العمل من المنزل وتأثيره على حياة العمال وأمنهم
جهاد عقل
2021 / 1 / 29 - 18:53
إن انتشار جائحة الكورونا وفرض سياسات الحجر والتباعد والإغلاق قد أثر بشكل واضح على عالم العمل، من فقدان فرص العمل أو فرض عطلة غير مدفوعة الأجر، والبطالة والعمل الجزئي، والعمل المؤقت وتأثير ذلك على مجموعات عاملة تعتبر وظائفها هشة، مثل الوظائف الجزئية، وبرز من بين من تضرروا في هذه الفترة النساء العاملات والعمال باليومية غير المنظمين، وشريحة الشباب ومن تخطّوا سن ٥٥ عاما، وتنامت ظاهرة العمل عن بُعد، أو ما يعرف بالعمل من المنزل.
جميع هذه المجموعات، ومعظم العاملين مع بعض الاستثناءات قد تأثرت مداخيلهم، إما بسبب الفصل من العمل، أو بسبب تخفيض ساعات العمل والأجور، خاصة وأن بعض أصحاب العمل استغلوا هذه الأزمة لإحراز إنجازات حلموا بها منذ فترة طويلة، وتسنى لهم ذلك في ظل الضعف الذي برز لدى النقابات الإصلاحية، التي لم تقف بحزم أمام السياسات الحكومية الداعمة لقوى رأس المال من أجل الدفاع عن العمال في هذه الفترة، ورفض ظاهرة الفصل العام من العمل الذي جاء تحت غطاء "عطلة غير مدفوعة الأجر".
ضمن هذه الجائحة العصيبة، برزت بل تعززت ظاهرة "العمل عن بُعد"، أو نمط العمل من المنزل، ووفق جميع التقارير والأبحاث الصادرة عن مختلف الجهات، حتى من تحمل الفكر الرأسمالي، جرى التأكيد على أن أنماط العمل عن بُعد أو العمل من المنزل لها الكثير من التأثيرات والعواقب السلبية على نفسية وحياة العاملين، قد تكون لها آثارا بعيدة المدى صحيا ونفسيا واجتماعيا، علينا الإشارة هنا، وربما يكون البعض لا يتأثر من ذلك وهم قِلّة، إلى ما نسمعه من تظلمات المعلمات والمعلمين وحتى الطلاب بالنسبة إلى التعليم عن بُعد.
نعم شغل هذا الحدث مختلف الجهات المعنيّة في عالم العمل، وأجريت بعض الأبحاث حول هذا النمط التشغيلي وآثاره على حياة العمّال وحتى على أصحاب العمل، معظمهم أكد الخطر السلبي الكامن في ذلك، والذي ستظهر نتائجه مع انحسار هذه الجائحة، خاصة على الطبقة العاملة، وما سينتج من هجوم من قبل أصحاب العمل والحكومات على العمال ونقاباتهم، بادعاء وضع خطط "إشفاء" يطالب العمال بدفع ثمنها.
العمل من المنزل: أداة للتباعد الجسدي الواقي
ما أسفرت عنه جائحة كوفيد ١٩ هو تنامي ظاهرة العمل من المنزل، جاء ذلك ضمن فرض سياسات الحكومات للحجر الصحي والتباعد من أجل الوقاية من هذا الڤيروس، وعليه قام بعض أماكن العمل خاصة المرتبطة أعمالهم بالشبكة العنكبوتية بتحويل جزء من عملهم إلى نمط العمل من المنزل، وقد شغل هذا الموضوع عالم العمل والمهتمين به من نقابات عمالية واتحادات أصحاب العمل والحكومات أيضا، ولا ننس منظمة العمل الدولية التي تضم الثلاثة أطراف.
ضمن هذه الجهود، أصدر "الاتحاد العربي للنقابات"، بالتعاون مع "منظمة العمل الدولية"، دليلا مهما بعنوان "العمل من المنزل، أداة للتباعد الجسدي الواقي من فيروس كوفيد ١٩". يقع هذا الدليل ضمن ٢٦ صفحة، ويتناول العديد من القضايا التي ترتبط بما فرضته جائحة الكورونا على عالم العمل.
