القضية الفلسطينية دون حل وسط
حافظ عليوي
2006 / 7 / 17 - 11:19
مثل سائر القضايا القومية في العالم التي وقعت ضحية للنظام العالمي الجديد , كذلك كان مصير القضية الفلسطينية . وقد فُرضت على الحركات التحررية الفلسطينية والايرلندي والجنوب افريقية حلولا برعاية امريكية , لا توفر الحد الادنى السياسي والاجتماعي والاقتصادي اللازم لإحداث تعيير حقيقي في حيات القوميات المضطهدة . وبقي الغاء نظام التفرقة العنصرية في جنوب افريقا مثلا , خطوة شكلية لان مقاليد الاقتصاد بقيت بيد الاقلية البيضاء , ولم يستفد من التغيير سوى البرجوازية السوداء , اما الشرائح الواسعة من الشعب فكان المزيد من الفقر . (من تقرير الكاتب البريطاني جون بيلجر " جنوب افريقيا : هل خان المؤتمر الوطني الافريقي ؟ " , صحيفة " ميل اند جارديان " الجنوب افريقيا 17/4/98 ) . اما الفلسطينيون فلم يخرجوا من اتفاق اوسلو الا بسلام شكلي ادام السيطرة الاسرائيلية على المناطق الفلسطينية .
وتعتمد السياسة الامريكية الجديدة على احتواء النخبة القيادية في حركات التحرر الوطني المختلفة , فتمنحها امتيازات سياسية واقتصادية لقاء تفريطها بالحقوق الوطنية لشعوبها . ان اتفاق اوسلو يوفر الحل للحركة الصهيونية , ويضمن امن اسرائيل دون ان تضطر للتنازل عن سيطرتها على الاراضي المحتلة او توافق على عودة الاجئين الى ديارهم . وبالمقابل حصل الفلسطينيون على حكم ذاتي موسع على السكان وعلى ارض لا تتجاوز مساحتها ال 50% من الضفة الغربية بالاضافة الى غزة . ويمكن القول عمليا ان اتفاق اوسلو قضى بموافقة البرجوازية الفلسطينية على البرنامج الوطني الفلسطيني الذي يدعو لاقامة دولة فلسطينية مشستقلة في اراضي الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشريف . يلاحظ ان تنازل منظمة التحرير الفلسطينية عن برنامجها لم يقابلة تنازل من الطرف الاسرائيلي عن برنامجه الصهيوني التوسعي , وهو انما يدل على الازمة القيادية والبرنامجية العميقة التي يواجهها الشعب الفلسطيني . لقد استغلت منظمة التحرير مكانتها كممثل شرعي ووحيد عن الشعب الفلسطيني , لشطب الميثاق الوطني ونبذ التراث الفلسطيني النضالي ونعته بالارهاب , ثم الاعتراف بحق اسرائيل بالوجود والتوقيع على اتفاقات السلام , دون ان تنتزع التزاما من اسرائيل بتفكيك المستوطنات والانسحاب من القدس الشرقية والاعتراف بحق اللاجئين بالعودة .
بعد ان تبددت اوهام السلام , واتضح ان القيادة الفلسطينية لا تمثل الا المصالح الضيقة البرجوازية الفلسطينية التي التحقت بالمصالح الامنية والاقتصادية الاسرائيلية , يطرح السؤال بكل حدته :هل وصلنا الى نهاية المطاف , ام هل ما زال هناك طريق لحل القضية الفلسطينية حلا عادلا وجذريا , ينهي التبعية للاحتلال ويضع حدا للجوء ؟ ان الاجتهاد في البحث عن الجواب يفرض علينا التعمق في فهم الواقع الراهن على المستوى الدولي والعربي والفلسطيني , لاستخلاص الاستنتاجات الموضوعية منه .
