|
الحب والتعالي
رسلان جادالله عامر
الحوار المتمدن-العدد: 6763 - 2020 / 12 / 17 - 20:17
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
* تأليف: إيريك غانـز ترجمة: رسلان عامر * إيريك لورانس غانز (Eric Lawrence Gans)(1)، أخصائي أدبي أمريكي وفيلسوف لغوي وعالم أنثروبولوجي ثقافي، من مواليد 21 أغسطس 1941. منذ عام 1969، قام بتدريس ونشر أدب القرن التاسع عشر والنظرية النقدية والأفلام في قسم الدراسات الفرنسية والفرانكفونية بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس. ابتكر غانز علمًا جديدًا للثقافة والأصول البشرية يسميه "الأنثروبولوجيا التوليدية" (Generative Anthropology)، استنادًا إلى فكرة أن أصل اللغة كان حدثًا فريدًا وأن تاريخ الثقافة البشرية هو تطور موروث أو "متولد" لهذا الحدث. في سلسلة من الكتب والمقالات التي تبدأ بـ "أصل اللغة: نظرية رسمية للتمثيل" (1981) طور غانز أفكاره حول الثقافة واللغة والأصول البشرية. في عام 1995، أسس غانز (ولا يزال يحرر) المجلة الإلكترونية "أنثروبوئيتكز: مجلة الأنثروبولوجيا التوليدية"(2) كمنتدى علمي للبحث في الثقافة والأصول البشرية بناءً على الأنثروبولوجيا التوليدية و"الأنثروبولوجيا الأساسية" (Fundamental Anthropology) لرينيه جيرارد (René Girard) ذات الصلة الوثيقة بها. منذ عام 1995، نشر غانز على شبكة الإنترنت كتابه "سجلات الحب والاستياء"(3)، الذي يتألف من تأملات في كل شيء من الثقافة الشعبية، والأفلام، وما بعد الحداثة، والاقتصاد، والسياسة المعاصرة، والهولوكست، والفلسفة، والدين، وعلم الإنسان القديم. وفي عام 2010، تم إنشاء "جمعية ومؤتمر الأنثروبولوجيا التوليدية" لرعاية المؤتمرات السنوية المخصصة للأنثروبولوجيا التوليدية. والمقال الراهن عنوانه الأصلي بالإنكليزية هو (Love and Transcendence)، وهو منشور في كتاب "سجلات الحب والاستياء" المنشور بدوره في المجلة الرقمية المذكورة أعلاه. * لقد بلغت الخامسة والخمسين هذا الأسبوع، السن الحرج الذي يبدؤون فيه بتقديم تسهيلات لكبار السن لك ووصفك بالفتى ذي الخمسة وخمسين عامًا، ومع تقديم عيد ميلاد تعويضي صغير لنفسي، أتمنى، عزيزي القارئ، أنني سأنسى الاستياء خلال مدة أسبوع وأعود إلى الموضوع الأساسي والأكثر إمتاعًا لهذه الأعمدة الصحفية، الحب. الحب هو تجربتنا الخاصة في التعالي، ولا يوجد شيء في علاقتنا الشخصية مع الله لا يمكن فهمه كعلاقة مع المحبوب، وليس من الواضح أية واحدة من هاتين التجربتين المتعاليتين لديها أكثر من الأخرى لتعلِّمه لها. لقد أدركت المسيحية هذا التشابه في معادلة أن "الله محبة". الله كشخص - أو ثلاثة - يساوي الحب والتفاعل، وبلغة الأنثروبولوجيا الأصلية، فإن الله ليس مجرد كائن- تضحوي (object-victim) مركزي يجمع المجتمع البشري معًا، ولكنه العلاقة المتبادلة التي تتوسط عبر هذا الكائن بين أعضاء هذا المجتمع، وعندما نحب بعضنا البعض حقًا في الله، فإنه لا يعود يشغل "مركزًا" يصرف انتباهنا عن بعضنا البعض، ومع ذلك، فإن القول بأن الله محبة لا يعني القول ببساطة أن "المركز هو المحيط"، ولكنه الاعتراف بأنه بدون المركز لما كان المحيط موجودًا على الإطلاق. مع ذلك، على الرغم من أن القراءة التي تطالب حدسنا الأصلي بتفسير ما هو أو من هو الله، مفيدة من الناحية الأنثروبولوجية، إلا أنها لا تفيدنا كثيرًا من الناحية الوجودية. من بين أنماط الحب التي تحافظ على التضامن في المجتمعات البشرية - المودة، والصداقة، والتعاطف، والتضامن، والحب الأبوي، والحب الأخوي...