|
الاستدلال بين البرهاني والرمزي
عزالدين غازي
الحوار المتمدن-العدد: 1644 - 2006 / 8 / 16 - 07:17
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يمكن القول بدءا أن محاولات حثيثة طرحت مفهوم الاستدلال كنموذج منطقي صوري وجد في التفكير اليوناني أسس انطلاقه ووجاهة معالجته إلى يومنا هذا . ولكن ما أثار الاهتمام به كثيرا هو ما شهدته التطورات الابيستيمولوجية المعاصرة التي بدأت عنايتها بالبحث في انبثاق "فلسفة طبيعية " معتمدة على المجهودات الرياضية (المفاهيمية والتقنية) وعلى إمكانية نقل هذه المقاربة عبر مفاهيم ابيستيمولوجية بنيت لأداء هذا الغرض إلى ليس فقط الظواهر الفيزيائية بل حتى تلك الظواهر المورفولوجية منها والبنيوية. وإذ نحن على مشارف قرون التكنولوجيا الرمزية بات مجددا اقتحام نموذج الاستدلال الذي به يتم البث في القضايا بصدقها أو بكذبها وذلك بغية الوصول الى النتائج المستخلصة من المقدمات كما بدأت العناية من جانب رمزي لهذه القضايا وليس صوري فقط . وقد أثبتت الدراسات المنطقية والابيستمولوجية على أن الخطاب البرهاني /الصوري لا يعالج قضايا الخطابات الطبيعية التي تتميز بالحالات الممكنة ،أو بالأحرى، أوضاع عوالم ممكنة مرنة القضايا، الا في جانب صغير وضيق. ولذلك ترى أن المنطق المعاصر اتجه إلى جعل الظواهر المورفولوجية من مواضيعه الحساسة ( نظرية التجزيء في الرياضيات ) التي أصبحت تستخدم مناهجها في تطوير مجالات معقدة من حيث بنية أنظمتها والمتداخلة من حيث مكوناتها المعرفية فبدت مع معارف شتى كالكمبيوتر وعلومه والذكاء الاصطناعي وأساليبه ومجالاته باعتبارها انظمة رمزية تستدعي أنموذجا طبيعيا مرنا يصلح لتوصيف ومعالجة الظواهر الطبيعية التي عجزت لحد الساعة علوم صورية عديدة عن الوصف الدقيق لها ولبنياتها وانساقها . هذا موضوع استلهم الفلاسفة منذ ارسطو وبعده فلاسفة المنطق واللغة والوضعين وعلماء الرياضيات والابستيمولوجيا والمنطق واللسانيات الصورية ومعلوميات الذكاء الاصطناعي وعلماء المعرفية...أريد هنا فقط أن أوضح هذا الدور الجديد للمعارف المذكورة و المتمثل في معالجة الأنظمة الكونية المطبوعة بالرمزية كاللغة الطبيعية والخطابات البشرية والتواصل بأنواعه والإبداع الإنساني إنجازا وتأويلا... و مفهوم الاستدلال هذا جذوره فلسفية -منطقية لا محالة ، فهو أسلوب يسلكه كل من المنطق الصوري والخطاب الحجاجي/الطبيعي للتوصل إلى البث في نتائج القضايا ، انه النموذج الصوري البرهاني الذي يشكل أساس بنية الخطاب الطبيعي الذي هو عبارة عن نص أو بناء يتركب من عدد من الجمل السليمة-المحمول والموضوع- مرتبطة فيما بينها بعدد من العلاقات ، وهذه العلاقات قد تكون علاقات مثنوية أو جمعية ، أي بين جملتين أو أكثر ، ثم يمكن أن يكون هذا الربط مباشرا وغير مباشر .وهذا شرط من شروط النص الاستدلالي الذي هو عبارة عن نص اقتراني بحيث أن كل عناصره مرتبطة فيما بينها . وأما ما يجعل من النموذج الاستدلالي بنية استدلالية هو تلك العلاقات الاستدلالية ،وحد علاقتها أنها بنية تربط بين صور منطقية لعدد معين من جمل النص أي بنية نونية مرتبة يمكن صوغها كما يلي : ( صن1 ....صن 2.....صن ن-1 .....صن ن) بحيث يشكل كل صن ( 1اكبر من أو يساوي 2 اكبر من أو يساوي 3) الصورة المنطقية لإحدى الجمل وتدعى المتوالية الجزئية صن 1....صن ن-1 بمقدم هذه العلاقة وصن ن بتاليها و قد يحصل أن يكون النموذج الاستدلالي هذا من الصنف التدريجي الذي تسبق فيه المقدمات النتيجة أو من الصنف التقهقري التي تأتي فيه النتيجة قبل بيان المقدمات. كما قد يكون من الصنف الاظهاري إذا ذكرت جميع الصور المنطقية التي تدخل في بنائه أو من الصنف الاضماري إذا طويت بعض هذه الصور واحتيج إلى ذكرها لتمام بنيته الاستدلالية .