عشر سنوات بعد الثورة: ما الذي تحقّق وإلى أين يجب أن نمضي؟
حمه الهمامي
2021 / 1 / 15 - 23:49
تمرّ اليوم عشر سنوات بالضبط على تمكّن شعبنا من إسقاط الدكتاتورية بعد أقلّ من شهر من الاحتجاج الذي انطلق يوم 17 ديسمبر 2010 من مدينة سيدي بوزيد ليتحوّل إلى ثورة شعبية عارمة عبّأت حولها الأغلبية الساحقة من الشعب التونسي، ثورة طرحت بوضوح المطالب العميقة لمجمل الطبقات والفئات الشعبية وجهات تونس العميقة المنسيّة والمفقّرة والمهمّشة.
إنّ تقييم حصيلة عشر سنوات من أوضاع البلاد ما بعد بن علي يمكن أن يستهلك آلاف الأوراق، كما يمكن تلخيصه في جمل قصيرة مفادها أنّ الحصيلة سلبية على مختلف الأصعدة. بل إنها في عديد الجوانب أكثر سلبية وقتامة من أوضاع ما قبل 14 جانفي التي انتفض ضدها الشعب. هذا لا يعني تبييضا لنظام الاستبداد، هذا النظام الذي حرم الشعب التونسي طيلة خمسين عاما من مجمل حقوقه، وبنى عرشه على الظلم والقهر والبطش والاستغلال والفساد. ولكنّه واقع علينا فهمه حتى نعرف كيف نتجاوزه دون عودة إلى الوراء.
إنّ شعبنا لمّا ثار كان هدفه تغيير أوضاعه نحو الأفضل، أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والصحية والبيئية والأمنيّة. وهو ما لخّصه شعار الثورة المركزي الذي رُفع في كافة أنحاء البلاد: “شغل، حرية، كرامة وطنية”. لكن تلك الأوضاع، عدا مكسب الحرية السياسية، تدهورت واقعيّا. وإذا كان خصوم الثورة وأعداؤها يحاولون إرجاع ذلك إلى الثورة ذاتها، فإنّ القراءة التاريخية الموضوعية تؤكد أنّ انتصار الثورة أصعب بما لا يقارن باندلاعها.
إنّ الثورة الاجتماعية تستهدف القديم الفاسد لا لإصلاحه، بل لهدمه ليتم تشييد منظومة طبقية جديدة على أنقاضه. وهذا الأمر لا يعود إلى مسار الثورة في حدّ ذاته بل إلى مدى احتكام هذه الثورة إلى برنامج وإلى وجود قوة قائدة حاملة له تستبسل في العمل على تحقيقه وتكريسه. وفي حالة ثورتنا كانت ثمة قوى اجتماعية، شعبية، أساسية منخرطة في الثورة وذات مصلحة في توسيعها والتقدّم بها نحو إسقاط النّظام القائم وإحداث تغييرات جوهرية لصالحها. وهو ما عبّرت عنه بشكل عام شعارات الثّورة ومطالبها الاجتماعية والسياسيّة.
لكنّ الإشكال في الثورة التونسية أنّها لم تكن لها قيادة ثورية، مركزيّة، موحّدة، تقود العملية الثورية خاصة منذ لحظة 14 جانفي 2011، حين غادرت طائرة بن علي البلاد. حينها كانت القوى الطبقيّة والسياسيّة الأكثر تنظما تعيد ترتيب الأوراق وخلطها للحفاظ على جهاز الدولة باعتباره الجهاز الذي يحمي مصالحها. وانطلقت حينها حلقة جديدة من حلقات الصراع السياسي حول الهيمنة على الوضع الجديد. ولئن اهتدى شعبنا وقواه الثورية الخارجة لتوّها من سنوات الإنهاك والتدجين، إلى الشعارات الصحيحة التي تهمّ آليات الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، فإنّ القدرة على خلق موازين القوى الملائمة لم يكن دائما موفّقا، بل إنّ ارتباك عديد القوى في لحظات مهمّة وحاسمة، أثّر سلبا في تطوّر العملية الثورية الجارية في بلادنا.