شعار " دولتان لشعبين " _ تقادم عليه الزمن
في عام 1974 تبنّت حركة التحرر الفلسطينية لفضّ صراعها مع اسرائيل الحل السياسي الذي نص على انسحاب اسرائيل الى حدود الرابع من حزيران 1967 تبعا لقرارات الامم المتحدة . وجاء هذا الموقف انعكاسا للظروف الموضوعية التي سادت فترة السبعينات والثمانينات , وتميّزت بالتعايش السلمي بهدف الحفاظ على التوازن في مصالح القوتين العظميين , الولايات المتحدة و الاتحاد السيوفييتي , وهو النظام الذي افرزته الحرب العالمية الثانية .
قبل الوصول الى صيغة هذا الاقتراح ، تمسكت منظمة التحرير بشعار دولة فلسطين من النهر الى البحر ، ولكن هذا الشعار لم يلق صدى دوليا او عربيا . وعلى اثر حرب اكتوبر 1973 التي حركت العملية السلمية في المنطقة ، عدّلت المنظمة موقفها في محاولة للتقرب من موقف الاتحاد السوفيتي وكسب تأييده .
كان استعداد المنظمة للدخول في مفاوضات مع العدو الاسرائيلي والقبول بتقسيم الوطن ، مدعاةً لاتهامها بخيانة القضية الوطنية . ولكن هذا القرار كان في الواقع منسجما مع موازين القوى الدولية التي فرضت نهج الحلول الوسط والتعايش السلمي ، وكان ترجمة فلسطينية للخيار الذي اعتمدته حركات التحرر في العالم في تلك الفترة ، وهو الارتكان على الدعم السوفيتي لتحقيق مكاسب ملموسة وإن لم تلبّ كل التطلعات القومية ، خاصة ان القوى الاستعمارية كانت مدعومة من الولايات المتحدة .
وبما ان اسرائيل هي حليفة الولايات المتحدة ، فقد كان على حركة التحرر الفلسطينية ان تحظى بدعم الاتحاد السوفيتي ، ولذلك كان عليها ان تتماشى مع سياسته الاستراتيجية في المنطقة وتبني الحل الوسط . وحظي برنامج م.ت.ف المرحلي بصدى ايجابي جدا في اوروبا وحتى في بعض المحافل الامريكية ، وعزز كثيرا القاعدة الشعبية والسياسية للثورة الفلسطينية .
يشار الى ان نهج الحلول الوسط لم يقتصر على القضايا الدولية فقط ، بل كان نهجا ثابتا طُبّق على السياسة الداخلية الامريكية والاوروبية بعد الحرب العالمية الثانية . وكان هدف السياسة الاجتماعية والاقتصادية في تلك الفترة حفظ التوازن بين مصلحة رأس المال ومصلحة العمال . وكان للدولة وقوانينها الخاصة دور مهم في حفظ هذه المعادلة ، من خلال برنامج الرفاه والضمانات الاجتماعية ، وانتهاج سياسة التشغيل الشامل لتفادي البطالة .
ولكن هذا المناخ تغير مع تولي رونالد ريغان رئاسة الولايات المتحدة ومارغريت تاتشر رئاسة الحكومة البريطانية . فقد تبين للزعيمين ان سياسة الحلول الوسط لم تكن لصالح الرأسمالية التي بدأت تتراجع بسبب نفقات الدولة الضخمة واجور العمال المرتفعة ، واحتداد المنافسة مع اليابان والانكماش في الاسواق الخارجية . ولانقاذ الرأسمالية من مأزقها اتبعت الولايات المتحدة وبريطانيا سياسة جديدة استهدفت على المستوى الداخلي العمال ونقاباتهم ، وصعّدت على المستوى الخارجي الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي من خلال تطوير برنامج الاسلحة الصاروخية الاستراتيجية والذي اصبح يعرف بـ " حرب النجوم " . وكان الدعم الامريكي للقصف الاسرائيلي على المفاعل النووي العراقي (1981) واجتياح لبنان (1982) التعبير المباشر للسياسة الجديدة .
