انتفاضة أكتوبر، -الورقة البيضاء- والليبرالية الجديدة في العراق
مؤيد احمد
2020 / 12 / 8 - 09:21
انتفاضة أكتوبر، "الورقة البيضاء" والليبرالية الجديدة في العراق
حوار صحيفة "رەوت" مع مؤيد أحمد
صحيفة "رەوت": شكرا رفيق مؤيد لإتاحة الفرصة لإجراء هذا الحوار. نريد أن ننقل للقراء والجماهير في كردستان وجهات نظرك حول بعض المواضيع السياسية الراهنة. سؤالنا الأول هو عن التظاهرات في بغداد والمدن الأخرى، البصرة، الديوانية، الحلة والناصرية وغيرها. هل يمكن أن تعطينا صورة عامة عن حالة انتفاضة أكتوبر في عامها الثاني؟
مؤيد: شكرا لكم. مظاهرات الذكرى السنوية الأولى للانتفاضة التي جرت في الأول من أكتوبر ولاحقاً في 25 أكتوبر من هذا العام، هي احدى مظاهر نفس انتفاضة أكتوبر المتواصلة منذ عام وليست مجرد الاحتفال بذكراها، لذا فهي مظاهرات جرت داخل الانتفاضة نفسها. والسبب ببساطة، هو أن كل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أدت إلى اندلاع الانتفاضة، لم تبقْ في مكانها فحسب، بل ازدادت شدة وتوسعت اكثر من ذي قبل، حيث لم يتم حل أيا من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للجماهير المنتفضة ولم تتحقق أيا من أهدافها ومطالبها.
من الواضح أن القوة الأساسية والمحرك الرئيسي لانتفاضة أكتوبر، كان قسما من الطبقة العاملة، العمال الأجراء اليوميين، العمال في قطاع العمل الهش، الفقراء والعاطلين عن العمل، والشابات والشباب التحررين والنساء والطلاب. والآن تعبر كل هذه القوى الاجتماعية والطبقية للانتفاضة عن استيائها بطرق مختلفة وعلى مختلف الصعد وتناضل من اجل تحقيق أهدافها السياسية ومطالبها الاقتصادية والاجتماعية بشكل شبه متواصل.
إن تطوير الاستعداد السياسي والتنظيمي والفكري للانتفاضة هو مسألة مهمة جداً، والآن، أستطيع القول، بان هذا الاستعداد قد نما ضمن عملية جارية، وان استمرار الانتفاضة نفسها أدى إلى استمرار المساعي والنضال لتنظيم قوى الانتفاضة ورص صفوفها، لا سيما بين المجموعات والقوى التي تصر على إنهاء النظام وتحقيق التغييرات الجذرية. وهذا إنجاز كبير ليس فقط لقوى الانتفاضة، بل للحركة الثورية بأكملها في العراق.
إن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحالية في العراق، والسياسة الاقتصادية الليبرالية الجديدة لحكومة الكاظمي، وهجماتها على معيشة العمال، الكادحين، الموظفين، والمعدمين، والكارثة التي خلقتها جائحة كورونا، لم تجعل الظروف الاجتماعية لاستمرار الانتفاضة أكثر انتشاراً وأكثر تشعبا فحسب، بل غيرت أيضاً، والى حد ما، وجه الانتفاضة وطابعها، وهي في طريقها الى إحداث تغير نوعي فيها أيضا. لذا، في الوقت الحالي لا يمكننا الحديث عن الانتفاضة بشكل صحيح، ولا نستطيع أن نعرفها في عامها الثاني بدقة، من دون الأخذ بنظر الاعتبار إمكانية حدوث هذا التحول النوعي فيها. ليس هذا فحسب، بل ولا يمكن الحديث عن تطوير النضال السياسي الثوري والانتفاضة بشكل سليم بمعزل عن تقدم الحركة العمالية والمساعي المبذولة لتعزيز صفوفها، وبمعزل عن تطوير المنظمات والنقابات والاتحادات العمالية، وتطوير الحركات النسائية والشبابية والطلابية التحررية.