"إن فرض سياسات الإغلاق وغيرها من القيود الحكومية نتج عنها فقدان عدد كبير من العمال لوظائفهم بسبب بقائهم في منازلهم، وتعذر العمل عن بُعد عليهم، كما هو متعارف عليه في علاقات العمل، خاصة وأنه لم يأخذ حيّزا كبيرا في علاقات العمل بعد. وعليه يُقدّم هذا التقرير دليلا للإجراءات والمهام، والخطوات اللازم اتخاذها عند تطبيق العمل عن بُعد، من أجل استمرارية تأدية الأعمال لبعض الفئات الوظيفية" (ص ٥).
من واضح أن إصدار هذا الدليل جاء للرد على متطلبات التغيير في عالم العمل الناتجة عن جائحة الكورونا، كما يتناول الدليل قضية مهمة تتعلق بضرورة التزام أصحاب العمل من أجل توفير بيئة عمل تراعي سلامة العاملين في مكان عملهم هذا، أي المنزل، الذي تحول بين ليلة وضحاها إلى مكان العمل وليس مكان الخلود إلى الراحة، فيؤكد معدو الدليل بأن "على صاحب العمل أن يضمن ويحافظ على صحة العاملين وسلامتهم، مع الحرص دوما على توفير قواعد السلامة والصحة المهنية في المنزل قدر المستطاع من أجل القيام بعملهم"، وبمجرد القول "قدر المستطاع" فذلك فيه نوع من التراخي مع أصحاب العمل.
كما يشمل الدليل اقتراح "خطة" لأصحاب العمل أولا، حول كيفية تنظيم العمل في ظل متطلبات التباعد الاجتماعي في مكان العمل، وقضية التعامل مع معدل الغياب المرتفع للعاملين في ظل جائحة كوفيد ١٩، في حال كان ذلك بسبب الإصابة بالڤيروس أو فرض الحجر الصحي أو العزل لفترات طويلة كإجراء احترازي، ويقدم الدليل ٧ خطوات حول كيفية التعامل مع العمّال في هذه الحالة، وأهمية حمايتهم وإرشادهم والمحافظة على أماكن عملهم.
ما المقصود بالعمل من المنزل؟
تحت هذا العنوان جرى وضع تحليل وشرح كامل لما يتعلق بالعمل من المنزل، واختلاف ذلك عما يُعرف بأشكال العمل عن بُعد، خاصة وأن "العمل عن بُعد" لا يشمل عملية الانتقال إلى مكان العمل الأساسي أو مقر صاحب العمل، وعليه يُعرّف الدليل موضوع "العمل من المنزل" بأنه "ترتيب للعمل يقوم من خلاله العامل بتلبية المسؤوليات الأساسية لوظيفته دون الحاجة إلى مغادرة المنزل والذهاب إلى مقر العمل، وذلك باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ويعتبر ذلك نمط عمل باعتباره ترتيبا مؤقتا أو ترتيبا بديلا للعمل، بسبب إجراءات الإغلاق وتدابير التباعد الاجتماعي الناجمة عن تفشي ڤيروس كوفيد ١٩، ويتطلب هذا الترتيب تَشارك كل من أصحاب العمل والعمال في المسؤوليات والالتزامات، وذلك لضمان استمرارية العمل والتوظيف للمحافظة على فرص العمل" (ص٧)، أي أن هذا الترتيب مؤقت لا غير حتى العودة إلى الحياة الطبيعية، والعودة إلى العمل في مكان العمل.
