسانية صاحب السلطة (حتشبسوت) من خلال فقدانه لها، موت الكائن إذن لا يعني ذهابه إلى العدم، فغيلان الدمشقي يصلب ويموت دفاعاً عن مبدأ الحرية، وفكرة الاختيار، بيد أنه لا يصير عدماً، فهاهو يبعث في المسرحية الشعرية التي فاز بها الكاتب بجائزة الدولة، أي أن الميت غيلان قد أهدى كاتبه جائزة، بل أهداه الحياة ذاتها كشاعر، وكمسرحي. ليس هذا حسب، وإنما علمه أيضاً، بينا هو على الصليب الدرامي، ألا يركن على يقين قاطع، حتى وإن كان يقيناً متفائلاً، فالحرية التي آمن بها تلميذه "صالح". تتعرض للنقد من غيلان الذي يصرح بأن كل ما حدث لهما، وما جرى إنما هو قدر الله، دون أن يعني هذا تأييداً للأشاعرة، أو إجهاضاً لجنين المعتزلة. بل يعني فحسب التحذير من غواية الأيديولوجيا، الأفعى التي تبدل كل آونة إيهاباً. فالضرورة لا شك فيها، ولكنها ليست مطلقة، لأن الحرية مجلى من تجلياتها. وعليه فإن محاولة فرض عقيدة بالقوة، حتى ولو كانت عقيدة تنادي بالحرية، إنما هي محاولة فاشلة، تقود إلى نتائج إجرامية. صور الكاتب هذا المعنى في ديوان امتحان احمد بن حنبل، الذي ضربه "المأمون" بالسياط إلى حد التلف ليقر بأنه حر! بينما كان على "الإمام" أن يمارس الحرية الحقيقية برفضه الانصياع لمطلب السلطة الأيديولوجي. وفي مسرحية "آخر أيام إخناتون" راح الشاعر يؤكد هذا الموقف بفضحه أسباب التوحيد الديني الذي أراد الفرعون أن يفرضه، موضحاً أنها أسباب محض سياسية، غايتها حماية الإمبراطورية بوسائل فوق عسكرية. ويتردد هذا الوعي بأكثر من تيمة شعرية درامية في مسرحية "مقتل هيباشا الجميلة" حيث نرى الرهبان المتعصبين لعقيدة –كانت سمحة في الأصل- يقودهم هذا التعصب إلى اغتيال عالمة وفيلسوفة، لا لشيء إلا لأنها مختلفة، تؤمن بالعلم، لا بالميتافيزيقا، وبالإنسان سيداً لمصيره، وليس بالإله الذي يحركه مثلما تحرك الآلة، فهل كان إلحاد هيباشا سلباً Negation أم كان إيماناً من نوع مختلف، يرقى إلى غاية الدين الحق؟ في مسرحية ليلة زفاف إلكترا، يصطدم الفرد (الذات التي لا يمكن أن تستبدل أو تعوض) بالنظام الشمولي Totalitarianism الزاعم أنه يحقق غاية التاريخ بسحقه لكل معارض يقف أمام هذه الغاية "النبيلة"! والحق أن الفعل الدرامي الشعري في المسرحية إنما يكشف عن العكس، فالماركسية التي إنبعثت كفلسفة تحرير لم تلبث إلا قليلاً حتى تحولت –بفعل الدولة- إلى أكبر عائق أمام نبل الغاية. ألا يذكرنا هذا بقول يسوع: "خلق السبت للإنسان، ولم يخلق الإنسان للسبت"؟ في ديوانه الأول "حصان على صهوة رجل" كان الشاعر قد بدأ يستبين حجم التناقض بينه وبين رفاق من الستالينيين والجدانوفيين، بل وحجم التناقض الهيكلي في مقولة "المركزية الديموقراطية" التي تقوم عليها فلسفة التنظيم الثوري، الفلسفة التي يعكر عليها كونها تعض ذيلها، وتلتهم لحمها، فالبروليتاريا التي تصوّرَ ماركس أنها القوة المؤهلة لإنهاء الصراع الطبقي، والتي حلم إنجلز بأنها حين تُقيم دولتها فإنها تعمل في نفس الوقت على إلغائها، تلك الطبقة، ما كان لها أن تقود، فهي برأي لينين، لا تملك الوعي، ومن الضروري أن يأتيها الوعي من خارجها، أي من الأنتلجنسيا "الثورية"، فالحزب