دور -الأنجزة- في خدمة القوى الرأسمالية وإجهاض المقاومة الشعبية السياسية
جهاد عقل
2021 / 8 / 20 - 18:07
مقدمة
عندما قرأت مقال («الأنجزة» والمقاومات الشعبيّة)، للكاتبة والروائية المناضلة الهندية آرونداتي روي، والذي نشرته المجلة الفصلية اللبنانية "بدايات"، ضمن ملف خاص بها، تناولت فيه ظاهرة الليبرالية الجديدة (النيوليبرالية)، شارك فيه العديد من الباحثين، تذكرت حادثة كنت شاهدًا عليها في تسعينيات القرن الماضي، وهي استقبال "رفيق" فلسطيني زارنا في مقر الحزب الشيوعي – الدائرة النقابية -، اتضح لنا أن هدف الزيارة كان تقديم اقتراح لنا بتشكيل "منظمة غير حكومية"، تعتمد على تمويل من دول أوروبية، نقوم من خلالها بالدفاع عن العمال، كان ردّنا يومها أن تقديم الدعم للعمال يجب أن يكون من خلال تنظيمهم نقابيًا، لأن هذا التنظيم يضمن وحدتهم وقوتهم في مواجهة الرأسمالية.
لكن الـ"رفيق" واصل الدفاع عن اقتراحه، مقدمًا لنا العديد من الأمثلة، لما يحصل عليه هو وجمعيته أو منظمته، من تمويل أوروبي "ضخم" مقابل ميزانيتنا نحن المحدودة، في محاولة منه لإغرائنا بالموافقة على مشروعه. خلال نقاشنا الذي اتخذ في بعض الأحيان، حدة ما وبصوت عال، صادف أن مرّ من أمام المكتب الرفيق توفيق طوبي الأمين العام للحزب الشيوعي يومها، طيب الله ذكراه، وقد سمع بعض النقاش، وما قلته للـ"رفيق" الفلسطيني من موقفنا بخصوص اقتراحه بالعمل ضمن منظمة غير حكومية، مدعومة من دول أوروبية، توقف الرفيق توفيق طوبي على مدخل المكتب وبهدوء قال بما معناه: "أيها الرفيق نضالنا نحن هو نضال سياسي ضمن حزب سياسي يقود القوى الشعبية والطبقة العاملة، يعتمد على دعمها فقط، وما تقترحه علينا هو خدمة لدول رأسمالية لها سياساتها وأهدافها التي لا تتوافق مع نضالنا ضد الاحتلال والقوى الرأسمالية الداعمة له".
هذا الموقف اتضح أنه يتماهى مع ما جاء في مقال الكاتبة الأممية آرونداتي روي، من خلال رؤيتنا السياسية، بخصوص ظاهرة "المنظمات غير الحكومية" (بالإنجليزية Non-governmental organization واختصارها NGO)، رغم تفهمنا لجهود بعض القائمين على عدد قليل من هذه المنظمات، إلا أنهم أرادوا ذلك أم رفضوا، فإن المحصلة النهائية لهذه الظاهرة هي المشاركة في تنفيذ المشروع الرأسمالي النيوليبرالي، الهادف إلى إجهاض النضال السياسي الشعبي وإضعاف قوى اليسار والمقاومة الشعبية من جهة، واستخدام باحثين في القيام بأبحاث تخدم مصالح تلك الدول من جهة أخرى بالرغم من الاستفادة من تلك الابحاث في بعض الحالات محليًا.
"إذا رأيت نيابَ الليث بارزةً
فلا تظننّ أن الليثَ يبتسمُ"
بهذا القول تفتتح الكاتبة آرونداتي روي مقالها التحليلي لظاهرة "المنظمات غير الحكومية" وتشير إلى أصول هذه الظاهرة بأنها بدأت في "ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته بما هي عنصر في المشروع النيوليبرالي"، الا أن "المصطلحNGO ظهر في عام ٢٠٠٤". وتؤكد روي عن قيام النيوليبرالية بدفع ودعم الأنجيووز معناه حدوث ثمة خطر يواجه الحركات الشعبية هو أنجزة المقاومة، الأمر الذي يتماهى مع أهداف المخطط النيوليبرالي.