ضرورة وضع برنامج ملائم
يشمل الدليل استعراض وتحليل العديد من القضايا المهمة الإرشادية لموضوع العمل من المنزل، بالإمكان اعتبارها دليل للنقابيين ولأصحاب العمل، وأن يجري الانتقال إلى مسار "العمل من المنزل" ضمن برنامج يتلاءم مع قدرة العامل الفعلية على أداء المهام المطلوبة منه من المنزل، مثل قضية سلامة العامل وصحته في بيئته المنزلية المحيطة، ومراعاة الأثر المحتمل لترتيبات معيشة العامل؛ فعلى سبيل المثال، قد يكون على العمال مسؤولية رعاية الأطفال، أو قد يكون عائلا، أو يعاني من ضغوطات في علاقاته العائلية، أو ضحية للعنف المنزلي، أو يعاني من حالة صحية حرجة، أو إعاقة طويلة الأجل. ضمن هذه التوصيات، يطالب الدليل أصحاب العمل وبشكل واضح توفير بيئة عمل ملائمة ضمن العمل من المنزل لا تمس بصحة العامل وسلامته من جميع الجوانب، مثل تزويد العمال عن بُعد بالمعدات اللازمة، وفرض استراحة منتظمة، وتوفير سياسات مرنة للعاملين الذين يحتاجون إلى رعاية أطفالهم أو أحد أقاربهم، والإشارة إلى أن العمال قد يتعرضون إلى ظواهر تؤثر عليهم اجتماعيا ونفسيا، وقد تكون لها عواقب وخيمة لاحقا. ولذلك لا بد أن يجري ذلك العمل ضمن إجراء مشاورات وعلاقات عمل جماعية، وليس بشكل قسري، خاصة وأن هذا العمل ما هو إلا ترتيب مؤقت يفتقد إلى تشريعات مُعظم الدول وقوانين العمل، بما في ذلك قضية ساعات العمل، ومنها الساعات الإضافية والأجر، وغيرها من الحقوق لهذا النمط التشغيلي.
نقابات ودول لم تغفل الحقوق لهذا النمط التشغيلي
يشمل الدليل مختلف القضايا التي تتعلق بجميع العاملين، بما في ذلك قضية عمل المرأة الحامل والأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهم.
ويقدم الدليل مثالا لتجربة العمل من المنزل ما قامت به المملكة المتحدة والنقابات فيها، وكيفية عقد اتفاقية عمل جماعية تضع مسار حماية وحقوق العاملين من المنزل وغيرهم في ظل جائحة كوفيد ١٩، هذا بالإضافة إلى العمال الذين لا تتوفر لديهم إمكانية العمل من المنزل، من أجل تجنب الفصل الجماعي للموظفين أو إخراجهم إلى عطلة غير مدفوعة الأجر، وتضمن الخطة أو الاتفاقية قيام الحكومة بدفع جزء من تكاليف أجور العمل لصاحب العمل، بشرط أن يواصل تشغيلهم بشكل جزئي ودفع رواتبهم كاملة، بكلمات أخرى، تقديم دعم لأصحاب العمل من أجل مواصلة دفع أجور العمال الحصول وحقوقهم، وليس دفع مخصصات بطالة، كما هنا وفق سياسة حكومة نتنياهو التدميرية، بمبالغ رمزية وبدون حقوق الضمان الاجتماعي.
ومثل هذا الأمر جرى في ألمانيا وعدد من الدول الأخرى، أي أن الحكومة قدمت الدعم لأصحاب العمل عن طريق دفع قسم من الأجور، بشرط مواصلة تشغيل العمال ودفع كامل أجورهم وحقوقهم.
العمل عن بُعد ليس بجديد
جائحة كوفيد ١٩ قد أعادت موضوع ظاهرة العمل عن بُعد إلى صدارة اهتمامات الجهات المختصة في عالم العمل، منها النقابات والحكومات، وأصحاب العمل ومنظمة العمل وغيرها. علينا الإشارة هنا إلى أنّ النقابات سبق وتنبه البعض منها إلى هذا النمط التشغيلي، ومنها من أحرز اتفاقيات أو تشريعات تشمل حقوق العاملين عن بُعد، على أثر تنامي هذه الظاهرة بسبب اتساع العمل عن طريق الشبكة العنكبوتية، وارتباطهم بهذا النمط التشغيلي الذي يعني عدم فك ارتباطهم بمكان العمل بعد ساعات العمل، ومواصلة العمل بلا حدود، مما اعتبره البعض نوع من العبودية لنمط تشغيلي- رأسمالي، لذلك بادرت العديد من النقابات في اوروبا أولا وقامت بتوقيع اتفاقيات عمل تضع شروط عمل واضحة تشمل فك الارتباط بالشبكة العنكبوتية بعد ساعات العمل، وتدابير الصحة والسلامة المهنية، وفي حال تطلب الأمر إعادة الارتباط جرى تحديد حقوق العامل، وشملت هذه الاتفاقيات اتحاد نقابات الموظفين في أوروبا، واتحاد نقابات العمال في المملكة المتحدة، واتحاد العاملين في الاتصالات في أوروبا، وعددا آخر من النقابات مثل النرويج وغيرها.