الشيوعي يُعبر عن العمال، لكنه ليس العمال. وهكذا كان على لينين لأسباب واقعية أن يتخلى عن أحلام ماركس التي فصّلها لينين عام 1917 في كتابه "الدولة والثورة" معلناً عام 1921 عن سياسة اقتصادية جديدةNEP تجعل من الانتلجسينا مع الوقت طبقة برجوازية بيروقراطية (هي التي قادت الاتحاد السوفيتي إلى نهايته عام 1987) وبموجب تلك السياسة الاقتصادية "الواقعية" أُركب الحصان على صهوة الرجل إلى أن جاء الوقت الذي أسقط الرجل الحصان عن ظهره، لنعود من جديد إلى المربع رقم صفر. لا يؤمن الكاتب بنظرية المؤامرة التاريخية، لأنها تتجاهل الشواهد المؤكدة على وجود بُنى موضوعية تحيط بالأفراد، والأنظمة الاجتماعية، والسياسية. نعم، قد تشغل المؤامرات حيزاً غير منكور داخل هذه الأبنية، خاصة في هياكل السلطة، لكن ذلك يقع كتكتيك يساعد الاستراتيجيات التي تعمل علاقات الإنتاج على تحقيقها بوعي أو بدون وعي. فالانتقال من حياة الصيد والقنص إلى الزراعة Culture (=الثقافة أيضاً) لم يكن ليحدث إلا لضرورة تتجاوز رغبات الأفراد أو مقاومتهم. كذلك الانتقال من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي، ومن الصناعي إلى ما بعد الصناعي Post-Industrial، وهلم جراً. وفي مسرحية "بسماتيك وبسماتيك" فإن مؤامرات القصور، والمؤامرات المضادة، ربما تكون قد ساعدت على إسقاط النظام الفرعوني. لكن العوامل الموضوعية كانت الفاعل الرئيس، فالنظام الفرعوني قام على أساس النمط الآسيوي للإنتـــاج Asiatic Mode Of Production ، وهو نظــام يجمـد التطــور، ويــــؤذن بالانهيار، ذلك ما حدث فعلا في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، لم تنفع ولم تشفع معه بطولة بسماتيك آخر الفراعنة، فجاء استشهاده تعبيراً عن تراجيديا الحياة الموت في مركب ديالكتيكي لا ينفصم، فالأبواب التي أغلقت في العصر الفرعوني، سرعان ما انفتحت أمام ثقافات مختلفة وافدة، فارسية وإغريقية ورومانية ثم عربية إسلامية، الأمر الذي جعل لمصر قدرة فذة على امتصاص الثقافات، والتفاعل معها. وفي مسرحية "السلطانة هند" سنرى كيف قاومت مصر الإسلامية سطوة "القابال اليهودي" الذي كاد أن يتسلل إلى عقول المماليك، وفي مسرحية "الشريفة بنت صاحب السبيل" سنرى كيف تصدت امرأة مسلمة سنية لفكر شيعي يؤمن بالغنوص Gnosis ممثلاً في "إمام" مستور، تقول عنده جماعة من الشيعة أنه لن يظهر إلا إذا ذبح من أجله طفل (تصادف أنه قبطي) فحين يعود الإمام المستور تنتهي المجاعة، وتغاث الأمة، وترفع الغمة! أما الشريفة فترى أن أمة تنجو عن طريق التضحية ببريء واحد، إنما هي أمة لا تستحق العيش، وخلال الصراع هذا تنقسم الدولة من القمة إلى القاع، وتنكشف المؤامرة، وتنفضح الخرافة. وتخرج مصر من الأزمة "شريفة" طاهرة الذيل، تحتضن أقباطها ومسلميها مثل أم رؤوم. في كتابه "سوسيولجيا المسرح الشعري في مصر" والذي نشرت كل فصوله في مجلتي "المسرح" و"تحديات ثقافية" وجريدة "التجمع"، يتابع الكاتب أسباب غياب الدراما الشعرية عبر العصور، أو ظهورها في العصر الحديث، كائناً ضعيفاً، وذلك من خلال منهج سوسيولوجي يرصد أنماط الاقتصاد، وتكوينات السياسة، ومعطيات