فالانتفاضة لم تسقط حكومة عادل عبد المهدي ولم تخلق أزمة سياسية كبيرة في النظام فحسب، بل هزت أيضاً عرش الإسلام السياسي في العراق. وعلى نفس المنوال، فضحت دور الصدريين المضاد للثورة وتبعيتهم للنظام الإسلامي القمعي في إيران على مستوى اجتماعي واسع. كما أعلنت الانتفاضة موقفاً ثورياً ضد كل من الولايات المتحدة وإيران في المظاهرات. الإنجازات الهامة الأخرى للانتفاضة:
بروز دور المرأة وحضورها المؤثر في الساحة السياسية بوصفها قوة اجتماعية مستقلة، دفن الطائفية والتعصب القومي، تنامي الأمل في النضال الثوري، حماية وحدة صفوف الانتفاضة، والعديد من الإنجازات السياسية والاجتماعية والأدبية التقدمية والثورية الأخرى. مع الانتفاضة واستمرارها، أصبح كل هذا جزءً من الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، ولا يمكن لأي كان، أن يهدم هذه الإنجازات بسهولة.
اليوم، إذا أرد أن يتحدث شخص ما عن الانتفاضة في العراق بشكل صحيح، لا يمكنه تجاهل كل إنجازات الانتفاضة هذه، ليس هذا فحسب، بل لا يمكنه أن يرى النضال السياسي والنضال الطبقي في هذا المجتمع بشكل دقيق دون الأخذ بنظر الاعتبار آثار إضفاء مكاسب الانتفاضة عليهما. هذه الإنجازات هي جزء من السياسة وديناميكية الصراع السياسي والفكري والاجتماعي في العراق اليوم.
طوال العام الماضي، كانت منظمة البديل الشيوعي في العراق متواجدة ومناضلة في قلب الانتفاضة من خلال إصدار النشرة اليومية للانتفاضة والقيام بالأنشطة السياسية والفكرية والتنظيمية اليومية وببرنامج واضح وثوري وشعار "كل السلطة للجماهير المنتفضة".
رەوت: صاغت الحكومة العراقية في الآونة الأخيرة خطة سمتها "الورقة البيضاء"، ما هو الجوهري في هذه الخطة؟
مؤيد احمد: هذه الوثيقة التي نُشرت تحت اسم "الورقة البيضاء" هي في الواقع خطة مدروسة لإضفاء الشرعية على السياسة والنمط الاقتصادي للرأسمالية الليبرالية الجديدة في جميع مجالات الاقتصاد والخدمات والحياة الاجتماعية والثقافية في العراق، والتي يسمونها إصلاحاً، ويعتبرونها أسلوباً للتنمية الاقتصادية للبلاد.
وعلى غرار ما تمارسه البرجوازية في أي مكان من العالم اليوم، فإن حكومة الكاظمي وقوى النظام وتياراته، كلها تتفق على النقاط الرئيسية في هذه الوثيقة، وتغتنم الفرصة في الظروف المعيشية الصعبة للجماهير كي تفرضها على المجتمع وتعتبرها بشكل مخادع مطلبا من مطالب الانتفاضة. تبريراتهم لذلك هي أن هناك أزمة اقتصادية ومالية للنظام متمثلة بانخفاض سعر النفط، عجز خزينة الدولة في صرف رواتب عمال وموظفي المؤسسات الصناعية والخدمات الحكومية. من هنا، يصر الكاظمي وحكومته على أن العراق بحاجة الى اقتراض المال من صندوق النقد الدولي، ولذا يجب على الحكومة أن تستوفي شروط هذه الوكالة الخاصة للرأسمال العالمي، والتي هي ذاتها تطبيق النظام الاقتصادي الليبرالي الجديد وما ورد في هذا النمط من الوثائق.
لا شك، إن "الورقة البيضاء" ليست بداية لتنفيذ سياسة الليبرالية الجديدة الاقتصادية في العراق، بل هي التوسيع الشامل لرقعة هذه السياسة وإضفاء الشرعية عليها وترسيخها لعقود عديدة مقبلة. تعود بدايات السياسة الليبرالية الجديدة وخصخصة بعض المشاريع الاقتصادية للدولة، إلى منتصف الثمانينيات، لا سيما في عام 1987، عندما بدأ نظام البعث الفاشي ببيع بعض المصانع الحكومية إلى القطاع الخاص وسلب حقوق العمال في القطاع العام من خلال منعهم من إنشاء نقاباتهم الخاصة وذلك باسم تغيير وظائفهم من العمال إلى الموظفين. ولكن ما اعطى هذا النمط الاقتصادي زخماً كبيرا وشاملاً في العراق هو احتلال الأمريكي للبلاد.