كما قامت العديد من الدول بإصدار تشريعات قانونية لهذا النمط التشغيلي (العمل عن بُعد) تنص على ما يُسمّى "حق فك الارتباط".
دليل نقابي قانوني وخاتمة
يشمل هذا الدليل في الصفحات ١٧-٢٣ ملحقا تحت عنوان "الدليل القانوني للكونفدرالية النقابية الدولية- العمل عن بُعد"، يجري فيه عملية استعراض مقتضيات اتفاقات العمل عن بُعد، ويتطرق إلى المبادئ الرئيسية لتقنين ناجع للعمل عن بُعد بواسطة التشريع والحوار الاجتماعي، ويشرح ماهية هذا النمط التشغيلي وضرورة توقيع اتفاقيات عمل جماعية، وتسريع عملية المصادقة على تشريعات قانونية تضمن حقوق العاملين في هذا المجال، بما في ذلك العمل اللائق والأمن التشغيلي لهم، وجرى نشر المبادئ التي يجب أن يضمنها القانون واتفاقيات العمل عن بُعد.
في خاتمة هذا الدليل جاء ما يلي: "اعتبارا للاستعمال المتزايد لتكنولوجيا المعلومات والاتصال، و"رقمنة" مكان العمل، فإنّ طلب اتفاقيات العمل عن بُعد يدعو إلى التزايد مستقبلا بشكل واضح على الصعيد العالمي، ومن أجل السعي إلى ما يجعل مثل هذه الاتفاقيات توفّق بين الحاجة إلى المرونة (بالنسبة إلى العمّال وأصحاب العمل) وبين صيانة حقوق وحماية العمل، يجب أن يكون اعتماد اتفاقيات العمل عن بُعد وتفعيلها مصحوب بالمبادئ الجوهرية التي وقع التطرّق إليها في دليل النقاش هذا. رغم حصول عدّة اتفاقيات جماعية على مستويات مختلفة، وأن بعض السلطات القضائية الوطنية اعتمدت بعضا من هذه المبادئ، فإنّ نواقص الظاهرة لا تزال موجودة في القانون الوطني والدولي، ويجب إزالتها قبل أن تتعمّم اتفاقيات العمل عن بُعد وتتخذ صبغة قارّة".
هذا الدليل بمضامينه مهم للنقابات والنقابيين، لكن تبعات هذه الجائحة الخطيرة لا ترتبط بدليل إرشادي فقط، بل بضرورة تغيير النمط الاستجدائي القائم اليوم من قبل الحركة النقابية المحلية والعالمية، وعليه لا بد من الخروج من هذه الشرنقة الإصلاحية المهادنة للحكومة، وتجنيد القوة العمالية بوحدتها الثورية الحقيقية من أجل هزيمة هذا النمط الرأسمالي المتهادن مع أصحاب الثروات الرأسماليين، الذين تضخمت ثرواتهم خلال هذه الجائحة على حساب الطبقة العاملة ومصالحها، وفي المقابل، ارتفع عدد الفقراء من العمال وغيرهم، وانتشرت البطالة وفقدان الأمل من السياسات الحكومية بالخروج من هذه الازمة، لذلك لا بد من حراك نقابي ثوري وحدوي، يعمل من أجل إلحاق الهزيمة بالقوى الرأسمالية التي أثبتت الجائحة سياساتها النيوليبرالية فاشلة، وبرز ذلك من خلال تراجع نمط العولمة والعودة إلى تدخل الدولة بالسوق، على عكس ما روّجوا له خلال العقدين الماضيين.