|
سوق هرج
ياسين النصير
الحوار المتمدن-العدد: 1611 - 2006 / 7 / 14 - 10:21
المحور:
الادب والفن
سوق هرج و... بانتظار زمن آخر رواية عائد خصباك 1 تمنحنا عنوانات الأمكنة الإشكالية لنصوص الأدب مجالا لأن نتجول في أبعادها الخفية، وغير المعلنة ، فنكتشف كلما أوغلنا في معاينتها أنها محملة بطاقة تأويل لاستنهاض ألسنة المحلي والعادي والشعبي الكامن فيها وفي غيرها. فالتأويل في أقرب معانية جمع لألسنة المتحاورين في بؤرة واحدة، ومثل هذه الأمكنة تمنحنا مثل هذه البؤرة خاصة وأنها تتحرك بين الواقع والرمز، بين ان تكون مفردة شائعة مثل السوق أو مفردة مؤولة بما يحمله السوق من دلالة العرض والطلب . فـ" سوق هرج" وهو عنوان رواية عائد خصباك الجديدة الصادرة عن دار الهلال - مصر2004 واحد من الأمكنة الإشكالية ففيه مخزون من الكلام اليومي المتعدد الألسنة والمحمل بإشكاليات التغيير المستمر ومادته الظاهرة تتجدد بقِدمها وفيه سمة واقعية هو ما يوجد في كل مدينة سوقا يحمل هويتها، وفيه أن يكون مكانا مؤولا لسياقات اجتماعية واقتصادية وثقافية يمكن أن تقيس فيه مرحلة وتبدلات أزمنة. فبعض مستويات العنوان ظاهرة للعيان، نراها ونمارس وجودنا فيها ونتعرف عليها ونتعود على التعايش معها كالدكاكين والمحلات والساحة والأزقة فتبدو وكأنها جزء منا كـ"السوق". وبعض مستوياته تكمن في أعماق قريبة من الظاهرة فلا تكتشف إلا بالممارسة اليومية المستمرة، كالعلاقة بين البضاعة وحركة السياسة، البضاعة وتقلبات أحوال الناس، ما يدور خفية بين مالكي المحلات ، ما يمكن أن يحدث في العلاقات العامة مع الآخرين كالبيع بالدين أو الربا أو الأمكنة المخفية التي تشهد حوادث الجنس والاغتصاب وما إلا ذلك. وغالبا ما يشاركك الآخرون فيها مثل " الهرج"، والقسم الأعظم من هذه المستويات يمكن في أعماق النص، كالتكوين الحديث للحداثة التي تفرزها مسوغات العمل أو العلاقات المشتبكة بين رغبات الناس وواقعهم، أو التغيرات الاقتصادية الكبيرة التي تنعكس على حياة الناس دون أن يفهموا جدل الاقتصاد والسياسة أو صعود فئات هامشية منبوذة للتسيد حركة السوق في الشراء أو البيع وهذا لوحده هو ميدان النقد حيث النص هو الخبر المجهول في المعلوم من الكلام. كلما مررت بمثل هذه الأمكنة الإشكالية أو تعاملت معها نقدياً تزداد عندي غموضا، وتتمنع عن استقبال السؤال عندما لا تكون أداتي الفنية جيدة ومختبرة. فالمخفي منها عندما لا يظهر على السطح ويصبح معلنا للناس ويتحول إلى سلعة تستجلب أصوات جديدة ومشترين جدد وتعلن عن ظهورها إلا في حال أن أمتلك أسئلة جديدة تكشف عن العلاقات الخفية غير المعلنة فيها. فكلام الناس اليومي هو خبرة لتجارب الإخفاء والتستر وليس كلاما يوصل أفكارا فقط، فما يحدث تحت اللسان كما يقال شعبيا هو " السواهي والدواهي" . فالسوق شيخ الأمكنة في المدينة ومولدها، فهو جامعة للناس، وموطئ لكل الأقدام ولسان لكل المقيمين والمارين، يميت القديم وينشئ الجديد، وما بين الموت والحياة تباع آلاف الأشياء وتشترى. ومن الصعوبة بمكان أن تحتويه رواية أو قصيدة ما لم تحمل أسئلة جدلية تبحث عما تحت السوق من علاقات. وفي القراءة المكانية له نجده من الأفكار الاسفنجة التي تمتلئ بماء الاحتمالات.. عنوان الرواية " سوق هرج" مؤلف من مفردتين مبهمتين هما: المساحة" السوق" والصوت" الهرج" مكان وزمان. فالصوت يوسع من دلالة المساحة بتراكمه،والصوت هنا ليس ما يصرخ هادي طرزان إعلانا لبضاعته، بل هو حياة الناس كلها من هم في السوق ومن هم في البيوت. والمساحة تدون ما يدور فيها بمعرفة ما يستدل عليها بالصوت- الحال. وكلتا المفردتين تحركهم أسئلة الناس في مواقعها القديمة والجديدة. فالمعروض للبيع معروض للشراء أيضا، والبائع مشتر، وما بين البيع والشراء تعمق إحساسك بالدوران حول أزمنة وأمكنة أخرى تندرج في البقعة المشغولة