إنّ هذا الأمر ينعكس على حقيقة المشهد اليوم. إنّ ما تغيّر هو شكل السلطة، الانتقال من شكلها الاستبدادي الفردي الذي استمرّ طيلة عهدي بورقيبة وبن علي، إلى شكلها الليبرالي الضّامن لحدّ من الحريات ضمنها الدستور الذي كانت الأغلبية الرجعية بقيادة النهضة تنوي إصداره على شاكلة أنظمة الظلام (دستور 01 جوان 2013). لكنّ الوقفة الصارمة لقوى التقدّم ومن بينها الحركة النسائية الواسعة فرضت دستورا ذا توجّهات تحرّرية في العموم رغم كون صياغاته في عديد الجوانب قابلة للتأويل. بل والتلاعب من مختلف القوى الرجعية (الظلامية أو الحداثوية الزائفة).
لقد افتكّ شعبنا الحرّية السياسية وهي أهمّ مكاسب الثورة. لكنّ الطابع الطبقي، البورجوازي، الرجعي، للدولة لم يتغيّر. وقد حافظت القوى السياسية التي تمكّنت من الحكم منذ اللحظة الأولى لسقوط بن علي على كلّ السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للدكتاتورية وعلى هيمنة ذات الأوساط الطبقية الريعية والمافيوزيّة على شرايين الدولة والإدارة والمؤسسات والاقتصاد والسياسة الخارجية. لقد استمرّ هذا الوضع مع كلّ الحكومات المتعاقبة التي أصبحت مجرّد دمى بيد تلك الأوساط كما بيد القوى الأجنبية الإقليمية (دول الخليج، تركيا…) والعالميّة (الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، صندوق النقد الدولي، البنك العامي…). وهي ما انفكّت تحنّ، من الناحية السياسية، إلى عودة الاستبداد تحت دعاوي دينية أو شعبوية أو تجمعية.
إنّ قوى الثورة المضادة المهيمنة ما انفكّت تُفرغ مكاسب شعبنا الديمقراطية من محتواها في انتظار الفرصة التي تمكّنها من الإجهاز عليها. فاليوم ثمّة انتخابات يترشّح لها الجميع، لكنها انتخابات مزيّفة بالمال والإعلام والبيع والشّراء. ثمّة إعلام متعدّد لكنّه في الأساس مرتبط بأجندات المال الوسخ المحلّي منه والإقليمي والدولي، ثمّة حرية تنظّم وإنشاء للأحزاب والجمعيات، لكنّ جزءا مهمّا منها مرتبط بتبييض الأموال وباقتصاد الجريمة وبالاختراق السياسي والثقافي والأمني. وهذه النتيجة هي حتمية بحكم ارتباط النتائج بالأسباب، وملامح وضع بلادنا اليوم هي من ملامح القوى الطبقية/السياسية التي تحكمها. إنّ القوى البرجوازية في طابعها الرّيعي والتبعي/العميل والفاسد لا يمكن أن تنتج أفضل من هذا. وعلى شعبنا أن يَعِيَ هذه الحقيقة حتى لا تذهب تضحياته سدى، فالقوى الحاكمة اليوم تتلاعب به وتشوّه وعيه وتطحن آماله، تقول له إنها في خدمته، لكنّها في خدمة مصالح مناقضة لمصالحه، مصالح مصّاصي الدماء والاستغلاليّين والمتنفّذين محليّا وإقليميّا ودوليّا.
لقد قدّم شعبنا طيلة العقد المنصرم تضحيات جِسامًا، وقدّم خيرة أبنائه وبناته قربانا للحرية ومنهم شكري بلعيد ومحمد البراهمي ومحمد بلمفتي ومجدي العجلاني الذين عمّدوا بدمائهم دستور تونس الجديد. لكنّ أشواطا مهمّة وحاسمة ما تزال تنتظر شعبنا الذي يجب أن يضع نفسه اليوم أمام سؤال مصيري: كيف يجب استرجاع الثّورة ممّن سرقوها والتفّوا عليها وتصحيح مسارها للمضيّ بها قدما إلى الأمام لتحقيق أهدافها التي انطلقت من أجلها؟ حين يُطرح هذا السّؤال بهذا الوضوح يكون شعبنا قد وضع رجليه في الطريق الأصحّ. إنّ تصحيح مسار ثورتنا أمر ممكن، وعلينا البدء فيه دون إضاعة وقت. وإنّ حزب العمال الذي نشأ من أجل الثورة لن يدّخر أيّ جهد لتحمّل مسؤوليته في تصحيح ذلك المسار.