المساواة الحقة!!
خالد صبيح
2021 / 5 / 26 - 22:14
الفروقات بين البشر بديهة معروفة وأكثر منها بداهة هو الفرق بين الجنسين، الإناث والذكور، عند البشر كما عند الكائنات الأخرى. والفروقات تلك هي فروقات طبيعية تكوينية لكن ترتبت عليها نتائج عملية واجتماعية تتعلق بتوزيع الأدوار داخل الاسرة والمجتمع. وتحولت عبر التاريخ الى معضلات، وذلك بحسب زاوية النظر والفهم لها.
زوايا النظر هذه يمكن اختصارها، كما اعتقد، بثلاثة منظورات، اذا استبعدنا النظرة الدينية لأنها غير واقعية وتستمد نظرتها وموقفها من مصدر غيبي أو منظور متأخر تاريخيا.
والمنظورات الثلاثة هي منظور اقتصادي وآخر مؤسساتي وثالث إنساني.
الأول، الاقتصادي، مثلته العقلية الرأسمالية التي عاملت كل شيء في الكون على أنه مصدر ربح ومراكمة للثروة. ولهذا هي تقيّم الفرد بحسب دوره وقدرته على تأدية هذه المهمة، أي دوره في العملية الإنتاجية وبمقدار ما يضيف للثروة التي هي بالأصل والنهاية، عندها، الملكية الفردية. ولهذا عاملت النساء وكذلك الأطفال (أيام كانت الرأسمالية "الليبرالية الانسانية جدا" تشغّلهم عشر ساعات في اليوم)، بتمييز وعلى أنهم أقل كفاءة من الرجل الذي يتمتع بقوة عضلية وطاقة أكبر على التحمل، لذا كانت أجورهم أقل.
الى اليوم ما تزال كل بلدان أوربا تعاني من بقايا هذا التمييز، في السويد مثلا، لا تزال الفروق في الأجور بين المرأة والرجل في نفس العمل ونفس الخلفية التعليمية والمهنية متباينة.
المنظور الثاني هو المنظور الشمولي الذي يقدم المؤسسة والمجتمع على الفرد ويسخره بالتالي لرفعة المؤسسة؛ الدولة، المجتمع، القضية، والخ.. من مفردات وقيم المنظومة الشمولية، ولهذا شُغلت النساء في النظامين الشيوعي والفاشي (النازية)، في مراكز الإنتاج الضخمة وقمن بأعمال لا تناسب تكوينهن ولا تقل ارهاقا عن عمل الرجال.
المنظور الثالث هو منظور إنساني يرى في الإنسان قيمة بذاته، وأن الفروقات التكوينية أو الفردية في المجتمع وبين الناس لا ينبغي لها أن تتحول الى أداة للاستغلال والتمييز. وهذا المنظور للأسف لايزال منظورا افتراضيا وخطابيا تحمله وتدعو إليه غالبا قوى اليسار الديمقراطية، وهو غير متحقق في الواقع إلا بنسب قليلة جدا.
وبتصوري أن النساء اللاتي يصوتن في الانتخابات لأحزاب اليمين البرجوازي هن بهذا يتصرفن بالضد من مصلحتهن الحقيقية.
لكن واقعيا التمييز بين الجنسين ضروري ومنطقي، والمزايا فيه ينبغي أن تترجم إلى امتيازات، غير أنه، برأيي، يجب أن يأخذ منحى معاكسا لما هو عليه الواقع الآن. فالمرأة التي يُميز ضدها في منظومتنا الكونية يفترض تكوينها ودورها في الحياة والمجتمع أن يهيئها الى أن تحصل على امتياز لا أن تُغبن.
كيف ولماذا؟
المرأة تعاني شهريا من ازعاج طبيعي يتسبب بتعكر مزاج ووهن ويؤثر على طاقتها البدنية ما يعني أنها يجب أن تُعامل في هذه الفترة معاملة مختلفة بالإضافة الى وجوب مراعاتها في تأدية واجباتها بالإضافة الى الاهتمام بغذائها.
(أوصى مرة الشهيد دكتور أبو ظفر أن يخصص للنصيرات في حركة الأنصار الشيوعيين (1978-1988) حصص إضافية من الطعام (لحم معلب) لهذا السبب.)
ثم يأتي الشيء الأهم والأصعب، الحمل والولادة وتربية الأطفال. في هذه العملية المركبة والطويلة، عدا الجانب المعنوي، الروحي والرمزي الذي تحمله في أن المرأة هي مانحة الحياة، فأن أعباء هذه المرحلة هي من النوع الذي لا يطاق. المرحلة الأولى كلها آلام وتحسس، فالتحولات الهرمونية التي يسببها الحمل والولادة من النوع الصعب جدا، تكون المرأة فيه بحاجة الى الرعاية ليس فقط حرصا على صحتها وإنما على صحة الجنين الذي سيكون رجل أو امرأة المستقبل، مثال واحد قد يصلح دليلا: حين تكون المرأة خائفة ولا تشعر بالأمان اثناء الحمل سينعكس هذا على الطفل القادم ويجعله شخصا عصبيا حاد المزاج، وربما يصنع منه إنسانا خائفا، يحمل بذور الفشل في شخصيته ما لم تعدل التربية ونوع الحياة التي سوف يحياها من ذلك.