بين السوق - البيت - المحلة،والسوق- المدينة- الدولة. بين محلات الناس وبيوتهم وأشغالهم، بين حياتهم القديمة وما أتى عليها من تغيير، بين ما كانوا قد خبروه من حيوات القدامى وما يفعلوه اليوم لحياتهم التي لم تكن على وتيرة واحدة، بين تداول الأجيال وتعاقبها، وظهور أجيال جديدة من الشباب في المهن ذاتها وفي مواقع الآباء نفسها واختفاؤها. فالسوق أسئلة مفتوحة على المكان والزمان. كي تصبح مشحونا بالماضي وبأحاسيس الغرابة في الحاضر عليك أن تجاور في السرد بين أجيال عدة لتضع على ألسنتها أقولا عدة لرؤية حال واحدة مشتركة ومتدرجة. والسؤال لماذا تحتاج الأمكنة القديمة وأشياؤها من المهمل والمتروك والثانوي إلى مساحة مشاعة ونداء يروج لها؟ بينما لا تحتاج الأمكنة الجديدة والبضاعة الجديدة لمثل هذا الترويج ؟ هل ترتبط الأمكنة القديمة وأشياؤها بذلك الأفول الذي يجمد الزمن؟ بينما الأمكنة الجديدة وأشياؤها ترتبط بتقنيات الإعلان والحداثة التي تحسسنا بجريان الزمن؟. ربما سيكون من المفارقة أن ما يضع جدل المدينة الحديثة في موضع تساؤل مبهم هو هذه المزاوجة في الحداثة أن لا جديد بدون قديم يموت أمامنا، فالحداثة تكثف الرؤية للماضي لتعزله، والأدب في مجمل تصوراته هو في مثل هذه الأسئلة عين استعادية لما مضى، وأخرى أكثر اتساعا لما يأتي، والجريان بين الاثنين هو في صلب عملية الإبداع. 2 بمثل هذه المعاني المختفية والتي لا تكشفها إلا الأمكنة الإشكالية مثل: السوق والسجن والمقبرة والمقهى والسينما والمزارات والجوامع والإسطبل وأمكنة العمل الموسمي، يمكن لأدبنا القصصي أن ينتقل نقلة جديدة وبأفق أكثر حداثة عندما يكتشف في المحلي الإشكالي مادة لم يتطرق إليها أدب المراحل السابقة. فمن داخل التراكم التاريخي لمثل هذه الأمكنة تعثر على القيم الجمالية التي لا توجد إلا في المفارقة المكانية وأعني في تلك الأمكنة التي تتجاور فيها الألسن المختلفة.. فعنوان الرواية لوحده يفصح عن مثل هذا التراكم: فالسوق وما ينطوي عليه من معنى شامل تتسع دائرة القول المتنوع فيه لطبيعته المعلنة المباشرة والخفية. فهو سوق للبضائع المهملة والمتروكة، كما هو سوق للعواطف وللمشاعر المنوعة، وسوق للحب وكشف المستور وهو أيضا سوق للربح وللخسارة، للشحة وللوفرة، سوق للإرتكاس وللتقدم، سوق للأقدام العابرة وللمستقرة، سوق ترى فيه ما تركته الأحداث السياسية على الرجال الذين مروا بتلك المواقف مسجونين أو متظاهرين أو جواسيس أو حراس أو باعة السجاد أو الشاي، سوق ترى فيه أحاديث البيوت السرية علانية وأحاديث النساء على أفواه الرجال وكل الأقوال مسندة بحديث آي من القرآن، فالسوق تجارة ولغة في الألسن والحياة. تقلب الناس فيه حياة المدينة وتقلب في الوقت نفسه حياتها يوميا، فتجد أن قرارات الاقتصاد والسياسة والثقافة، معروضة للتداول كأي سلعة لم تعرف بعد قيمتها، فما يفعله الحكام المحليون تنعكس على وجوه وبضاعة وأسعار المواد فتشعر أنك في سوق السياسة أيضا، وفي كل الأحوال تتحسس مشاعرك وأنت تقود قدميك بين بيتك والسوق، وفي الخلف منك ثمة أسرة أو حبيبة. في السوق ترى وجه البلاد وقفاها. تفتح الشخصيات فيه أعينها وأصواتها المحملة بغبش يوم مر على قدم وتغلق على أمل العودة إليه ثانية. وفي العراق اختصت كل مدينة بسوق خاص بها الذي حمل هويتها، كما أختص كل سوق بهوية مدينته فحملت هويته..فالسوق سفينة يتجاور فيها الراكب والملاح.. في رواية " سوق هرج " نقرأ في النكرة " هرج" بنية الخبر الممتد على كل أزمنة العراق وأمكنته، فالعنوانات المبهمة أكثر المفردات تمد السرد بامكانات مضمرة فيها، فالسوق مكانا عاما وثقافته تتشكل في كل لحظة بمن يؤثر فيه، وهذا يعني نجاحا أوليا على الشخصيات التي اختارها عائد أن توفي حق هذه النكرة المتجددة، وعلى أمكنة السوق الفرعية وحواشيه أن تمنح هذه الشخصيات طاقة من الكلام. فهل كانت الشخصيات وأمكنتها بمستوى المهمة التي اختارها عائد لرواية أرادت أن تتحدث عن أحداث العراق بعد ثورة تموز بسنوات خلال حياة أناس شعبيين ارتضوا أن يجاورا بعضهم البعض في السوق ويهرجوا بما عرف عنهم وبما لم يعرف فكان هرجهم تاريخا يكتبه بسطاء الناس هو بالضرورة غير التاريخ الذي تدونه أجهزة السلطة، نحن إذن في سوق عراقي يبيع كل إنسان فيه بضاعته القديمة – الجديدة ويشتري ما يبيعه الآخرون.؟.