لقد قامت الإدارة الأمريكية في العراق في ظل حكم بول بريمر عام 2003، ثم كل الحكومات المتتالية للنظام الإسلامي والقومي في البلاد، والى يومنا هذا، بتطبيق هذه السياسة بصورة شاملة ومكثفة مع ما رافقتها من فساد ونهب لثروات المجتمع في عموم العراق، وبالأخص في إقليم كردستان. كما وإن سياسة حكومة إقليم كردستان الأخيرة في خصخصة إنتاج ونقل وتوزيع الكهرباء هي امتداد لنفس السياسة الليبرالية الجديدة التي جعلت من كردستان مكاناً للنهب والعداء السافر ضد جماهير العمال والكادحين على مر عقود.
كما يتضح على مدى السنوات السبعة عشر الماضية، فان حكومات النظام الحالي في العراق، قامت بخرق حقوق العمال بما في ذلك الاستمرار في حرمانهم في القطاع العام من تأسيس نقاباتهم، إزالة القيود على أسعار السلع الاستهلاكية المعيشية، رفع أسعار الوقود بشكل خيالي، خصخصة كامل قطاعات الصحة والتعليم والخدمات الأخرى وأي قطاع صناعي حكومي مربح وتوطيد هذه السياسات الاقتصادية في جميع المجالات الاقتصادية للقطاعات المالية والصناعية والزراعية في البلاد.
"الورقة البيضاء" لا تعزز وتنفذ فقط هذا الهجوم الواسع النطاق، بل وتفتح أبواب كل الأماكن التي لم تتعرض بعد لهذا الهجوم الوحشي لنمط الليبرالية الجديدة، وبهذه الطريقة تجعلها مرتعا للاستثمار وإنتاج الربح لرأس المال، ومكانا لنهب قوى وأحزاب النظام والرأسماليين المرتبطين بهم. هذه الوثيقة هي هجوم شرس متعدد الأوجه على جميع أقسام خدمات الدولة وجرها إلى منتصف عملية تراكم رأس المال وإنتاج الربح وإخضاعها لسيطرة الفاسدين المتحكمين بالسلطة، وبالتالي تدمير المحتوى والأهمية الاجتماعية لتقديم هذه الخدمات من قبل المجتمع والدولة نفسها. هذا، وان "الورقة البيضاء" هي وثيقة لبيع ونهب ممتلكات الدولة وعقاراتها.
في كل هذ البرنامج الاقتصادي، لا مكان لتنمية الأفراد، وخاصة الإنسان الكادح والنساء وغيرهم من فئات وشرائح المجتمع المضطهدين، وقد ربطت هذه الوثيقة النمو الاقتصادي بهذا الهجوم الشامل على العمال والكادحين من اجل تراكم رأس المال وتفشي المزيد من الفساد، ولا شيء آخر.
رەوت: إذا كان الإنتاج وعلاقات الإنتاج تظل رأسمالية، سوى أكان النمط الاقتصادي، مختلط، قطاع الدولة، قطاع خاص، راس مال أجنبي، اذاً لماذا الاعتراض على سياسة الليبرالية الجديدة وخصخصة القطاعات؟، هل يشكل ذلك فرقا ما؟، وما هي ضرورة أن تقف الجماهير بوجه هذه السياسة الليبرالية الجديدة؟
مؤيد احمد: بالطبع، رأسمالية الدولة، رأسمالية السوق الحرة، أو المختلطة، لا تغير من جوهر رأسمالية هذه الأنماط الاقتصادية. نفس علاقات الإنتاج الرأسمالي تهيمن على الأنماط الثلاث، وهي في حد ذاتها علاقات تناحرية بين الطبقة العاملة، بوصفها المنتج الرئيسي للمجتمع، من ناحية، والطبقة البرجوازية وفئاتها والدولة، بوصفها صاحبة وسائل الإنتاج، من ناحية أخرى. لهذا السبب يجري الإنتاج الاجتماعي في الأنماط الثلاث داخل هذه الوحدة المتناحرة. وفي الأنماط الثلاث جميعها، تقوم التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية على أساس وجود نظام العمل المأجور والمال والملكية الخاصة او ملكية الدولة لوسائل الإنتاج والنقل والاتصالات.