الثقافة وعلاقتها بالإبداع الفني، لا سيما الفنون الدرامية. وقد يجيب هذا البحث عن سؤال كثيراً ما يتردد في أوساط النقاد والباحثين: "لماذا يأخذ المسرح الشعري مادته –غالباً- من التاريخ، والأسطورة والتراث الشعبي؛ بأكثر مما يأخذها من أحداث الزمن الحاضر؟" والإجابة أن تلك العناصر الثلاث إنما هي في ذاتها تمثيل Representation أو هي معادل فني للواقع المـَعيش. ذلك لأن الواقع الراهن لا يمكن أن يصلح بحالته "الهيولية" Chaos المشتتة (الآن) ليكون مجالاً للإبداع، ما لم تتم إعادة ترتيبه وتشكيله وبناؤه بواسطة حبكة فنية Artistic Mythos تنظم عناصره. وآية ذلك أن المسرحية المسماة خطأ ً بالواقعية، ليست هي الواقع، بل هي تقليد فني له، مع إدراكنا أن التقليد الفني ليس مجرد صورة فوتوغرافية، بل صورة ترسم بريشة الفنان الشعرية، ومن ثم يقع الفنان وريشته موقع "المصفاة" ما بين التراب والتبر، أو قل بين الجوهر والعرض. على أن الشاعر في القصيدة يبدو واضحاً، موجوداً بذاته، وكأنه يقول لسامعيه: هاأنذا. بينما تتراجع ذاتيته وتنحسر في المسرحية الشعرية، فلا يبق منه سوى تلك الريشة الشعرية، تعمل عملها، وتنسج نسيجها، فتبدو الحبكة المصطنعة وكأنها مصفاة ثانية، تحجب الشاعر، كي تسمـح للشعـر وحــده أن يكـون الممثلRepresentative للـغة، صانعة العالم الإنساني. هذا الممثل هو العنصر المعنوي الموضوعي الذي تستغرب له الحواس، مثلما تستغرب الأذن لسماع المقطوعة الموسيقية المؤلفة. غير ان الحواس ما تلبث أن تألف تلك الموسيقى المؤلفة، لأن شيئاً فوق الحواس Meta-sense يتوق إليه، ويتقبله، وينهل منه. هكذا الحال مع المسرح الشعري، الذي يسعى لتمثيل الواقع بمستوياته المختلفة: الأسطورية، والتاريخية، والأحداث الراهنة، وكأنه سفير فوق العادة، مهمته أن يسمع ما يقول الآخر الذي هو مراد التاريخ، أو جوهر الأسطورة، أو معنى الواقع، ثم يعود إلى قومه "وكأنه هرمس بشري" مترجماً له ما سمع، ومستخدماً في ترجمته لغة، ليست بالضبط ما سمع، وليست هي بالضبط ما يقول. ذلك لأن هذه اللغة الشعرية الدرامية -من جانبيها- محض تمثيل للجوهري وللحقيقي في عالم الأشياء بقدر ما هي تمثيل للجوهري وللحقيقي فيما يتغياه البشر. لا غرو إذن أن تنعكس هذه الأفكار وهذه التأملات غير السكونية، بل الممارساتية بفضل الكتابة، على حياة الشاعر وعلى منتجه الفكري والفني بعامة. فهاهو ذا على المستوى الحياتي يود لو يعيش أكثر، ليدرس بعمق الشروط الأبستمولوجية التي يسمح توفرها بالتحرر من النظام الرأسمالي العالمي المدمر للبشر وللكوكب، محاوراً –أي الكاتب- أعمال ألتوسير، فليرشتين، وجوندر فرانك، وسمير أمين ومحمود أمين العالم ومترجماً نتائج هذا الحوار إلى لغة الدراما الشعرية (ويا لها من مهمة!)