التغيير الحاد الذي طرأ على السياسة الامريكية ، لم يتبعه تغيير مماثل في السياسة السوفيتية التي بقيت على جمودها حتى صعود ميخائيل غورباتشوف للحكم عام 1985 . وشهدت فترة غورباتشوف تراجعا في سياسة الاتحاد السوفيتي التي بدأت تلين ازاء العدوان الامريكي ، واتجهت نحو الرأي العام الامريكي والاوروبي في محاولة لاقناعه بضرورة تحقيق السلام ونزع الاسلحة الفتاكة ، وراحت من جهة اخرى تقنع الكتلة الاشتراكية باهمية الانفتاح الديمقراطي .
وكان انشغال الاتحاد السوفيتي بمغازلة الادارة الامريكية علامة على فقدان الشعوب المضطهدة سندها العالمي ، الامر الذي دفع القيادات الوطنية نحو التأقلم مع الوضع الجديد . وما من شك ان هذا ما دفع عرفات في جنيف عام 1988 للتصريح بنبذ الارهاب وتقادم الزمن على الميثاق الوطني .
حرب الخليج - الامم المتحدة تفقد دورها
مع تفكك الاتحاد السوفيتي انقضى على نهج الحلول الوسط . ولم تكن حرب الخليج الاولى امتدادا لسياسة ريغان فحسب ، بل اعلانا امريكيا واضحا عن انتهاء عهد التوازنات ، وعن إخضاع مصالح الشعوب كافة للمصلحة الامريكية العليا وحلفائها في اوروبا واليابان . وأُطلق العنان امام رأس المال العالمي لاحتلال مالم تتمكن من احتلاله اثناء وجود الاتحاد السوفيتي وكتلة دول عدم الانحياز ، وما كان من الانظمة الضعيفة الا ان رضخت لاوامر صندوق النقد الذي تديره امريكا .
بين اهم انعكاسات هذا التغيير كان ذوبان مجلس الامن التابع للامم المتحدة وفقدانه دوره كوسيط سابق بين مصالح امريكا والاتحاد السوفيتي لمنع وقوع حرب كونية . بدت علامات التحول الاولى في دور مجلس الامن عندما انحاز تماما في حرب الخليج لصالح امريكا . ثم عاد الامين العام للامم المتحدة ليصحّح الانطباع فلعب دورا مستقلا نوعا ما عندما وقّع مع النظام العراقي على اتفاق مطلع عام 1998 رغم معارضة الادارة الامريكية .
وازاء هذه التصحيح قررت امريكا في الحرب على يوغوسلافيا تجاهل الامم المتحدة ، فشنت الحرب تحت مظلة حلف الاطلسي دون طرح القضية اولا على مجلس الامن . وتبين ضعف خصوم امريكا ، وعلى رأسهم روسيا والصين ، فرغم انهما كانتا المستهدفتين الرئيسيتين في هذه الحرب الا انهما لم تجرؤا على إلزام امريكا بعقد جلسة لمجلس الامن بشأن الحرب التي دمرت دولة اوروبية ، هي عضو رئيسي وهام في الامم المتحدة . وكانت هذه الحرب المحطة الحاسمة التي قضت على أي دور وتأثير لمجلس الامن .
اسرائيل رفضت الحل الوسط
وكان اتفاق اوسلو ترجمة دقيقة للنهج السياسي الدولي الجديد . فهو لم يتجاهل الشرعية الدولية من باب المصادفة ، بل لانها اختفت واستبدلت بشرعية جديدة يقررها البيض الابيض . واصبحت ترتيبات اوسلو المرجعية القانونية الجديدة الملزمة للقضية الفلسطينية بدل القرارات الدولية التاريخية التي لم تعد اكثر من حبر على ورق .
