|
ظل آخر للمدينة28
محمود شقير
الحوار المتمدن-العدد: 6824 - 2021 / 2 / 25 - 13:32
المحور:
الادب والفن
تنشط الأحزاب السياسية سراً فيها، ولا أكون بعيداً عن هذا النشاط. ثمة طلبة في مدرستنا من منتسبي حركة الإخوان المسلمين، دأبوا على دعوتنا إلى ناد في البناية، التي تقع بالقرب من سور حديقة المتحف من الجهة الشمالية. نمشي بمحاذاة السور الحجري بضع مئات من الأمتار، فتكون البناية بطابقيها الإثنين أمامنا مباشرة. لم يكن ثمة بناية أخرى لصقها أو بالقرب منها آنذاك. نلعب كرة الطاولة، ثم يدعوننا بعد ذلك إلى الصلاة، وإلى حضور درس الدين الذي يقدمه أحد الدعاة. لم تطل علاقتي بهذا الدرس. انقطعت عنه بعد أن استمعت إليه مرات عدة. وثمة طلبة آخرون يذهبون إلى بيت مقابل باب الساهرة، لحضور اجتماعات يقودها أحد كوادر حزب البعث العربي الاشتراكي. كان لهذا الحزب نشاط ملموس في جبل المكبر، وكنت واحداً من المتعاطفين مع شعاراته القومية، وبالذات مسألة الوحدة العربية وتحرير فلسطين، غير أنني لم أكن متحمساً لفكرة الاشتراكية التي يدعو إليها الحزب، لاعتقادي أنها فكرة مستوردة تتناقض مع الدين الإسلامي (هذا ما ردده على مسامعنا دعاة الإخوان المسلمين)، وقد حاول بعض طلبة البعث، من الصفوف العليا في المدرسة، إقناعي بأن اشتراكيتهم هي من صلب الدين الإسلامي وهي عربية، ولا علاقة لها بالاشتراكية الشيوعية (وبعد سنوات اكتشفت كم كان وعي هؤلاء الطلبة ضحلاً! وكم كان وعيي ضحلاً كذلك!)، فلم أقتنع بذلك إلا بعد لأي، وبشيء من التشكك، غير أنني واصلت تعاطفي مع حزب البعث على هذا النحو أو ذاك . بدأ النشاط الحزبي في الظهور علناً، بعد أن خاضت القوى السياسية في الأردن (بضفتيه الشرقية والغربية) نضالات سياسية شتى، توجت بمظاهرات صاخبة ضد زيارة تمبلر، الذي جاء يدعو إلى ربط الأردن بحلف بغداد. انقطعنا عن الدراسة عدة أيام بسبب تصاعد التوتر في البلاد، واستشهدت من بين الذين استشهدوا الطالبة رجاء أبو عماشة، أثناء محاولتها إنزال العلم البريطاني عن مبنى القنصلية البريطانية في القدس، فأصابنا الحزن عليها، ثم أخذت القوى السياسية توزع صورتها بأعداد كبيرة، فأصبحت رمزاً لتضحيات الطلبة ونضالهم، وصرنا ننظر إلى أخيها الذي كان طالباً في الصفوف العليا في المدرسة الرشيدية، نظرة احترام وإكبار، بوصفه أخاً للشهيدة. في ذلك العام، ماتت جدتي حلوة. كانت امرأة نحيفة لا تحب كثرة الكلام، ولم يكن لها حضور قوي في العائلة، بسبب حبها للعزلة، وميلها للإنطواء. عاد أبي بعد ثلاثة أيام من دفنها، وكان يعمل في أريحا، فلما عرف بأمر وفاتها دون أن يخبره أحد، غضب وأبدى تأثره الشديد، لأنها ماتت دون أن يراها أو يلقي عليها نظرة أخيرة. كانت الجدة حلوة متخصصة في مداواة أطفال العائلة بالكي كلما أصاب أحدهم مغص أو إسهال، وقد نالني منها ألم كثير. يبدأ المشهد المروع عادة بالقبض علي كلما شكوت من مغص. تتعاون جدتي وأمي وأختي الكبرى على ذلك، ثم تضع جدتي المسلة التي كانت تستخدمها أمي، في خياطة فوهات أكياس الخيش، التي نجمع فيها القمح والشعير، على نار بابور الكاز، وتظل هناك إلى أن يصبح رأسها أحمر متوهجاً، ثم