، مدركاً أن جوهر الدراما هو الصراع الدائم بين سبارتاكوس والقيصر، مهما تتغير الأقنعة والأنظمة والعصور. فإذا كانت الضرورة قد سمحت للقيصر أن ينتصر حتى الآن، فإن الشعر، قد فتح أمامنا باب الأمل في إمكان تحقق الحرية، ولو بالموت في سبيلها، مثلما فتحت الثقوب السوداء باب الضرورة الموصد أمام المادة، التي تتحرر بموتها من الصلابة والعتامة والعطالة. الآن لم يعد الموت مخيفاً، فالموت حالة من حالات الوجود لا العدم، وما دام "الله" موجوداً فلا يمكن للعدم أن يكون. دعنا إذن نكتب الجديد دائماً، حتى إذا جاءنا الموت.. نسلم الروح كاتبين. *** في الصفحات التالية سوف أحاول تقديم ملحق، ألخص فيه المسرحية الشعرية "هل أنت الملك تيتي؟" والتي صدرت طبعتها الأولى عن دار "الصديقان" بالإسكندرية عام 1998، وأصدرت الهيئة العامة للكتاب الطبعة الثانية عام 2000، وسأقدم ملحقاً ثانياً يتضمن آخر قصيدة كتبتها مع مطلع عامنا الحالي 2005، وكما أبنت من قبل فإن المشوار لا يزال طويلاً، والابداع رهين المحاولة. الملحق رقم (1) ملخص مسرحية : هل أنت الملك تيتي؟ يذكر التاريخ أن تيتي كان قائداً عسكرياً إبان حكم الفرعون أوناس آخر ملوك الأسرة الخامسة التي امتد حكمها من عام 2560 ق. م. حتى 2480 ق. م. ثم تولى هذا القائد تيتي الحكم مؤسساً للأسرة السادسة، غير انه اختفى في ظروف غامضة بعد أعوام قلائل من توليه السلطة استبدل فيها عبادة الإله بتاح بعبادة الإله رع. المؤرخون الرسميون، وهم في العادة، موظفون لدى الحكام، ليس مما يعنيهم استخلاص الدلالات، خاصة تلك التي تشير إلى إنقطاعات ثورية عبر تاريخ راكد يسيطر عليه نمط إنتاجي آسيوي لا يفرز غير الطغيان لضمان استقرار الطبقات الحاكمة. الإبداع في المسرح الشعري قادر على ما عجز عنه التأريخ الرسمي، فما معنى قيام أحد الفراعنة الجدد بإزاحة الإله رع (إله الدولة التقليدي) وتنصيب إله آخر "بتاح" الذي هو رب للصناع والزراع؟ ألا يعني هذا تعبيراً عن إنقلاب ثوري، إنحاز فيه قائد -جاء بإنقلاب عسكري كما يبدو- إلى الطبقات الكادحة؟ وألا يؤكد هذا الظن إختفاء هذا الفرعون بعد سنوات قلائل في ظروف غامضة؟! وماذا تكون هذه الظروف إن لم تكن الاغتيال السري؟! تحاول هذه المسرحية الشعرية الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها من خلال إعادة بناء الأحداث في ضوء الأساطير التي حكيت حول الهرم الأكبر (وهي أساطير وليست خرافات) فضلاً عن الخيال الإنساني الذي يعتمد لا على ما كان (من يمكنه الجزم؟) ولكن على ما يحتمل. في بداية المسرحية نرى رئيس الشرطة "إمري" (وهو خال الفرعون الجديد) يدبر مؤامرة لاغتيال "تيتي" أثناء زيارته إحدى القرى. وقد رتب "إمري" قاتلاً محترفاً لهذه المهمة، وقاتلاً محترفاً آخر لقتل الأول فور تنفيذ مهمته، لقطع خيط التحقيق. ونعلم من حواره مع مساعده أن النخبة الحاكمة ضاق صدرها بتصرفات تيتي فهو رجل لا يتوقف عن وضع مشاريع هدفها محاربة الفقر، وغايتها تعميم المعرفة (-القوة) بين الجماهير الشعبية، وكسر احتكار الكهنة لهذه المعرفة. هذه المشاريع من شأنها العصف بامتيازات الصفوة. ومن هنا فلقد تحركت الصفوة للتخلص منه، فشكلت فيما بينها تنظيماً سرياً يقوده "إمري"، ومعه الأميرة "سينو" (شقيقة زوجة الفرعون) ومعهما "فرجل" رئيس قضاة المحكمة العليا، إضافة إلى كبير كتبة القصر "هيجا". يتوجه القاتل المحترف بطعنة خنجره غلى صدر الفرعون، لكن يحدث أن قروياً يراه، فيندفع متوسطاً بين الاثنين حيث يتلقى هو الطعنة في فخذه. وبسرعة يعطي "إمري" الإشارة للقاتل المحترف