وبقدر ما يتعلق الأمر بالنمط الاقتصادي لليبرالية الجديدة، يمكننا القول إنه نوع من العودة إلى أسلوب الإنتاج الاجتماعي للرأسمالية الكلاسيكية بحيث تجري حركة وتراكم رأس المال ونموه ضمن إطار هذا النمط بحرية ودون قيود، سواء على مستوى السوق الداخلية أو على مستوى السوق العالمية، وبعبارة أخرى، فإن الليبرالية الاقتصادية الجديدة هي مجموعة من السياسات والبرامج ونمط اقتصادي للرأسمالية التي تفتح الأبواب على مصراعيها لحركة وتراكم رأس المال في عالم اليوم، من خلال إزالة أي عائق، بما في ذلك يد الدولة أو صف نضال العمال الموحد، أمام هذه العملية وأمام آليات السوق الحرة ونمو وحركة رأس المال المالي. وهذا لا يشمل فقط خصخصة مشاريع الدولة وصناعاتها وخدماتها، بل يشمل قبل كل شيء إضعاف المنظمات الجماهيرية للعمال وضرب نضالهم الجماعي وتقليص دورهم في الدفاع عن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية خلال عملية الإنتاج الاجتماعي.
إن تاريخ الليبرالية الجديدة في جميع أنحاء العالم على مدى العقود الأربعة الماضية، إلى جانب قضايا أخرى، كان، ولا يزال، عبارة عن الهجوم على الصف العمالي الموحد وإعاقة مساعيهم لكسب القوة والاقتدار الجماعي، بمختلف الأشكال، بما في ذلك من خلال تحديث وتنويع أسلوب وتقنيات وجغرافيا عملية الإنتاج، ووضع العقبات أمام نضال النقابات العمالية ومنظماتها الجماهيرية واتحاداتها. وفي هذا السياق، كان تاريخ الليبرالية الجديدة هو مواجهة إضرابات العمال ونضالاتهم، ومحاولات التأثير على قادة نقابات العمال وجرهم لقبول متطلبات الرأسمالية الليبرالية الجديدة، وتخفيف راديكاليتهم.
بالإضافة إلى إخضاع جميع قطاعات الخدمات العامة والحكومية لمستلزمات عملية حركة وتراكم راس المال الخاص من خلال الخصخصة، قامت دول العالم البرجوازية، على مدى العقود الأخيرة ولحد الآن، وبدرجات مختلفة، بقطع او تخفيض ميزانية الدولة المخصصة للصرف على رفاهية الجماهير وتوفير الخدمات لها. وفي هذا السياق، فإن برامج وسياسات "التقشف" التي تنتهجها الدول، والتي فرضت على المجتمع البشري على مدى عقود، تسببت في كارثة كبرى لمليارات البشر على وجه الأرض، من خلق البطالة، ونقص الخدمات إلى التهميش الاجتماعي، وهو ما يتماشى مع جني الأرباح الضخمة لرأس المال والرأسماليين وخفض الضرائب عليهم.
ولهذا السبب فإن الليبرالية الجديدة الاقتصادية هي هجوم شامل على إنجازات الطبقة العاملة والمضطهدين والفقراء في المجتمعات، والتي كسبتها خلال أكثر من قرنين من النضال والتضحيات. باتت كل هذه الإنجازات في مجال الرفاه والصحة والثقافة للعمال والكادحين والمعدمين تقع تحت ضربات الهجوم المدمر للرأسمالية المعاصرة. هذا، بالإضافة إلى أن البرجوازية العالمية وبمئة طريقة وطريقة منشغلة بشن الهجمات المتواصلة على الصف الموحد للعمال والإنسان الكادح ومنظماتهم في جميع المجتمعات.