كي لا تُخلط الأوراق أو يُفهم من هذا المقال بأنه إدانة لجميع نشاطات الجمعيات غير الحكومية والقائمين عليها، نقول وتقول أيضاً آ. روي: "بالتأكيد توجد أنجيووز تمارس عملاً قيّمًا. لكن من الأهمية بمكان أن نشيح النظر عن العمل الإيجابي الذي تقوم به أنجيووز إفرادية، لننظر في ظاهرة الأنجيووز في إطارها السياسي الأوسع". وفي هذا تأكيد على وجود البعض ممن يقومون بنشاطات قد تساعد البعض من المجتمع، لكن نظرتنا لا يجب أن تحدد في بعض هذه الظواهر بل النظر إليها بنظرة شمولية، تعي من هو الذي يقوم على التمويل وما الهدف منه، فهل قيام وزارة الخارجية الأمريكية بتمويل منظمة غير حكومية تنشط لدى أقلية مُستَغَلّة من قبل حكومتها وتلك الحكومة وسياساتها مدعومة من الولايات المتحدة، هل هي حقًا تقوم بالدفاع عن حقوق الأقلية أم مجرد ورقة توت تحاول بها ستر عورة سياستها؟ بالإمكان وفي هذا السياق تقديم الكثير من هذه الأمثلة التي تؤكد على ازدواجية المواقف.
يؤدون دور «الرجل العاقل» في حرب ظالمة وغير عاقلة
عن ذلك تكتب آ. روي مع تساؤل عن تلك الأهداف التي تضمرها الحكومات وقوى رأس المال بدعم المنظمات غير الحكومية ما يلي: "لماذا تضطر تلك الأجهزة إلى تمويل الأنجيووز؟ هل هو الحماس التبشيري العتيق إياه؟ أم تراه الشعور بالذنب؟ إنه أكثر من ذلك بقليل".
"تعطي الأنجيووز الانطباع بأنها تملأ الفراغ الذي تتركه دولة منسحبة. وإنها كذلك ولكن بطريقة قليلة الأثر من الناحية مادية. تكمن مساهمتها الحقيقية أنها تبدّد الغضب السياسي وتتصدق بالمساعدة أو بالإحسان لما يجب أن يعود للشعب بما هو حق من حقوقه. إنها تعدّل نفسية الجمهور. وتحوّل النّاس إلى ضحايا اتكاليين وتثلم نصل المقاومة السياسية. إن الأنجيووز نوع من الواقي من الصدمات بين الزعيم والجمهور، بين الإمبراطورية ورعاياها. لقد أمسوا الوسطاء والمترجمين والميسّرين للخطاب السائد. يؤدون دور «الرجل العاقل» في حرب ظالمة وغير عاقلة.
والأنجيووز في المدى البعيد مسؤولة تجاه مموّليها وليس تجاه الناس الذين تعمل بينهم. إنها ما يسمّيه علماء النبات «الدّالة على النوع». فكأنما كلما تفاقم الخراب الذي تحدثه النيوليبرالية تفاقم تفريخ الأنجيووز. وليس من مشهد أشدّ إيلامًا من مشهد الولايات المتحدة وهي تتجهّز لاجتياح بلد ما وتجهّز في الوقت ذاته الأنجيووز للدخول وتنظيف الخراب.