ترفعها الجدة وتهوي بها على بطني، فتصدر عن ذلك فرقعة ورائحة لحم يحترق، ثم تعود إلى وضع المسلة فوق النار، وأنا أصرخ وأتلوى من الألم، ولا أستطيع الإفلات من قبضات أمي وأختي، إلا بعد توقف جدتي عن مهمتها. أنهض حانقاً، أخرج من الدار، وأجمع الحجارة بين يدي، أقذفها نحو الجدة، وهي تتفاداها، مطلقة ضحكتها الخافتة، وتظل كذلك إلى أن تغيب. بدأ النشاط الحزبي يظهر في المدرسة الرشيدية على الملأ، وأصبح بعض المدرسين من المنتمين إلى الأحزاب يجاهرون بآرائهم السياسية دون حذر، وكان من بينهم عدد من منتسبي حزب البعث الذين كانوا يقودون المظاهرات الطلابية. وكان بين الطلبة منتسبون للحزب الشيوعي، لكنني لم أفكر بالتعاطي مع أفكارهم التي لطالما شعرت نحوها بأشد العداء، فقد تزايدت الدعاية المضادة للشيوعية بالوتيرة نفسها التي تزايد فيها نشاط الحزب الشيوعي في البلاد. كانت تقع بين أيدينا مجلات مصورة عن فظائع الشيوعيين في الاتحاد السوفياتي ضد الناس، وأصبحت قضايا مثل الإلحاد والإباحية والدعوة إلى الصلح مع إسرائيل، تشكل أهم التهم التي توجهها القوى السياسية الأخرى للحزب الشيوعي، فأصدق -إلى حين- هذه التهم، وأقتنع بها حدّ التعصب والانغلاق. غير أن خالي الذي كان عاملاً في ورش دائرة الأشغال، جاء إلى بيتنا في فترة التحضير للانتخابات البرلمانية للعام 1956، وفي جعبته معلومات عن مرشح الشيوعيين في القدس، الدكتور يعقوب زيادين (وهو أردني من مدينة الكرك، أصدر فيما بعد سيرته الذاتية في كتاب اسمه "البدايات" كتبت له مقدمة نشرت في أول الكتاب. وقد شغل في فترة من الفترات منصب الأمين العام للحزب الشيوعي الأردني) تتحدث عن جرأته في مخاطبة المسؤولين، وعن مناصرته لقضايا العمال واستعداده للدفاع عنهم. قال خالي إنه سمعه بنفسه يتحدث في حشد من عمال الدائرة، مؤكداً لهم أنه سيشد مراقب الأشغال المرتشي من ربطة عنقه، إذا لم يتوقف عن الرشوة وابتزاز العمال، فاستلفت انتباهي هذا الكلام، خصوصاً وأنا أتذكر هالة الرهبة التي كانت تحيط باسم مراقب الأشغال، كلما ورد ذكره في مضافة جدي. واستمع جدي لأمي بدوره ذات مرة، للدكتور زيادين وهو يشرح أمام جمهور من مواطني القدس، برنامجه الانتخابي، فأبدى إعجابه بكلامه لأنه شديد الجرأة على الحكام، وصار من مؤيديه في حملته الانتخابية، ومن الداعين للتصويت له في الانتخابات، فأثار هذا الموقف فضولي، لكنني لم أتزحزح عن موقفي المعادي للشيوعية إلا بعد سنوات. ثم جاءت المفاجأة، وهي سقوط مرشح حزب البعث، عبد الله نعواس، ونجاح مرشح الشيوعيين، الذي انهالت عليه أصوات المقدسيين، وأصوات أبناء المخيمات المحيطة بالقدس وأريحا، حتى فاز بأعلى الأصوات (شهدت الانتخابات بعض مفارقات تدلل على تدني الوعي السياسي لدى عائلتي آنذاك، فقد اختار جدي لأبي التصويت للمرشح من قرية أبو ديس، كامل عريقات، بسبب علاقة الصداقة التي تربطه بعائلة المرشح. واختار أبي وعمي الكبير التصويت لمرشحي الحزب الوطني الاشتراكي في الانتخابات، وهو حزب البورجوازية الوطنية، لأسباب نفعية. ثم انتسبا للحزب حينما أصبح أنور الخطيب، أحد قادته وزيراً للأشغال العامة التي يعمل فيها أبي