الخاسرون الرئيسيون لهذا النمط الاقتصادي، أي هذه الرأسمالية الليبرالية الجديدة، هم النساء من الطبقة العاملة والفقراء. بالإضافة إلى ذلك، فإن النساء حصلن ولازلن يحصلن على الحصة الأكبر من البطالة، وأصبحن معرضات للتهميش الاجتماعي وفقدان المأوى بسبب السياسة التقشفية للدولة. إن القطاع الخاص، حتى في البلدان المتقدمة، هو، في كثير من الحالات، مكان للتميز والإساءة على أساس الجنس والجندر، هذا عدا كون العمل بالنسبة للمرأة في القطاع الخاص في بلد مثل العراق، أما مغلق أو مكان مؤلم لها. وبالإضافة إلى ذلك، كان لخفض ميزانية الخدمات المقدمة من قبل الدولة وخصخصتها آثار سلبية على المسنين والأطفال والأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، ومعظمهم من الطبقة العاملة والكادحين. ولهذا السبب فإن مواجهة الرأسمالية الليبرالية الجديدة تعني مواجهة الرأسمالية المعاصرة والدفاع عن كل إنجازات الطبقة العاملة والاشتراكيين والتحررين ودعاة المساواة والتي تحققت في المجتمعات على مر التاريخ.
تسمية هذه السياسة الاشتراكية وهذه المقاومة الطبقية للإنسان الكادح ضد الرأسمالية الليبرالية الجديدة ومعادلتها بالدفاع عن رأسمالية الدولة أو نمط الاقتصاد المختلط، كما يراه بعض اليساريين، ليس في الواقع سوى دوغمائية جافة خالية من الحياة وتطبيق لنظرة ميكانيكية متحجرة تجاه التاريخ الحي لنضال العمال والمحرومين. إن الاعتراض والتصدي للرأسمالية الليبرالية الجديدة يعود أساساً الى الصراع الطبقي والوقوف بوجه أكبر هجوم تاريخي على حياة ومصير عدة مليارات من البشر الذين يعيشون على هذا الكوكب، لذلك فإن تشويه الموضوع وخلطه مع الدعوة الى رأسمالية الدولة ليس سوى تخفيف حدة هذا النضال.
ومن الواضح، إن بديل الاشتراكيين الاقتصادي والاجتماعي للرأسمالية المعاصرة هو الاشتراكية، وليس النمط الاقتصادي لرأسمالية الدولة أو المختلط. الاشتراكية في مرحلتها العليا تعني (من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته)، وهذا القانون لن يتحقق، ولن يكون قانوناً مثبتاً في المجتمع، دون إسقاط رأس المال ودون تنظيم الحياة الاقتصادية الجديدة على أساس جعل وسائل الإنتاج والنقل والمواصلات اجتماعية. بديل الشيوعيين لليبرالية الجديدة هو هذه الاشتراكية، وليس رأسمالية الدولة أو أي شكل آخر من أشكال الرأسمالية، لذلك فإن الركوع والوقوف حائرا أمام الهجوم الحالي للبرجوازية العالمية على الطبقة العاملة والمضطهدين وعدم التصدي، له سيكون سياسة تخدم البرجوازية، ولا علاقة لها بالحركة العمالية والاشتراكية.
وثمة رأي آخر مفاده إن خصخصة المشاريع الإنتاجية والخدمات هي مسألة مختلفة عن التقشف الاقتصادي وتسريح العمال وخفض ميزانيات الخدمات. هذا الراي، هو كذلك نفسه يعود الى التفكير الخاطئ الذي أشرنا إليه سابقا، وهو نفسه النظرة من خارج الصراع الطبقي، ومن الناحية النظرية رؤية ميكانيكية لأنها ببساطة لا ترى خصخصة المشاريع الاقتصادية والخدمات كإحدى مكونات السياسة الليبرالية الجديدة نفسها، وكجزء من أسس الرأسمالية الليبرالية الجديدة، وفي حد ذاتها استجابة لاحتياجات تراكم راس المال ولا تنفصم عنه.