لقد اصبح اتفاق اوسلو واقعا راسخا لانه يتجاوب مع الواقع الدولي والعربي السائد اليوم . من هنا فالبديل لاوسلو لا يمكن في تحسين شروطه ، ولا في اعادة التاريخ للوراء وتغيير الاسس التفاوضية لتستجيب للحقوق الفلسطينية ، كما يزعم بعض المنظمات اليسارية الفلسطينية . والحقيقة انه ليس هناك أي بديل لاوسلو ضمن الاطار الرأسمالي العالمي الذي أخضع الشعوب لمصلحة الشركات المتعددة الجنسيات ورأس المال الكوني . ومن يسلّم بالنظام العالمي الرأسمالي الجديد كواقع ثابت لا يتغير ، لا يمكنه طرح بديل حقيقي لاتفاق اوسلو .
لقد قضى اتفاق اوسلو نهائيا على الفرصة التي سنحت للاسرائيليين والفلسطينيين للوصول الى حل وسط على اساس تقاسم الارض والسيادة الكاملة . ولكن اسرائيل رفضت ، بشقيها اليميني واليساري ، الحل الوسط الفلسطيني . وبعد التحولات الدولية الجديدة وجدت اسرائيل الفرصة لفرض برنامجها التاريخي وهو بسط سيادتها على كامل التراب الفلسطيني ، وحرمان الفلسطينيين من حقهم في تقرير المصير .
وبينما كانت اسرائيل ترى في الاراضي العربية المحتلة ( الجولان وجنوب لبنان وسيناء ) ورقة للتفاوض لفرض الصلح على دول الطوق العربية مقابل الانسحاب ، فقد اعتبرت اسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة جزءا لا يتجزأ من ارض- اسرائيل - التاريخية . وسيضفى الحل النهائي بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية - الشرعية - على الوجود الاستيطاني على الاراضي المحتلة ، وسيخلق كيانا فلسطينيا مشوها ، عديم السيادة والاسس الاقتصادية المطلوبة لضمان الاستقلال الناجز للشعب الفلسطيني .
ان اتفاق اوسلو يفرض التعايش بين 300 الف مستوطن يسيطرون على 50% من اراضي الضفة الغربية والقدس ، وبين ثلاثة ملايين فلسطيني سيكون عليهم الاكتفاء بما تبقى من الارض والرضوخ لسلطة فلسطينية تابعة لاسرائيل . الحل النهائي سيجعل من مناطق السلطة الفلسطينية محمية اسرائيلية ، تسيطر اسرائيل على حدودها الخارجية وعلى كل المعابر بين قطاع غزة و الضفة الغربية ، ويعتمد اقتصادها على تصدير العمال لاسرائيل واستيراد المنتجات الاسرائيلية .
ان سيطرة اسرائيل على الحدود معناها بقاء السيادة العليا على المناطق الفلسطينية بيدها ، وفي هذا الوضع ستبقى للسلطة الفلسطينية صلاحيات مدنية فحسب تتعلق بادارة حياة السكان ، دون ان تكون لها صلاحية اتخاذ قرار مناقضة للمصالح الامنية والاقتصادية الاسرائيلية . وتماشيا مع هذا الوضع تلجأ السلطة الفلسطينية لاحكام سيطرتها على الشعب عن طريق قمع الحريات الديمقراطية من جهة ، وشراء الولاء من جهة اخرى .
ورغم حديث الحكومات الاسرائيلية وبالتحديد حكومة باراك عن ضرورة الفصل بين الشعبين ، فالواقع مغاير تماما ، اذ ان مساحات شاسعة من المناطق الفلسطينية ستُلحَق باسرائيل من خلال بسط السيادة الاسرائيلية على المستوطنات . ويصبح مفهوم الدولة المستقلة في ظل هذا الواقع فارغا من مضمونه وواقعيته ، اذ ان السيطرة الامنية العليا على المناطق الفلسطينية ستكون بيد اسرائيل ، وسيكون مصدر رزق العمال الفلسطينيين رهينة للمشاريع الاسرائيلية . في هذا الواقع الذي خلقه اتفاق اوسلو ، يتواجد الفلسطينيون والاسرائيليون في كيانين منفردين ، ولكن تحت سيادة عليا واحدة - اسرائيلية ، يتمتع في ظلها الاسرائيليون بكامل الحقوق السياسية ، ويفتقد الفلسطينيون ابسط الحقوق القومية والمدنية .