وعمي، وأنهيا عضويتهما في الحزب مع قرار حظر الأحزاب، ومغادرة أنور الخطيب لوزارة الأشغال). أواسط خمسينيات القرن العشرين، تأثر جيلي بالنهوض القومي المناوئ للاستعمار الغربي وأحلافه، وصرنا نعتد بالدور الذي أخذت مصر، بعد ثورة تموز 1952، تلعبه في هذا المضمار. إلا أن حزب التحرير الإسلامي كان مناوئاً لتلك الثورة معتبراً قادتها عملاء للأمريكان. اصطحبني أبي للعمل معه في طريق بيت اكسا المطلة على القدس من جهة الغرب، ولا يفصلها عنها أكثر من ثلاثة كيلومترات (انحصر عملي في إثبات وجودي في الورشة، كلما جاء مفتش الدوام الذي كان يتغاضى عن صغر سني، الذي لا يؤهلني للعمل اليومي الشاق، غير أن هذا العمل جنبني مشقة الذهاب، مثل أقراني الآخرين، إلى المحروقية الواقعة على مبعدة من القدس، للبحث في الأرض الخلاء، عن أشياء قديمة، يمكن بيعها لتجار الخردوات. كما جنبني مشقة الذهاب إلى أسواق المدينة للعمل فيها عتّالاً، مثلما كان يفعل بعض أقراني، طوال أيام العطلة الصيفية). كنا ننام في الخيام ونحن في غاية القلق، بسبب توتر الأوضاع. فقد اعتادت القوات الإسرائيلية أن تطلق بين الحين والآخر من مواقعها حول القدس، صليات من رشاشاتها، نحو مواقع الحرس الوطني. وكانت بيت اكسا غير آمنة، بسبب سهولة الدخول إليها من الوديان التي تفصلها عن القدس، وبسبب قلة عدد أفراد الحرس الوطني الذين يتوزعون على بعض الخنادق فيها. في الأماسي التي سبقت معركة الانتخابات، كنا نجلس في مقهى بسيط على طرف الطريق المؤدية إلى وسط القرية. يستثمر منتسبو حزب التحرير وجود الناس في المقهى، ويمعنون في شرح مواقفهم السياسية المناوئة للثورة المصرية ولجمال عبد الناصر، خصوصاً وهو يشن حملته الضارية ضد حلف بغداد. اعتبر حزب التحرير هذه الحملة موجهة من الأمريكان، وذلك باعتبار الحلف مسيراً من الانجليز الذين تتضارب مصالحهم مع مصالح الأمريكان في منطقة الشرق الأوسط. لم يقنعني هذا الكلام. وكنت أجلس في بعض الأحيان، تحت شجرة زيتون، فأرى أمامي مباني القدس المطلة على بيت اكسا، وأرى قرية لفتا التي اضطر أهلها إلى تركها العام 1948، كما أرى أراضي قرية دير ياسين، التي تعرضت لمذبحة، ثم امحت من الوجود، وزحفت نحو أرضها مستوطنة جبعات شاؤول، وأرى أيضاً أراضي القسطل التي استشهد فيها القائد عبد القادر الحسيني، ثم امّحت بدورها من الوجود، وكنت أراقب السيارات التي تسير على شارع القدس _ يافا _ تل أبيب ، وأفكر في ما تخبئه لنا الأيام القادمة من مفاجآت. وقد دفعت التطورات السياسية العاصفة في منطقتنا أبي إلى التفكير بشراء مذياع. ذهبت معه إلى حانوت في باب خان الزيت، اشترينا مذياعاً يعمل على البطارية الجافة، له عدة مفاتيح تحيط بلوحة زجاجية مليئة بالأرقام والإشارات، التي تدل على مواقع المحطات. وله عين من زجاج تضيء كلما أدرنا مفتاح التشغيل، فاعتبرته أفضل بما لا يقاس من مذياع جدي القديم. اعتاد أبي أن يجلس في ساعات المساء لمتابعة الأخبار، وكانت إذاعة القاهرة ثم إذاعة صوت العرب فيما بعد، من أهم المحطات التي يستمع إليها أبي. وصرت كلما سنحت لي الفرصة أجلس إلى المذياع، للاستماع إلى أغاني بعض مطربي ذلك