3 في مسار الرواية العربية، لا نعثر على جدل الأمكنة الإشكالية إلا ما ندر، فهي خزين لتاريخ الأشياء. والروائي الذي لم يتثقف بثقافة الأمكنة ليس بمقدوره اختيارأي منها في روايته دون أن يتعب في تقصي تاريخها كله. فالحرافيش مثلاً اختارت مصر مكانا، واختارت ثيمة التعاقب على حكمها من الفتوات ما يتلاءم وتاريخ مصر الديني والشعبي والتراثي، واختارت أمكنة فرعية ضمن خارطة مصر تجسد هذا التعاقب الذي يمارس التاريخ عليه فعل الامحاء والأفول وفعل التجديد، فكل تجديد لا يأتي إلا بعد أن يندثر القديم إلا شاخصة تبقى منه لتعيد اشتعال النار في الأمكنة الجديدة. ورواية عائد خصباك "سوق هرج" لم تخرج كثيرا عن تأثير الرواية المصرية، خاصة روايات نجيب محفوظ لشدة ارتباط عائد بالثقافة المصرية وقربه الشديد من إنجازاتها- ، فنجد ثمة تخطيط لاختيار الشخصيات النموذجية التي يمكنها أن تحتوي إشكالية السوق وجهل من أجيال قديمة وإلى جوارها أبناؤها، وفي الوقت نفسه تكون الشخصيات إشكالية خاصة بالمجتمع الذي تمثله عندما تتناوب الحكي عما مضى وعما يجري. فنجيب محفوظ وخبرته الطويلة لا يختار مكانا بدون الشخصية المستوعبة لثقافة وهوية المكان، ولذلك تقرأ تاريخ مصر في تعاقب فتواته وتاريخ مصر في تغيرات أمكنته ، وتاريخ مصر الجديد هو الناتج من موت الشخصيات والأمكنة القديمة بما يظهر من نتاجها دون أن يلغى أحدهما. فالنتاج الجديد مهيأ بحكم ما يحمله لتغيرات أخرى أكثر حداثة، الحركة اللولبية التاريخية لا تكتمل دون قوائم ثلاثة: القديم الذي يلغى، والجديد الذي يظهر، وما بين الاثنين الذي يحمل المستقبل. لذا نقرأ القاهرة خلال الثلاثية بشخصياتها ونقرأ القاهرة في عوامة ميرمار ونقرأ القاهرة القديمة في القاهرة الجديدة، وفي الوقت نفسه لا تقرأ الشخصيات بدون خلفية القاهرة. بمثل هذه المصاهرة ينهض فن الرواية على جدل: المكان والشخصية.. وفي أدبنا العراقي تقرأ المحلة في شخصيات النخلة والجيران في رواية غائب طعمة فرمان، وتقرأ الشخصيات خلال هوية ونموذج المحلة، وتقرأ الأبعاد السياسية وانعكاساتها في الرجع البعيد لفؤاد التكرلي، لتعيد قراءة شخصيات الرجع البعيد في بعقوبة وبغداد. في " سوق هرج" شيء من هذا كثير ولكن بقيت الرواية ضمن إطار مستويين اثنين: الأول هو الفرشة التي أقامها الراوي للعلاقات بين شخصيات السوق، وهي سياحة جوهرية في هوية وأعمال الشخصيات وانتماءاتهم وجذورهم وما يقولونه وما يضمرونه مصحوبا كل هذا بوظائفهم وأعمالهم وتاريخ أسرهم وما ورثوه وما يرثوه، بما قيل عنهم وما قالوه عن الآخرين، وهذا المستوى استغرق أكثر من ثلثي الرواية عندما وجد عائد في سرد حياة أكثر من ثلاثين شخصية مختلفة الأسماء والأعمال والمواقف والعشائر والمهن بينهم العراقي واللبناني والإيراني وغير العربي طريقة في أن يعرفنا على ما يحتويه السوق. المستوى الثاني هو ما يدور في البيوت متجزئا عما يدور في السوق واختصرت العلاقات في هذه الأمكنة على ما تعكسه حياة السوق أو يستجد. فالبيوت وهي مشاركة بين الرجال والنساء وفي وضع تكون المكاشفة والأسرار أكثر كتمانا واقل حركة يتكشف السطح الثاني من علاقات السوق بطريقة أكثر خصوصية فما يدور قد لا يشمل الجميع مثلما يكون في أحاديث السوق العلنية هنا الصوت مهموس والحال مغلفة بعباءة البيوت، واللسان لا يتجاوز المحور الثلاثي الزوج والزوجة والعشيق.