اقتراح الدولة ثنائية القومية غير واقعي
من المثقفين الفلسطينيين من لا يقبل التعايش مع هذا الحل الهزيل او مع السلطة القمعية والفاسدة الملتزمة به ، ويقترح برنامجا بديلا لاوسلو يرتكز على اقامة دولة ثنائية القومية على كامل التراب الفلسطيني ، يتمتع فيها الفلسطينيون والاسرائيليون بحقوق متساوية . وهو اقتراح غير واقعي لانه مرهون بموافقة اسرائيل عليه ، وهو امرا مستبعد نظرا لتمسكها برؤيتها لفلسطين كلها ارضا لليهود فقط . كما يتضمن هذا الاقتراح تنازلا فلسطينيا مبدئيا عن الحقوق القومية في الاستقلال الوطني ، والاكتفاء بالمساواة في الحقوق المدنية ، كما انه يقبل بالنظام العالمي الرأسمالي امرا واقعا لا يمكن تغييره .
رغم عدم واقعية هذا الاقتراح ، الا ان فيه تعبيرا عن نهاية مرحلة الحل الوسط الذي تجلى في الشعار " دولتان لشعبين " ، وهو من هذه الناحية يشبه اتفاق اوسلو الذي الغى امكانية الحل الوسط . ولكن مايثير الانتباه ان الدولة ثنائية القومية تشبه ، من ناحية الشكل والمضمون ، البرنامج الفلسطيني الاصلي لمنظمة التحرير الفلسطينية ، الذي دعا للقضاء على الكيان الصهيوني ، وبناء دولة فلسطينية علمانية على كامل التراب الفلسطيني يتمتع فيها اليهود بكامل الحقوق المدنية دون الحقوق القومية على الارض .
لا حلول ضمن النظام الرأسمالي العالمي
ان تسليمنا بانتهاء عهد الحلول الوسط لا يعني انه لا مجال لطرح برنامج بديل لنهج اوسلو الاستسلامي . ولكن الخطأ المنهجي الذي يقع فيه الكثيرون هو بحثهم عن الحلول ضمن النظام الرأسمالي العالمي الراهن . ولتفادي هذا الخطأ من المهم ان ندرك ان القضية الفلسطينية ليست الوحيدة التي بقيت دون حل ، فالنظام الرأسمالي الجديد زاد الوضع الاقتصادي العالمي تأزما ، حوّل الحرب الى نهج ثابت ، وعمّق استغلال الطبقة العاملة في العالم اجمع .
ان القضية الفلسطينية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالنضال ضد النظام الرأسمالي الظالم ، ومصير الطبقة العاملة الفلسطينية مرتبطة بمصير الطبقة العاملة في المراكز الرأسمالية المتطورة ، وكذلك في الدول النامية في افريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية . ان البطالة والتدهور المستمر في مستوى معيشة الشعوب ليسا ظاهرة فلسطينية خاصة بل عالمية عامة ، وهي احد اهم التعبيرات لنظام القرية العالمية الرأسمالية . وبينما يتخبط النظام الرأسمالي بتناقضاته الداخلية ، اخذت تطفو من جديد معالم الحل الذي تنشده الشعوب المضطهدة والمرتبطة تاريخيا بتقدم نضال الطبقة العاملة نحو بناء النظام الاشتراكي العالمي .