- هناك نمط نسميه فقط وباختصار الحب، إنه الحب "الرومانسي"، نوع الحب الذي لا نشعر به فقط، ولكننا نتواجد فيه، فهل يمكننا أن نأخذ عبارة "الله محبة" للتعبير عن ارتباط هذا الشعور الشديد بالحب مع الله؟ بما أن الحب، مثل أي تجربة متعالية، هو متناقض، فمن السهل التنديد به باعتباره وهمًا، وإذا قرأت ما يكفي من العلوم الاجتماعية، ستبدأ بالتفكير في أن التعالي من أي نوع هو وهم، وأن هناك أشياء فقط وأنواع أكثر تعقيدًا من الأشياء، حتى أن التفكير في الأشياء هو مجرد خلق أنواع جديدة من الأشياء. لا تشرح العلوم الاجتماعية الظواهر المتعالية مثل الدين أو الحب، لكن ليس من الضروري أن تشرحها، إنها مجرد سلوكيات تمت ملاحظتها تجريبياً مثل أية سلوكيات أخرى، تخضع للانتقاء الطبيعي، ورغبتنا في فهم سبب إيماننا بالله، أو سبب وقوعنا في الحب، هي مجرد سلوك آخر، والخطاب الذي يعلن أنه سلوك، لا يزال سلوكًا آخر... عندما واجهت الميتافيزيقيا القديمة لأفلاطون وديكارت المراحل المبكرة من هذا النوع من التفكير، اخترع هوسرل الفينومينولوجيا، التي أعطى لها هايدجر مهمة التفكير المتعالي، والآن لدينا في الأنثروبولوجيا التوليدية الوسائل لدمج المتعالي مع التجريبي -لكني أستطرد (فهو عيد ميلادي، بعد كل شيء). كيف يختلف الحب البشري عن محبة الله؟ من السهل جدًا القول أن الدين يتحدث عن كائنات لا يمكن التحقق منها، والحب لا يتحدث. لكن الحب يعني معاملة شخص آخر كأنه كائن لا يمكن التحقق منه، كشيء مختلف تمامًا عن نفسه، ولكن ليس كتمثال على ركيزة؛ الحب الحقيقي ليس عبادة، أو بالأحرى العبادة الحقة هي محبة، والأصنام القربانية فقط تنتمي إلى الركائز.
الحب هو رعاية لا نهائية، تبجيل لما هو عرضة للزمن. الهدف الحقيقي لهذا التبجيل ليس الجسد الفاني بل الروح الخالدة، الجوهر الذي يتجسد في الجسد. ماذا يعني القول لدينا روح؟ يمنحنا الحب تجربة ملموسة للتعارض التناقضي الذي يفتحه استخدامنا للتمثيل بين التجريبي والمثالي. إن علاقة الحنان هي العناية بالآخر الذي يشعر ويسعى إلى إصلاح التوتر بين الجسد الزائل والروح الأبدية، وفكرة الجنة المصطنعة عن "الآخرة" تخفي طبيعة هذا التوتر بدلاً من أن تكشف عنها. إن الخلود الذي أراه في حبيبتي هو الآن وليس في الآخرة، وعندما أجعلها هدف عملي، فإنني أعتبر أن وجودها وروحها لهما أهمية أبدية، والجنة الوحيدة التي يمكن أن نتخيلها حقًا هي جنة الحب، المستوحاة من تجربة الأبدية التي نمتلكها في تلك اللحظات المميزة عندما نكون قريبين جدًا من بعضنا البعض لدرجة أن الساعة تتوقف... بدلاً من ذلك، تحاول أحلامنا بالآخرة أن تنقل الشعور الوجودي بالخلود كتجربة زمنية إلى وجود غير زمني في جنة لا يمكننا تصورها بدون ملل. في الأيام التي كانت فيها الكنيسة مؤسسة اجتماعية مهيمنة، عانت محاكاة الحب الإلهي عن طريق الحب البشري من عدم التوازن، فقد تم تحديد عقيدة الحب الإلهي من قبل آباء الكنيسة، وفقط عدد قليل من المتصوفة الذين لا يتمتعون بسمعة طيبة دائمًا جعلوها موضوعًا للتجربة المباشرة. كان الحب البشري وحده أرضًا