4 في أول ملاحظة نقدية يلمسها القارئ في رواية " سوق هرج" أنها موزعة على أرقام ، تسعة عشر رقما، قد نعدها فصولا أو مشاهد،وعندي أن مثل هذا التقسيم يحرفها عن بنية الرواية ويجعلها نوفل بـ 172 صفحة، فالأرقام ليست دالة على التوزيع بقدر ما تدل على الانسياب في حين أن الرواية يمكن أن تقسم إلى قسمين كما توحي تطورات الأحداث، قسم يعالج الأشخاص مفردين في حياتهم والسوق، وقسم يعالج الأشخاص بامتدادهم في البيوت والمدينة أثناء تحولهم وتحول الاقتصاد وحياة الناس. في القسم الأول يمكننا أن نتلمس الطاقة الفردية ودورها في بنية الشخصية وطبائعها وحياتها المعلنة وهو ما يشكل السطح في السوق وفي الهرج، أما القسم الثاني فيشكل البنية التي لم تظهر للعيان؛ بنية العلاقات المشوهة والنظيفة التي تحكمت بالسوق وبالشخصيات. وتقودنا هذه الملاحظة إلى حقيقة نقدية تحدثنا بها مرارا وهي أن الرواية العراقية لما تزل حبيسة الرواية القصيرة " نوفل" حتى وإن أثقلت صفحاتها بالشخصيات ومن يقرأ " سوق هرج" يجدها رواية قصيرة تتحكم بأرقامها- مشاهدها- بنية القصة القصيرة القصية، وبمجموعها تؤلف رواية قصيرة. صحيح أن عددا من الروايات قد امتلكت سمة الرواية ولكنها قياسا بما ينتج تبقى الرواية القصيرة مهيمنة كجزء من الطاقة النفسية والشعورية وتشابه الأحداث وأحادية الرؤية للمجتمع وللتاريخ التي تشبع بها القاص العراقي إضافة إلى هيمنة الروح الشعري والقصصي القصير على مناخ القص والمتابعة وتعميق الحديث والغوص لأعماق ابعد مما نعرف. الملاحظة الثانية أن معظم الشخصيات مشوهة،أو أنها من تلك الشخصيات التي تحمل علامات فارقة عن الآخرين فتكنى بها، والتشويه إما أن يكون جسديا أو فكريا أو ثقافيا، أو جنسياً، ثمة تشويه بالاسم " هادي طرزان الذي أفقر بعد غنى أو علي المخبل الذي يجمع أوراق الشارع أو سليم الشاعر الأعور وعاشق الغلمان أو الشيخ باقر الكسيح أو يحيى الأعمى الذي يتغزل بالألمانية هنيكا، أو الحوذي الذي لا يملك إلا حصانا مريضاً، أو الوسخ الذي يتوسد الأرض، أو بائع الكروش الذي اغتنى وأصبح مشهوراً، أو السكير، أو الحكواتي الكذاب أو المرأة المصابة بالجذام، أو الصبي بلبل، أو يونس أبو بازو المأفون الذي أصبح تاجرا ومالكا لكل المحلات والناس، أو ترباس الحلاق، أو طانيوس أبو حشفة ..الخ. فمثل هذه الشخصيات يمكنها أن تنطق بما لا ينطق به الآخرون بحكم أن التشويه مادة يمكنها أن تفتح نوافذ سرد أخرى، فهو من النكرات التي يمكن أن يضيف عليها القارئ أو ينقص، ويمكنها أيضا أن تحتمل من الأفعال مالا يمكن أن تفعله الشخصيات السوية في الأمكنة المعلنة كالسوق. ترى هل أن فعل السرد القصصي يتطلب أحيانا اختيار الشخصيات المشوهة؛ مثل أحدب نوتردام، أو المهرج في الملك لير، أو البلياتشو في الأفلام والمسرحيات، أو قرقوز أو البهلول في الحكاية الشعبية، أو الساحر أو خارق القوى في الحكاية الخرافية، بحيث تصبح العاهة موطنا للسرد؟ وهل تصلح الشخصيات المشوهة أن تكون نموذجا لحال مستقبلية بحكم أن ما تنطقه هو خلاصة لتجربة ماضية لم تكشف كلها من قبل؟ رغم أن أحدا لا يفكر بأن يحصل من الأدب على رؤية مستقبلية يمكنها أن تتحول إلى برامج عمل لمجتمع ما؟. أعتقد أن تحضير الواقع يتم أحيانا عن التعامل مع الصورة السلب " نكتف" له، والشخصيات المشوهة صورة أخرى مغيبة عن الواقع العلني. وعندي هذه المفردة، مفردة الشخصيات المشوهة واحدة من اكتشاف القاص لنماذج شعبية جديدة يمكنها أن تحرك مواطن السرد القصصي الجديد بعد أن قرأنا الكثير عن الشخصيات الملتزمة والإيديولوجية وصاحبة القضايا المصيرية والمشاريع الثورية وتناسينا شرائح أكثر حضورا وفاعلية في الحياة الشعبية، وهي تلك التي تعيش بيننا دون أن تثير شهية السياسي والمثقف وصاحب الشأن. فكل ما نقص من معرفة الشخصية يمكنه أن يظهر على ألسن غير ناضجة كحكمة أو قول عجيب أو كلام غير مألوف، كما يفعل علي المخبل في معلوماته عن التاريخ والدين والفتوحات وصناعة الورق وفوائد الحب والتشبيه، أو هادي طرزان عن السجن والتعذيب والفقر بعد الغنى، أو الشيخ باقر عن الجنس والمرأة. أو زوجة الشيخ باقر عن التعازي وقراءة القرآن ناقصا أو أغراء هنيكا بقدومها المستمر ومن ثم لطمها على الحسين.فالناس الشعبيون مغرمون بالعجائب التي ترد على ألسنة العجزة والخرسان والطرشان والعميان والمخبولين والغرباء والشواذ كما أكد ذلك الجاحظ منذ زمن بعيد، فالحكمة تأتي من أفواه المجانين كما يقال وتزداد قناعة عندما يكون ميدانها السوق وبصوت المهرجين. لكن عائدا لم يترك سوقه بلا رجال دين ورعين أو أناس تجار معتبرين يسمع صوتهم وتنفذ أقولهم الحاج عبر الرزاق مثلاً الذي لم يختم القرآن ولكنه كان موضع احترام كل محلات السوق ورجاله، وبهذه المعادلة يضع عائد السوق في موضع المجتمع المتوازن الذي تحدث فيه الحوادث مثل الضرب بالموسى أو المطوى أو أي آلة جارحة وإلى جواره يعلو صوت التهدئة والصلح والنسيان والمحبة. فقوانين الدولة يمكن تجاوزها بتجاور النقيضين في مكان شعبي قابل للمساومة. إلا أن للمشوهين مهمة أخرى سعت الرواية لها، وهي الوجهة المختفية تحت مظاهرها العلنية تلك هي أن المرحلة التي شهد السوق فيها تحولات جذرية فقد أصبح المأفون سيدا مالكا كبيرا عندما استغل مهنته في الاغتناء ليعود مثل السيدة زيارة السيدة العجوز في مسرحية درينمارت لتعمير المدينة. فها هو يشتري كل ما تقع عليه أنظاره ثم يعيد بناؤه، ويمد يد الربا لأصحاب محلات الخمر فيسلفهم ويمدها للمعوزين مثل مرتضى السائس ليجير عمله لصالحه، ولم يقف الأمر عند هذا بل بدأ بتشغيل النساء وأزواجهن ليغشي أحدهم بالآخر كجزء من بنية مدينة لا بد للعهر أن يكون في بؤرتها، في حين أن الأعور شاعر الغلمان أصبح من الشعراء الكبار يؤمه الموظفون ويتودد إليه الأطباء ويسمعه المحترمون حتى تسيد له بمكانة بينهم بينا عينه الصاحية تطل من بعيد على فاضل المغني الذي عاش معه حياة مليئة بالفسق.و أصبح السائس صاحب محل كبير،ومحمد الرجل المهمل أصبح صاحب شقاوات، وأصبح الطبيب بعيدا عن مهنته، والسكير متسيدا العمل السياسي، وقارئة التعزي مرشدة دينية وثقافية، وتحولت بعض محلات السوق إلى ما هو أكبر ببضاعة جديدة وبمالكين جدد، أما الإسطبل فقد تحول إلى مبنى لعمارات كثيرة وساحته لملاعب الأطفال في حين يبيع الحاج عبد الرزاق بيته لفقره ولطيبته فيشتريه أبو بازو وهكذا ما أن يمر أبو بازو على مكان إلا واشتراه. ويستبدل هادي طرزان بعد أن تضربه عصابة أخيه الصغير محمد فيشل صوته وهو بضاعته التي تاجر فيها بالسوق مناديا بغيره ليعتلي التنكة التي يقف عليها بينما هو عاد بائعا للماء وسط مرض لم يفق منه وهو السكر.