اسرائيل ، بالمقابل ، مرتبطة تاريخيا بالاستعمار وهي جزء لا يتجزأ من النظام الرأسمالي الجديد ، لذا فكل ازمة في الهرم الرأسمالي في نيويورك تؤثر مباشرة على الحياة السياسية والاقتصاد في اسرائيل .
ان الحركة الصهيونية التي لم تكتف بجزء من فلسطين ، وضعت المعادلة بكل حدتها : إما ان يعيش الشعب الفلسطيني حرا على اساس زوالها ، او ان يعيش معدوم الحقوق تحت سيطرة دولة الاحتلال الاسرائيلية . ان اوسلو هو تعبير عن الخيار الثاني ، ولكنه يبقى وضعا مؤقتا لان الشعب الفلسطيني لا يرضاه . ولا يحظى بالحد الادنى من حقوقه السياسية والاجتماعية . ان اوسلو هو حل يلائم الوضع العالمي الراهن , لذا فإسقات اوسلو مشروع بتغيير الوضع العالمي والدولي.
ويعكس وضع الشعب الفلسطيني ما يحدث في العالم العربي . فازدياد رقعة الفقر والبطالة ، وفقدان مصداقية الانظمة بسبب تبعيتها المطلقة لامريكا والفساد المستشري في اجهزتها الحاكمة ، ونشاط الحركة الشعبية المناهضة للتطبيع مع اسرائيل ، كلها مؤشرات على ان الوضع قابل للتغيير . ان اتفاق اوسلو ساري المفعول بسبب الجمود العربي ، لذا فسوف تهتز دعائمه مع اول تغيير جذري في البنية السياسية والاجتماعية للعالم العربي .
ان النظام الرأسمالي العالمي الذي يرتكز على قوة امريكا والشركات المتعددة الجنسيات ، لا يكتفي بإحداث شرخ عميق بين الرأسماليين والطبقة العاملة من خلال رفض الحلول الوسط وشطب دور الدولة في مجال الرفاه الاجتماعي وسحق الطبقات الوسطى ، بل يوسّع الفجوة بين الشعوب المضطهدة وبين الاستعمار . وفي هذا ما يفسر الهوة السحيقة بين الشعب الفلسطيني والاسرائيلي والتي زادها اتفاق اوسلو اتساعا ، حتى أوصل الى شفا الانفجار وأغلق الباب نهائيا امام امكانية التعايش في ظل النظام القائم .
يصعب اليوم تحديد الاطار الدقيق الذي سيتم من خلاله حل القضية الفلسطينية ، بالرغم من توسع رقعة المقاومة وصولا الى لبنان ، ومن الواضح ان الحل سيكون على حساب الدولة الصهيونية التي رفضت تاريخيا كل الحلول الوسط ، واستغلت الفرصة التاريخية الراهنة لفرض برنامجها الاستعماري على الشعوب العربية . ولكن ما يمكننا تحديده اليوم هو استحالة حل القضية الفلسطينية بمعزل عن الحل الاشتراكي ، فدون تغيير المجتمع العالمي تغييرا ثوريا فلن يتم تحرير الشعوب . في هذه المعركة التحررية سيكون الدور القيادي للطبقة العاملة ، بعد ان اثبتت البرجوازية قصر نظرها واستعدادها للتفريط بالمبادئ الوطنية .
ان نجاح الثورة الوطنية ذات المضامين الاشتراكية مرهون بالقضاء على الطبقة البرجوازية الفلسطينية التي التحقت برأس المال الامريكي والصهيوني حفاظا على مصالحها الضيقة ، تاركة شعبها فريسة للاستغلال الطبقي ومحروما من الحقوق الوطنية والسياسية . لقد اصبحت القضية الفلسطينية قضية قيادة وبرنامج ، ولا يمكن ان تجد حلها الا اذا نمت في صفوف الشعب الفلسطيني قيادة جديدة تتمكن من بلورة حركة شعبية كبيرة على اساس البرنامج الاشتراكي ليكون البديل الوحيد للنظام الرأسمالي الجائر .