للتأكد من أن تمويلها مضمون وأن حكومات البلدان حيث تعمل تسمح لها بالعمل، على الأنجيووز أن تعمل في بلد اجتاحته الحرب أو الفقر أو جائحة أو أوبئة، ضمن إطار سطحي منزوع إلى هذا الحد أو ذاك عن أي سياق سياسي أو تاريخي، وفي كل الأحوال، منزوع عن سياق تاريخي أو سياسي غير ملائم. ليس عن عبث أنّ «المنظور الأنجيووزي» يحظى بالمزيد من الاحترام".
كما تؤكد آرونداتي روي أن منظمات "الانجيووز" تظهر وكأن المجتمعات الاخرى في الدول الفقيرة والتي سكانها من أصحاب " اللون الداكن" على حد تعبيرها هم: "بحاجة إلى مساعدة الرجل الأبيض”. أي: "تعزّز الأنجيووز من حيث لا تدري التنميط العنصري وتعيد التأكيد على إنجازات الحضارة الغربية وامتيازاتها وشفقتها (الحب القاسي) وقد خُصِم منها الشعور بالذنب على تاريخ من إبادة الشعوب والاستعمار والعبودية. إنّ الأنجيووز هم المبشّرون العلمانيون في العالم الحديث".
إن الإحسان يوفر إشباعًا للمُحسنين
تختتم آ. روي مقالها هذا بالتأكيد على أن هذه "الأنجزة" تؤدي إلى استخدام سكان محليين لمصالحها، فلولا ذلك لكانوا ناشطين في حركات مقاومة ونضال شعبية وسياسية حزبية ترسم الطريق النضالي لشعوبهم في تغيير الواقع المأساوي الذي تعيشه وتكتب عن ذلك: "في نهاية المطاف، رأس المال المتوافر للأنجيووز يلعب، على نطاق أضيق ولكن بطريقة أكثر خفاء، الدور ذاته في السياسات البديلة كالذي يلعبه الرأسمال المضارِب الذي يتدفّق من وإلى اقتصاديات البلدان الفقيرة. يبدأ بالتحكم بالأجندة فيحوّل المجابهة إلى تفاوض. وينزع العنصر السياسي من المقاومة. ويتدخل في حركات الشعوب المحلية وقد كانت سابقًا تعتمد على نفسها بنفسها. وتملك الأنجيووز من الأرصدة ما يسمح باستخدام سكان محليين لكانوا لولا ذلك ناشطين في حركات مقاوِمة، لكنهم يشعرون الآن بأنهم يمارسون أعمالاً خيّرة مباشرة وخلّاقة (ويكسبون معيشتهم وهم يفعلون ذلك). إن الإحسان يوفر إشباعًا مباشرًا للمُحسنين، كما لمتلقّي الإحسان، لكن آثاره الجانبية قد تكون خطيرة".
المقاومة السياسية الحقيقة لا توفر طرقات مختصرة
عن ذلك تؤكد آ. روي أنه لا يوجد في النضال السياسي "طرقات مختصرة" أو "مقاومة مهذبة مدفوعة الأجر"، وتكتب ملخصة مقالها: "إن المقاومة السياسية الحقيقية لا توفر طرقات مختصرة. وإن أنجزة السياسة تهدد بتحويل المقاومة إلى مهمة مهذبة وعاقلة مدفوعة الأجر بدوام من التاسعة صباحًا إلى الخامسة بعد الظهر إضافةً إلى بعض المنافع المادية الموزّعة هنا وهناك. تقع على عاتق المقاومة الحقيقية مترتبات فعلية. وهي لا تعمل لقاء أجر".
ما جاء في مقال آ. روي بخصوص ظاهرة قامت بتفريخها النيوليبرالية الا وهي "المنظمات غير الحكومية" بحاجة لأن تقوم الحركات السياسية أولاً والبعض من أصحاب الضمائر من الناشطين في هذه المنظمات بمراجعة حساباتهم واستخلاص النتائج، خاصة وأن نشاطات الأنجزة – بمعظمها- ما هي إلا مشاركة في تنفيذ سياسات تخدم قوى الظلم والاستغلال لشعوبهم.