في حين أن المناضلين الذين دخلوا السجون بعد 1963 ومات بعضهم في التعذيب لم يعد لهم وجود في حياة المدينة ولم يذكرهم احد بل خرجوا بجراحهم وهم يتسترون بما يعرفونه ويرددونه من نظريات قديمة بينما السوق تنهض على تراثهم متجاوزة أيامهم وطرق عيشهم وتفكيرهم، ولم يقف الأمر كما سنرى في الصفات الأخيرة عن هذه الحال بل أن التبدل الاقتصادي الذي أصاب المدينة هو في صلب العمل الروائي الذي تخفيه حركة السوق عن أعيننا القارئة. لتصبح بالتالي حركة المدينة الحديثة مرتبطة بمعادلة مشوهة للسوق وللاقتصاد، فالحداثة كما يشير غوتة في " فاوست" تتطلب أحيانا التحالف مع الشيطان كي يبيعك أدواتها الجديدة. ولكن أي أدوات جاء بها حكام ما بعد ثورة تموز، هذا ما لم تفصح الرواية عنه فعائد يشير إلى مرحلة مهمة هي أواسط الستينات وأوائل السبعينات وعليه أن يكملها فالمدينة التي اختارها وهي الحلة بتراث بابل الكائنة في أعماقها قادرة على رؤية موسعة لمعاينة المراحل التي مر العراق بها، فهي مدنية وسط تتجاذبها الأديان كلها وتقترب في مسارها من العاصمة بغداد المركز ومن النجف السلطة الدينية. وكلتاهما مؤثرتان في حركة المدينة، فخير مكان يمكنه أن يستوعب كل المتغيرات هي الحلة أي المدن التي تشهد انعكاس الأحداث الكبيرة عليها. الملاحظة النقدية الثالثة التي توحي بها هذه الرواية، أنها تقيم بيتها الروائي تحت ظل المهيمنة الفكرية دون أن تشترك هذه المهيمنة في تكوين أية مفردة جديدة فيها،والمهيمنة في هذه الرواية هي ما تركته أيام ما بعد ثورة تموز 1958 من اثر على السوق وعلى الناس الشعبيين دون أن يكون هؤلاء من صناعها. فالسوق الذي تحدث عائد عنه هو من نتاج اقتصاد تلك المرحلة ومخلفاتها،فعندما تفتح الأبواب عن أحاديث مضت فلا حديث يجري إلا ولثورة تموز نصيب فيه، ولا شخصية تحكي إلا وظهر على لسانها قول يرتبط بالثورة، ولا حاجة تعرض في السوق إلا وكان اسمها متداولا يوم ذاك. بمثل هذه الخلفية المهيمنة أبقى عائد خصباك على شخصياته شيئا من رائحة الماضي المشترك فجعلها تستحم دائما في حرارته القريبة وتقلباته السياسية وفي لغته التي ما تزال الكلام المشترك بين أجيال مختلفة، مفصحا عن أسلوبية مضمرة في القص الشعبي، وهي أن الماضي حتى المرفوض فيه هو صرار نحملها على ظهورنا دون أن نستطيع انتزاعها من أفكارنا. فلكل منا أب يحاول أن يتنكر له،ولكن بحكم الإرث نبقى نحمل اسمه. فهل كان عائد يسعى لتأسيس مثيولوجيا شعبية تقوم على حس المفارقة التي تفرضها حركة السوق في أن تجعلنا ننتمي للماضي المرفوض خلال حاضر يتشكل؟ أم أن التجديد لا يستقيم إلا على آفل يضغط علينا؟ ربما نجد في الرواية شيئا من هذا وغيره مدفونا في تضاعيفها دون أن يسلط عائد الضوء الباهر عليه. فلا شخصية تتنكر لما قامت به، ولا شخصية تخرج عن إطار التعامل معها، حتى النساء بقين ملتصقات بأزواجهن القدامى رغم ما يعرفون عنهن من مفارقات. ولا شخصية فرضت نفسها على الرواية دون أن يكون موقعها قد هيأ لها الممارسة. ولا مكان تعاملت الرواية معه لا يحمل رائحة الأفول والاندثار والتجديد معا. إلا أن التحول الجوهري في حياة السوق والناس والمدينة هو أن من أتى بالجديد على السوق وأجرى التبدل والتغيير هم من مشوهي الناس وسماسرة العهر والفعل الناقص مما يدلل أن التشويه نشأ بعد اغتيال ثورة تموز وبعد أن أصبح الأعور شاعرا كبيرا والمأفون مالكا كبيرا والمدنية تتحول من الإسطبل