كما يكون من الصنف البرهاني إذا كانت علاقاته قابلة للحساب الآلي أو من الصنف الحجاجي إذا كانت علاقاته تأبي الخضوع لمثل هذا الحسابي الصوري. يتبين مماحدد من أصناف الاستدلالات المنطيقية على أنها على نوعين كبيرين هما: أ- اساليب الاستدلال الصوري البرهاني-الصناعي الذي يسهل القيام بحساب مكوناته والوصول إلى نتيجة واضحة من حيث الانتقال فيه يبنى على صور القضايا وحدها اعتمادا على قوانين برهانية خالصة ب- أساليب الاستدلال الطبيعي الذي لا يمكن حساب مكوناته، ذلك انه فعالية تداولية وجدلية وطابعه الفكري مقامي واجتماعي ، الهدف من هذا النمط الاستدلالي هو الاقناع القائم على بلوغ التزام صور استدلالية اوسع واغنى من البنيات البرهانية الضيقة ،هنا القوانين ليست عبارات تحليلية ، لان النتائج فيها ليست مجرد افصاح اواعادة او تصريح بما هو متضمن في المقدمة ، في هذا المستوى تحضر الذات المستدلة في الخطاب لاثبات دعوى او ابطالها بهذا أكون قد بسطت القول في حدود المنهجين الاستدلالي البرهاني-الصناعي والطبيعي-الحجاجي ،فتبين أن علم منطق الحوار المعاصر و مبادئ الابيستيمولوجيا المعاصرة أو أيضا نظريات الرياضيات المورفولوجية وفلسفته المنطق والفلسفة الطبيعية والبراديغم الابستيمولوجي والمعرفية...كلها معارف تتقدم لاستقصاء بنيات الخطاب الطبيعي الموسومة بالمرونة والحدس والعتمة والتي لم يعد ينفع معها أساليب المنطق التقليدي. يدخل هذا الموضوع أيضا ، في إطار ما يسمى الآن بتكامل المعارف وتعددها . فالفلسفة فكر شمولي وهي أم العلوم طبعا ولكن استقلالية العلوم عن بعضها البعض أعاد طرح هذه المرجعية الفلسفية من وجهة نظر ابيستيمولوجيا محضة . فترى في يومنا هذا عند تطور العلوم (سواء منها الدقيقة أو العقلية أو الإنسانية ) دعوة للتوحد لكن بصيغة أخرى وهي إضفاء المشروعية الفلسفية والابيستمولوجية على جميع هذه العلوم حتى تكون رصينة . فتجد ان لكل معرفة علمية مرجعية فلسفية تؤطرها وتشرعنها (إن صح التعبير). أأكد هنا ، وتذكيرا لما سبق ، أن منظومة الكون الموسومة بالأشكال الرمزية والظواهر المورفولوجية التي بدأت تطرح نفسها بإلحاح شديد في الساحة العلمية والتقنية. طرح مفهوم الاستدلال من جديد في الساحة العلمية المعاصرة : أ- لاعادة ربط النظريات العلمية الحديثة.بهذا المفهوم ( الارسطي-اليوناني) الذي شكل العمود الفقري لتاريخ العلوم التي اشتغلت به وتاريخ العلوم شاهد على ذلك طبعا من خلال توظيف المنطق الصوري الارسطي هذا النموذج المنطقي الذي به نستنتج المقدمات الكبرى عبر صور فنحصل على النتيجة فحين ننطلق مثلا من فرضية (مقدمة) أ --- ب وب---ج اذن أ---ج هذه صورة منطقية تطبق على القضايا التي يبث فيها بالصدق والكذب . وحينما وضع أر سطو اورغانونه فإنما أراد أن يضع نظاما متكاملا لهذه الصورة المنطقية في مقولة القياس فسحبها على خطابات أخرى فتجد ضمن هذا الاوركانون فن الشعر والخطابة .. ب- تطور هذا المفهوم عبر تاريخ الفلسفة مع مجموعة من الفلاسفة أمثال ديكارت وكانط وشارل بيرلمان واصحاب الفلسفة الوضعية وعلماء رياضيون متأخرون عليهم. فاصبح بالتعبير الابيستيمولوجي المعاصر نموذجا ( براديغم ) يتم به نمذجة نظريات العلوم وما عليك الا ان تنتقل بينها فتجد أن هيكلها واحد . فان أردت أن تبني نظرية علمية فما عليك الا ان تنمذج وتصوغ (تبسيطا) على منوال نظرية ما ، نظرية اخرى فتقوم بنقل البراديغم لكنك تحتفظ به في جهة ما من نظريتك الجديدة واذاك لا نقول بمفهوم القطيعة الابستيمولوجية كما عند باشلار بل هناك امتداد وتحديد جهوي للبراديغم وهذه العملية لابد لها من اساليب منطقية صرفة تساعدك على هذا البناء النمذجي الجديد . فالنمذجة فيما بين العلوم هي التي تجعل تناسلها سريعا ومتكاملا ومتناسقا ، ونظرا لدور النظريات العلمية في تدقيق الوصف في مواضيعها المدروسة وعلى سرعتها وبداهتها اضحى من الحتمي أن تشمل باقي الظواهر الكونية التي يصعب فك لغزها ،فتجد ان العلوم تتفرع يوما بعد يوم وهذا يتطلب أساليب صورية منطقية ورياضية لمعالجة ما علق بكنه هذه الظاهرة او تلك . وكان على النظريات الرياضية أن تستنجد بفلسفة طبيعية أرادت أن توسع من دائرة ظواهرها، فبعد أن كانت تهتم بكنه وماهية الشيء أصبحت تعنى بأشكال ومورفولوجية وانساق الأشياء في الوجود . من هنا انبثقت رياضيات جديدة سميت برياضيات أشكال الحدس أو بالأحرى نظرية رياضيات الكوارث( théorie des catastrophes) وهي رياضيات جديدة من أهدافها فهم ماهية الأشكال الرمزية للكون ، وما أنتجته المعلوميات وعلوم الذكاء الاصطناعي لخير دليل على تطبيق هذه النظرية من حيث البحث في لانهائية الأشكال الرمزية والتي تثبتها أيضا أنظمة العلوم شتى ( مثلا في علم النباتيات ،على الرغم من تشابه ماهية الخلية ،فان الشكل المورفولوجي لا يمكن أن يكون مماثلا أبدا ورغم المماثلة في البيولوجيا او الفيزياء فإن هناك اختلافا مطلقا من جانب مورفولوجيا الظواهر ) نن نعتقد أن نمذجة المفاهيم التي ما هي إلا تصورات تترجم الحالات التي يغدو عليها وبها الفضاء الكوني في الوجود ، هي إذن شبكة نستطيع بها فهم خبايا مما قد يكون جزءا صغيرا ضمن منظومة عظمى نحن حتما في حاجة إلى جهاز مفاهيمي جديد هو عبارة عن منظار وأسلوب وآلة لاستجلاء ما قد يكون مبهما . وبواسطة مفهوم كهذا (الاستدلال) نختبر هذه الأشكال الرمزية ، ونستدعي حينها أساليب اكثر نجاعة ومرونة من تلك التي تقف عند حد ما وما يثبته الاستدلال الصوري هو البرهنة على القضايا صوريا وليس رمزيا لان ذلك يصطدم بقرائن أخرى حجاجية / حدسية . فالذكاء البشري ليس دائما يهتدي للاستدلال البرهاني بل كذلك للبرهان الحدسي وهو رمزي طبيعي من صميم الأشكال المورفولوجية ومنها اللغة الطبيعية المعقدة بامتياز ومعالجتها تقتضي اعتماد الاستدلال الطبيعي وليس البرهاني ومن هنا أتت مقاربات جديدة مثل هندسة المعرفة وهندسة اللغة. إن موضوع معالجة اللغة الطبيعية هو من هذا الصميم ( باعتباره شكلا رمزيا ونظاما مورفولوجيا ) وإذ نريد هنا التجدر الابستيمولوجي والفلسفي لموضوع ذي أهمية كبرى ضمن أشكال الكون الرمزية (وتشديدي هنا بامتياز على الرمزي ) .
#عزالدين_غازي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اللسانيات الحاسوبية واللغة العربية
-
استخدام اللغة العربية في البرامج المحوسبة : اية استراتيجية ؟
-
خاطرة الحزين في فقدان رجل مناضل جهبذ وبن شهيد حرب الريف
-
الصرافة الحاسوبية العربية: محاولة في التأصيل
-
تكنولوجيا اللغة و الترجمة الآلية
-
الذكاء الاصطناعي : هل هو تيكنولوجيا رمزية ؟
المزيد.....
-
واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
-
انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
-
العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل
...
-
300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال
...
-
زاخاروفا ترد على تصريحات بودولياك حول صاروخ -أوريشنيك-
-
خلافات داخل فريق ترامب الانتقالي تصل إلى الشتائم والاعتداء ا
...
-
الخارجية الإماراتية: نتابع عن كثب قضية اختفاء المواطن المولد
...
-
ظهور بحيرة حمم بركانية إثر ثوران بركان جريندافيك في إيسلندا
...
-
وزارة الصحة اللبنانية تكشف حصيلة القتلى والجرحى منذ بدء -ا
...
-
-فايننشال تايمز-: خطط ترامب للتقارب مع روسيا تهدد بريطانيا و
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|