الزمان، وعلى رأسهم محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وآخرون. وحينما وقع العدوان الثلاثي على مصر، أصبحت الأغاني الوطنية التي تغنيها فايدة كامل وآخرون، تشد انتباهي أكثر من غيرها. كنت أنتشي حماسة وأنا أستمع إلى أغنية: ألله أكبر فوق كيد المعتدي، أو نشيد بلادي بلادي، أو أغنية عاد السلام يا نيل، التي ملأت أسماعنا بعد انتهاء العدوان. صرت أتابع أخبار مصر، وأبدي حماسة لما يفعله الرئيس جمال عبد الناصر، فلما قام بتأميم قناة السويس، شدتني الحماسة التي ملأت قلوب الناس (سأذهب ذات مساء إلى سينما الوليد التي أعيد افتتاحها بعد دخول السلطة الوطنية الفلسطينية إلى رام الله والبيرة، لمشاهدة فيلم "ناصر 56"، وسوف تتحدر الدموع من عيني، وأنا أشاهد مرحلة واكبتها بمشاعري وأعصابي قبل سنوات طويلة، تتجسد من جديد أمام عيني، وأشعر بالأسى وأنا أستعرض في ذهني أحلامنا الكبيرة وهي تنكسر حلماً وراء حلم). وحينما وقع العدوان الثلاثي على مصر، الذي ابتدأته إسرائيل باجتياح سيناء بتاريخ 29 / 10 / 1956، كانت مشاعري كلها، شأني في ذلك شأن الكثيرين، مع مصر، ورحت أتابع أخبار القتال على الجبهة، وأخبار المقاومة الشعبية في مدن القناة. آنذاك، وانسياقاً وراء الرغبة الشعبية الجارفة في طلب السلاح، جاء ضباط من الجيش الأردني إلى المدرسة الرشيدية وغيرها من مدارس البلاد، للإشراف على تدريب الطلاب الراغبين في حمل السلاح. سجلت اسمي مع الذين سجلوا أسماءهم، وابتدأنا نتدرب على المشية العسكرية المنتظمة في الطابور، ثم انتقلنا إلى التدرب على فك البندقية وإعادة تركيبها، ثم توقفت التدريبات بعد انتهاء القتال، فلم نتعلم الرماية ولم ننجز شيئاً ذا بال. كان ذاك الخريف من أقسى الفصول. يتبع..
#محمود_شقير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ظل آخر للمدينة27
-
ظل آخر للمدينة26
-
ظل آخر للمدينة25
-
ظل آخر للمدينة24
-
عن المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة
-
عن القدس في كتاب نسب أديب حسين
-
ظل آخر للمدينة23
-
ظل آخر للمدينة22
-
ظل آخر للمدينة21
-
ظل آخر للمدينة20
-
ظل آخر للمدينة19
-
ظل آخر للمدينة18
-
ظل آخر للمدينة17
-
ظل آخر للمدينة16
-
ظل آخر للمدينة 15
-
ظل آخر للمدينة14
-
د. حنا ميخائيل.. مثقف ثوري لا يمكن نسيانه
-
ظل آخر للمدينة13
-
ظل آخر للمدينة12
-
ظل آخر للمدينة11
المزيد.....
-
مترجمون يثمنون دور جائزة الشيخ حمد للترجمة في حوار الثقافات
...
-
الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، و
...
-
-أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة
...
-
الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
-
“من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج
...
-
المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ
...
-
بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف
...
-
عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
-
إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع
...
-
تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|