الوسخ إلى العمارة الحديثة والعربة القديمة تستبدل بسيارة موسكفويج جديدة والشارع قد بلط أما الناس الكبار فقد فسحوا لأبنائهم أو لم عمل عندهم وسرقهم ممتلكاته. الملاحظة النقدية الرابعة على الرواية، هي أنها بعد الستين صفحة الأولى منها تشعر أن القاص بدأ يعيد حكاياته السابقة، ولكن بطريقة أكثر سعة. ففي القسم الأول الذي استغرق حوالي 70 صفحة كان يتتبع حركة الشخصيات في السوق، بينما القسم الثاني بدأ بتقص تكوين الشخصيات القديم وتحولاتها الجديدة وفي هذا القسم بدأ يعيد ما توصل إليه وأضاف عليه التاريخ الشخصي للشخصيات أو التاريخ المخفي أو تلك المكونات التي بنت الشخصية وتاريخها الجديد وهذا القسم لوحده هو من يوضح طريقة بنية العلاقات الجديدة وتطور مفهوم الحداثة في المدينة الوسط.فما يزال فن القص يرتبط بطرح الشخصية وموقعها في السوق ثم يبدأ بالبحث عن خصائصها في التعامل مع الآخرين وهي الطريقة نفسها التي شمل بها كل الشخصيات. وقد يكون هذا مجرد انطباع أولي من أن الأماكن الإشكالية المتشابهة والشخصيات المرتبطة بمنهجية عمل متشابهة تتكرر ويعاد النظر إليها في تتشابه الأفعال واختلاف الأسماء. فمثل هذه المراوحة هي مادة القص الحديث خاصة الواقعي ومناخه، وهي بالتالي مولدة ليساق حياة سوق متكرر الأفعال والوجوه. مما يعني أن السياق إذا بقي نفسه بقيت سمات الرواية متكررة ومعادة. في حين أن ما قرأنا في الصفحات السبعين يمكن أن يشكل أرضية لطبقة أولى من حياة السوق وفعل الهرج فيه، لنتعمق أكثر في بنية طبقة أخرى كامنة تحت الأولى مع بقاء السوق وفاعلية الهرج قائمين، لنكشف عن مستويات جديدة قد تكون طبقية أو فكرية أو تراثية هي بالضرورة ضمن سياق السوق وسياق الهرج التاريخي. ولكن عائدا فضل أن يبقى في العلاقات التي تحكمها أفعال السوق اليومية مادا خيوطه من بين السوق والبيوت، وبين السوق ومحلات لقاء العاملين، بين السوق وتراث الشخص، بين السوق ومكونات أسرة الشخص، بين سوق اليوم وسوق الأمس، بين الأبناء الذين استلموا أعمال آبائهم وبين الآباء تراثا وبقايا كلام. بين النهار الذي يملأه العمل والليل الذي يجلسون فيه على مسناية النهر لاحتساء الخمر،وبمثل هذه الفعالية السردية لم يخرج عائد كثيراً عن موقع تعرف عليه وربما عمل فيه وتربى حيث له في ميادين السوق حضورا كما نعرف عن تركيبة عائد الأسرية والاجتماعية. وبهذا فهو يكتب رواية عن حياة يعرفها وعن ناس تعرف عليهم وهذا ما يجعله محتاطا لكل خروج غير مألوف عن السياق الأخلاقي والديني لمثل هذه الأسر الجوار. حتى أن ختان الدكتور سامي طانيوس على يد ترباس وبمكيدة من زوجة الشيخ باقر قارئة التعازي ونسوة المحلة تمت دون تسجيل أي دعوة. فالحس الاجتماعي العام يتطلب أن لا يكون أحدا خارج سياق المألوف والدكتور سامي مسيحي ومتزوج هنيكا الألمانية ويربي الكلاب والكلاب تأتي بيت الشيخ باقر مع الزوجة فتدنس الأرائك والفراش مما حدا بزوجة الشيخ باقر وبقية نسوة المحلة من تدبير أمر ختان الدكتور سامي دون علمه ليصبح مسلما دون تغيير الدين، فادعت المرض وما أن كشف عليها حتى أوثقته بالكلبجات على السرير بمساعدة النسوة ودعت ترباس وصبيه بلبل للقيام بفعل الختان، هذه المفارقة تجعل من سلطة المحلة والتقاليد متجاوزة سلطة الأخلاق ليس للدين فيها نصيب بقدر ما تثبت الواقعة أن للشيخة المشوهة سلطة أخرى على تسير