أما آلام المخاض فهذه بطولة بحد ذاتها. صحيح أن الطبيعة حكمت بهذا الدور لكن احتماله ينطوي على شجاعة.
في بعض بلدان أوربا مثلا يحبذون ويطلبون من الزوج أن يحضر عملية الولادة ليرى ما تعيشه الأم عند المخاض.
أعرف شخصيا بعض الأمثلة عن نساء احتملن هذا الوجع بشجاعة استثنائية.
(أعتقد، أن الرجال، بأمزجتهم التي هم عليها، لو كانوا قد مروّا بمثل هذه التجربة لكنا رأينا منهم عمليات انتحار جماعية).
هناك طبعا تصورات مختلفة عن هذا الأمر بين النساء والمجتمعات تختلف باختلاف الثقافة والسمات الفردية، فهناك، مثلا، بعض النساء "المودرن" (غالبا يمتزن بأنانية مفرطة)، يرفضن فكرة الولادة، بل وحتى الارتباط العاطفي، لأنهن يردن، كما يزعمن، أن يعشن حياتهن بلا التزامات ولا منغصات، هذا عدا النفور مما تفرضه الولادة بتفاصيلها و ما تتركه من أثر على الجمال والمظهر الخارجي.
ثم تأتي بعد ذلك المرحلة الأصعب؛ رعاية الطفل، هذه عملية مستحيلة، انهمام وانشغال طوال الوقت في احتياجات لا تنتهي لكائن عاجز حتى عن (أن يمسح أنفه)، كما وصفه سلمان رشدي في احدى رواياته. ومن النتائج المعروفة لهذه المرحلة: قلة النوم، السهر، (لأن الأخ لا يميز بين النهار والليل وأوقات النوم العادية)، قلق على صحة الطفل، فالأم عليها أن تحس بما يعانيه ويتألم منه (صاحب الشأن) لأنه ببساطة لا يستطيع أن يعبر عما يحس به بغير طريقة واحدة: البكاء والصراخ.
ثم تأتي مرحلة الرغبات والطلبات التي لا تنتهي بعدما يكبر الطفل قليلا، وطلباته، بطبيعة الحال، كما يظن هو، وكما هو معروف، هي أوامر.
في فيلم للمبدع "آلن باركر" يروي حياة كاتب متفرغ لشؤون الابداع، يختلف هذا الكاتب مع زوجته في احدى المرات فتترك البيت ويضطر هو لرعاية أربعة بنات صغيرات، وعندها يكتشف نوع المشقة التي كانت تحياها في تربيتهن ورعايتهن، لتوفر له أجواء الابداع. وقال في لحظة تأزم وارهاق:
(يا إلهي!، كيف احتملت كل هذا).
لكن المرأة، وهنا يبدو الأمر وكأنه ينطوي على مفارقة، تشعر بلذة خاصة وهي تقوم بكل هذه الأعمال المرهقة.
غير أن الأطفال، لا يدركون، غالبا، قيمة أمهاتهم وما قدمنه لهم من رعاية، بصبر ومحبة، إلا بعدما يكبرون ويصيرون هم أنفسهم أمهات، أو، بدرجة أقل، بعض ممن يصيرون آباء.
هكذا اذن تسير الامور، دورة حياة ووعي متكررة.
لقد أثارت وما تزال مسألة مساواة المرأة بالرجل جدلا واسعا وشدا وجذبا طويلين، وانشغلت بها جميع التيارات الفكرية والاجتماعية والقوى السياسية، ووُضعت لها حلولا ورؤى متعددة، انطلق أغلبها من معيار اقتصادوي نفعي يرى في المرأة كائنا اقتصاديا صرفا، ويحدد الموقف من حقوقها وحريتها من هذا المنظار المحدود، ومن هنا أخذت قضية المرأة بعدها الطبقي في الفكر اليساري.
وفي موضع آخر كانت هناك أيضا رؤية أخرى موازية نظرت بطريقة فجة لمسألة المساواة والحقوق، حملتها بعض اتجاهات النسوية "السطحية"، عالجت الموضوع من منطلق مساواتي شكلي بحت أشبهها بحكاية الصبي الذي أرسله أبوه بسلّة تفاح ليوزعها بالتساوي بين جدتيه، فقام الطفل بتقطيع كل تفاحة الى نصفين ليحقق وصية أبوه بالمساواة.
لكن واحدة من طرق حل مسألة المساواة الحقة، كما أفهمها وأتمناها، هي في منح المرأة امتيازات وحقوق خاصة في العمل والمجتمع تكافئها عما وضعتها الطبيعة فيه من دور ومعاناة، لا أن يُنظر اليها نظرة دونية وتُغبن في حقوقها ومكانتها.