عذراء يجب استكشافها، ورأى الأفلاطونيون الجدد في الأخير أكثر قليلاً من مجرد فكرة وحافز تجاه النعيم الإلهي، وحجة دي غريو (Des Grieux) في "مانون ليسكو" (Manon Lescaut )(4) بأن الحب البشري، لأنه يمكن تصوره في الخيال، هو هدف متعال أكثر ملاءمة لنا من الخلاص الأبدي، ربما يكون التعبير الأول عن تمرد مفتوح ضد هذه الأولوية المؤسسية. اليوم، عندما صار الدين تجربة فردية ولا تمتلك الكنائس سلطة على الإرادة الجماعية لأعضائها، يمكن لتجربة الحب البشري أن تعلم غير المؤمن - وربما المؤمن أيضًا - معنى محبة الله. الله كمحبة غير حصين (vulnerable) مثل البشر. اللانهاية التي نراها في أعين أحبائنا هي شيء يجب على محب الله توفيره من الخيال، مع المخاطرة بعشق صورة، وأنا أفضل أن أفكر في الله على أنه الوجود الذي نتواجد فيه كلانا لبعضنا البعض، وهو الضمان أن كل نظرة أو لمسة سريعة الزوال تحمل معناها من الحنان اللامتناهي إلى الأبد كله.
*
1 - ويكيبيديا بنسختها الإنكليزية والروسية. 2- "Anthropoetics: The Journal of Generative Anthropology" 3- "Chronicles of Love and Resentment" 4 - مانون ليسكو (بالفرنسية: Manon Lescaut) هي رواية للكاتب الفرنسي أنطوان فرانسوا بريفو (Antoine François Prévost) صدرت لأول مرة في هولندا عام 1731، عنوانها الأصلي بالفرنسية هو "Histoire du Chevalier des Grieux, et de Manon Lescaut " أي "قصة الفارس دي غريو ومانون ليسكو"، وهي تعرف اختصارا بـ "مانون ليسكو"، وهي من أولى الروايات النفسية في تاريخ الأدب، وقد أثارت الرواية مناقشات نشطة، وحظرت بداية في فرنسا، لكنها نشرت فيها عام 1733. -المترجم، اعتمادا على ويكيبيديا بنسختها الإنكليزية والروسية.
#رسلان_جادالله_عامر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قطر السنى
-
هل تعادي الدولة الفرنسية الإسلام والمسلمين؟
-
تعريف الحب في البوذية
-
الوحي التقدمي في البهائية
-
أنتِ ذي...
-
لا أحد..لكننا الأحد
-
بحثا عن إله ووطن
-
خطوة إلى طريق السماء
-
بعد الكأس العاشرة
-
على أبواب غد لن يأتي
-
ترتيلة من سفر اللعنة
-
فتاوى التكفير الموروثة وصناعة الإرهاب
-
كأس العالم بين جمال الرياضة وهيمنة السوق
-
الكتابة الجنسية، أهميتها وضروراتها
-
هل المرأة هي أقل كفاءة من الرجل، ولا تصلح القيادة؟!
-
بيان من سِفر متأسلم
-
تناقضات مفهوم الخير في الذهن المتدين
-
التلازم الجوهري بين الديمقراطية والاشتراكية
-
ويبقى المستقبل حلما اشتراكيا
المزيد.....
-
صور سريالية لأغرب -فنادق الحب- في اليابان
-
-حزب الله-: اشتبك مقاتلونا صباحا مع قوة إسرائيلية من مسافة ق
...
-
-كتائب القسام- تعلن استهداف قوة مشاة إسرائيلية وناقلة جند جن
...
-
الجزائر والجماعات المتشددة.. هاجس أمني في الداخل وتهديد إقلي
...
-
كييف تكشف عن تعرضها لهجمات بصواريخ باليستية روسية ثلثها أسلح
...
-
جمال كريمي بنشقرون : ظاهرة غياب البرلمانيين مسيئة لصورة المؤ
...
-
-تدمير ميركافا واشتباك وإيقاع قتلى وجرحى-..-حزب الله- ينفذ 1
...
-
مصدر: مقتل 3 مقاتلين في القوات الرديفة للجيش السوري بضربات أ
...
-
مصر تكشف تطورات أعمال الربط الكهربائي مع السعودية
-
أطعمة ومشروبات خطيرة على تلاميذ المدارس
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|