إن الخصخصة وتخفيض موازنة الخدمات، ومهاجمة أي عمل منظم جماعي للعمال والمحرومين، والقضاء على أي شيء يتعلق بتعزيز دور العمل الجماعي والمجتمع و ... الخ، هي حزمة واحدة غير قابلة للفصل. لا يمكننا القول بإننا ضد قطع الخدمات وتسريح العمال وقطع الضمان الاجتماعي والمساعدات الاجتماعية وضد رفع أسعار الوقود والسلع المعيشية، ثم نأتي ونقول لا تهمنا الخصخصة ولا نقف ضدها، وان يكون تبريرنا لهذا الموقف هو إذا وقفنا ضد الخصخصة يعني قبولنا برأسمالية الدولة كبديل.
وردا على هذا التوجه وهذه السياسة نقول بإن هذه نظرة غير عمالية وغير اشتراكية بشأن هذه المسألة. إذا كان ميزان القوى في مصلحة الحركة العمالية والشيوعية، على سبيل المثال، فان بديل الخصخصة هو إرساء الاشتراكية فورا، وليس رأسمالية الدولة. وإذا لم يكن بوسع الدولة أن تتدخل بالضد من إرادة العمال في إرساء الإدارة الذاتية للمصانع والمنشئات الاقتصادية، لاي سبب كان، وتتوفر درجة معينة من استعداد الحركة العمالية ويكون هناك رواج للسلع المنتجة، يمكن أن يكون البديل هو إرساء الإدارة الذاتية للعمال والموظفين لتلك المصانع والمنشئات، وليس ملكية الدولة.
لو افترضنا، على سبيل المثال، أن يتم إيقاف مشروع خصخصة قطاع الصحة العامة تحت ضغط النضال الجماهيري، فهذا يعني فرض توفير خدمات الصحة العامة على الدولة البرجوازية، الذي هو في حد ذاته جزء من مطالب الطبقة العاملة في جميع أنحاء العالم. واضح إذن، فرض هذا المطلب لا علاقة له بالدفاع عن رأسمالية الدولة، أي انه مسألة تعود الى توازن القوى في ساحة الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبرجوازية.
على أي حال، فإن إغلاق المصانع في القطاع الصناعي في العراق التي تعتبر قليلة الربح أو خصخصة تلك التي هي مربحة، ليس مسالة الرياضيات الاقتصادية وحسابات الربح والخسارة كما تدعي البرجوازية الإسلامية والقومية والليبرالية في العراق. وكما سبق ذكره، فإن كل إجراء في هذه المجالات هو جزء من حزمة، وجزء من السياسة العامة للدولة لتنظيم اقتصاد المجتمع وحماية مصالح الطبقة البرجوازية الحاكمة. كل خصخصة هي جزء من السياسة العامة للنظام القائم، أي جزء من سياسة الليبرالية الجديدة الاقتصادية للبرجوازية الحاكمة، وليس فقط هجوم على العمال في قطاع الصناعة، بل هجوم أيضا على البروليتاريا والشغيلة بمجملها في المجتمع.
اليوم، ليس هناك أحد في العراق، من أوساط القوى البرجوازية القومية والإسلامية والليبرالية والإصلاحيين والبرجوازية "الوطنية"، يبحث عن إرساء نمط رأسمالية الدولة أو الاقتصاد المختلط، إنما جميعهم يبحثون عن تطبيق برنامجهم الاقتصادي وحيازة حصتهم من الفساد والنهب من خلال دينامية الرأسمالية الليبرالية الجديدة، وحركة وتراكم راس المال المحلي والعالمي وفي إطار العولمة. الوقوف ضد الليبرالية الجديدة في هذا العصر، هو الوقوف في وجه الرأسمالية والسياسة الاقتصادية للطبقة البرجوازية الحاكمة، وهو الاستيلاء على خندق في جبهة نضال كادحي المجتمع لإنقاذ أنفسهم من قيود رأس المال والرأسمالية، لذلك يجب أن نقف في وجهها بكل قوة.
لقد ظهرت الليبرالية الجديدة من حيث الأساس كامتداد لأزمة الرأسمالية نفسها، في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وبصرف النظر عن أي شيء آخر، فهي مسعى البرجوازية الإمبريالية العالمية لتغيير موازين القوى لصالح راس المال والرأسمالية في عالم اليوم وبالضد من الطبقة العاملة والمضطهدين.
نهاية أكتوبر 2020