الثاني الذي يتخلص من الفاعل فوراً. وإذ ينصرف تيتي بعد نجاته، يختلي المهندس الممدوح –رجل من حاشية الفرعون- بالقروي "شيحا" يحدثه ويعالجه. فيدهشه شده شبه هذا القروي بالفرعون. لكنك سوف تصبح أعرج يا صديقي فالطعنة طالت العظم في العمق. هكذا يقول الممدوح عارضاً صداقته على "شيحا". وإزاء فشل عملية الاغتيال تلجأ الأميرة "سينو" (وهي طبيبة بارعة) إلى أسلوب القتل بالتدريج. فلقد استوردت نباتاً من ليبيا اسمه (الأسيار) له خصائص عجيبة، فهي تقطر منه قطرات كل يوم في شراب الفرعون، من شأنها الإسراع به نحو الشيخوخة تمهيداً لموته. "تيتي" يعلم أن وريثه (ابنه وسر كارع) فتى غبي لا أمل فيه، وإذ يشكو همه للممدوح موضحاً له أن مشروعه لتعليم الشعب مقرر له الضياع بمجرد أن يموت. أنظر لقد حطمتني الشيخوخة حتى أنني لا أستطيع السير مستقيما، لقد أصبحت أعرج دون سبب واضح. فهل من أحد يمكن أن يتولى الأمر من بعدي؟! هل يمكنك أنت ذلك؟ هنا تبرق الفكرة في رأس الممدوح. الشبيه الأعرج. وما أن يعرض الفكرة على الفرعون حتى يتقبلها، وفي موضع البؤرة من الهرم الأكبر يضع الفرعون شبيهه لليلة كاملة، يخرج بعدها القروي "شيحا" وقد تفتحت مواهبه وتضاعف ذكاؤه. يوصي تيتي –قبل أن يختفي داخل الهرم- شبيهه الذي سوف يعتلي العرش باسمه، يوصيه أن يستقدم أفراد الشعب إلى نفس البؤرة ليخرجوا منها وقد امتلئوا بالطاقة، ليصبحوا فلاحين مهندسين، وصناعاً علماء، وموظفين مثقفين لا مجرد بيروقراطيين جامدين. هكذا سوف يتغير وجه الوطن. حين يعود "شيحا" (في هيئة تيتي الفرعون) يذهل النخبة بشبابه الذي عاد إليه –عدا العرج- وبقدراته الجديدة على إحباط كل مؤامرة. وبسرعة يكتشف "شيحا" سر الأميرة "سينو"، فإذا به يذيقها من نفس الكأس، وبمعاونة الممدوح يسقيها من عقارها جرعة مكثفة فتتحول عجوزاً في التسعين، وأما "إمري" فيـُسرب إليه نبوءة تقول إنه يستطيع تولي العرش إن ضاجع عجوزاً في داخل بؤرة الهرم الأكبر، فيستدرج "إمري" الأميرة "سينو" إلى هناك حيث يضاجعها فتقتله هي وتموت. فهل تخلص الفرعون الجديد من اعدائه؟! أبداً، فالجماهير التي عمل شيحا والممدوح على إيقاظها من نعاسها العقلي، تندفع ثائرة تبغي قتل من دنسوا الهرم المقدس!! تفعل الجماهير هذا تحت تأثير المنظومة العقائدية الموروثة والتي عزف على أوتارها الكاهن الأكبر "شورع" (هل نتذكر أطروحة ماكس فيبر Max Wieber؟!) وهكذا يـُـقتل "شيحا" والممدوح، ليظهر الملك تيتي وحيداً داخل الهرم ليعلن أن الحلم لا يقتل، وأن المستقبل لا يزال حاملاً في طياته أمل التغيير، وإمكانيات التبدل. فأحداث الحاضر ليست إلا دروساً نتعلم منها لأجيالنا القادمة. الملحق رقم (2) بطاقة اخرى لطرفة بن العبد يضيع قصيدي في كتاب التعود ِ سواء أكنت أضِـلُّ أم كنت أهتدي وكنت تحاميتُ العشيرة َ كلـَّها وأخلفتـُها مثل البعير المـُعـَبـِّد ِ لأني أرى وهماً معاشي بأسره ِ فكيف أضم الشـِعر والوهمُ في يدي ** صاحوا: من هذا الوغــد ُ فقلت : الضـدُّ، وميلادي الفقــدُ ونوعي جـَزْرٌ لا يعقبه المدُ ومعتقدي لمــَّا يعرف بعــدُ وفلسفتي تبحر في ظلمات ٍ ليس تـُحـدُّ يلاقيها الأعمى الحــرُّ، ويتجنبها الأعمى العبدُ وعنواني في إقليم التيه علامته ُ السهدُ وشارعـُه الوجدُ، وبيتي أحكمـُه برتاج ٍ لا ينفع ليلاً، أو يشفع عند الأوصاب ِ نهارا ً فأراني أستقبل ُ رغم الأنف ِ الزوارا ... ... ... والزُوَّارُ الخونةُ أعدادُ أعدادُ مقتُ مخفيّ ٌ تفضحه في اللفتاتِ الأجســادُ وهدايا صُـرَّادُ ( ) فتنزف من مرآها الأكبادُ وأيادٍ حين أصافحها أصفادُ وخُطى عسسي ٍّ وتقاريرُ وجلادُ والتهمة ُ : أنك لم تذعن قط ُّ بينا أذعن من قبلُ الأجدادُ ** مذ أنشد المـُعَّـلقــَة ْ والبيد فينا تضخ اليقين بقراتٍ لا تأكلهن سبعٌ عجاف فلماذا تأكلني الأرَضَة ُ، فأرى: عـُنـَيـْزَة َ المليحة خريدة َ اللهيب والندى والنشــوة ِ الغامضة الصريحة في وغرة ِ الهجير تمرق من مداخل الجمارك المفتوحة تساوم المأمور وتنتقي لأجلنا البضائع المفضوحة هذا كتابٌ ليس يرجو غيره الأمير وهذه برامجُ الوقاية من Virus التفكير أما النصال ُ الصُـمُّ والصوارمُ المطيحة فتـُكتـَرىَ لأرؤوس ٍ تناطحُ الصخور ... ... ... ولعـُنيزة َ بعد هذا مآربُ أخرى مثل القمح والإسمنت ِ والدواء فمن تـُرى يبادل اليقينَ بالبنزين في بورصة الأشياء ؟ ** من زَوَّرَ الشعرا وخمَّ بالإحساس وصَلـَّـب الطيرا فزَّاعة ً للناس ** سألت عن طليق ٍ في المدى، عساه يكون صاحبا ً في القرب والبعاد فقيل : ذاك البحرُ فليس فيه خيمة ٌ تُـربط بالأوتاد لكنه رسول هذا الكون والفساد وقيل عنه : عابث ٌ يجذب شَعْـرَ الدهر في الرواح والغـُدُوّ ويـُبْـدِلُ الأســيادَ بالعبيدِ والعبيدَ بالأسياد يصاحب القرصانَ في المتاه ويـُغرق السفائن التي تجنح للرسـوّْ وهكذا أحببتُ هذا اللاعب العدوّْ بالسمع ِ، حتى دون أن أراه فهل ترى أظل في المكان سابحا ً وليس غير السـِقط من أمواه ( ) وهل ترى أظل بالكلام نابحاً فيما أرى مصاعدَ الصبا تهبط بي في الحال للشيخوخة لأبلغ النهاية المخيفة من قبل ِ أن تذوق َ طـَعْـمَ الموج ِ هذه الشفاه ؟
#مهدي_بندق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مكابدات الحداثة في المسرح الشعري
-
الطابع المزدوج للثقافتين الأوروبية والعربية
-
2 البلطة والسنبلة .. التراث الفرعوني ومساءلة الأساس
-
لا أنت غيثٌ ولا القومُ يستنكرون الظمأ - قصيدة
-
البلطة والسنبلة.. إطلالة على تحولات المصريين1
-
مشروع الإسلام السياسي وثقافة الأساطير
المزيد.....
-
العثور على قط منقرض محفوظ بصقيع روسيا منذ 35 ألف عام.. كيف ب
...
-
ماذا دار خلال اجتماع ترامب وأمين عام حلف -الناتو- في فلوريدا
...
-
الإمارات.. وزارة الداخلية تحدد موعد رفع الحظر على عمليات طائ
...
-
صواريخ حزب الله تقلق إسرائيل.. -ألماس- الإيرانية المستنسخة م
...
-
كيف احتلّت إسرائيل جنوب لبنان عام 1978، ولماذا انسحبت بعد نح
...
-
باكستان ـ عشرات القتلى في أحداث عنف قبلي طائفي بين الشيعة وا
...
-
شرطة لندن تفجّر جسما مشبوها عند محطة للقطارات
-
أوستين يؤكد لنظيره الإسرائيلي التزام واشنطن بالتوصل لحل دبلو
...
-
زاخاروفا: -بريطانيا بؤرة للعفن المعادي لروسيا-
-
مصر.. الكشف عن معبد بطلمي جديد جنوبي البلاد
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|