الأمور وفق ما تريده ضاربه بتقولات قارئات التعازي الأخريات اللائي فقدن موقعهن بين الناس بمجيئها. في القسم الثاني من الرواية نجد أن القاص بدا بتقصي حياة الشخصيات والكشف عن تاريخها فعرفنا أن هادي طرزان من أسرة غنية غدر به أخوه الأكبر فاستولى على الإرث وبقي أخوه الأصغر عاجزا عن إدامة أسرته الصغيرة بينما هادي عزف عن الزواج وارتضى أن يكون مناديا في سوق هرج على التشبث بماض لم يبق، وعرفنا أن الشاعر سليم الأعور هو من محبي الغلمان فسعى كي يكون له صبيا فوجد في الخباز فاضل صديقا وخدينا ، فبدأ بصداقته لينتهي الأمر صبيا له فأصبح فاضل مغنيا وتوله به حتى أنه مرض بسببه ، وعرفنا أن يونس أبو بازو الفقير الذي قادته أمه للعمل في محل الحاج مجيد ثم استولى على بضاعته واستولى على السوق وصادق راقصة صرف عليها أوله ثم هاجر إلى الخليج أو اختفى ليظهر بعد خمس عشرة سنة وهو غني يشتري المحلات والدور ويوسع من تجارة الربا بين بائعي الخمر ثم ها هو يستقبل هادي طرزان ومرتضى السائس لعمل لهم علهم يجدون في بيع الحصران من البلاستك مجالا للعيش بعد أن أفقرت تجارة الخيول وسدت أبواب الإسطبل الذي شهد غزوات عشاق الليل من النساء والغلمان ومن بينهم يونس أبو بازو الذي تذكر الإسطبل بعد غناه وما جرى لهه فاشتراه من ورثته ثم فتح الله على المخنثين الرزق فها هو يشتري محل الحاج عبد الرزاق الذي أفقر هو الآخر لورعه وتقواه فالسوق لا يبقى فيه إلا من دنس مفهوم التجارة ومن ارتضى الربح الحرام ومن فسق ومن زنى ومن تاجر بالخمر والمخدرات ومن عمل عملا فاسدا بين الناس ومن أغشى زوجات الأصدقاء ومن ثم قام بما لا يرضى به الدين والشرائع. الملاحظة النقدية الخامسة التي تمنحها هذه الرواية لنا، هي إنها من روايات الريف رغم أنها بنت علاقاتها في المدينة، ولعلها الرواية الأكثر وضوحا حسب قراءاتي للرواية العراقية القليلة في المهجر التي تبني أعمدة بيتها على سوق ريفي وهرج في المدينة، " فالسوق هو ناتج لحياة الريف كذلك البلدة أما المدينة فتغذيهما بحياة روحها" كما يقول فزنسواز شواي في السماتية وتنظيم المدن ص 30 رغم أني من القائلين مرارا أن لا رواية عراقية بنت علاقتها الأسلوبية والفكرية والثقافية بالكامل على مكونات المدينة. كل رواياتنا العراقية بنت علاقاتها إما في الأرياف أو حواش المدن أو المدن البلدات، حتى تلك التي أقامت أعمدة بيتها في الجامعات لم تكن علاقاتها مبنية على حركة وفاعلية المدينة مكانا وفعلا ومتغيرا وتكويناً. ومن يقول أن روايات مثل النخلة والجيران والرجع البعيد وخطوط الطول خطوط العرض والشاهدة والزنجي والراووق وغيرها قد استعانت بالمدينة لتنشأ علاقات تمتد بين الريف والمدينة، ولكني أقول أن استعانتها بالمدينة مكانا فرضتها طبيعة عمل الشخوص وتنقلاتهم وليست بنية المدينة ومكوناتها ليظهر فيها تغيرات الزمن بتغيرات المواقع والأفكار. ومثل هذه النقلة في الرواية العراقية تتلاءم وسياق الثقافة العراقية التي بنت نفسها ضمن ثقافة الطبقة الوسطى المحرك الفاعل لحياة الاقتصاد والسياسة والسوق وهي تتحول وتغير أمكنتها تبعا لحاجاتها في التحول والتطور. كما أن المواضيع الاجتماعية الكبيرة في العراق تنسجم وطبيعة الشخوص الشعبية التي تجد في الأمكنة الوسطى بين المدينة والريف مأوى روحيا يمكنه من أن يستوعب حديثها وفكرها وتحليلاتها. فالشخصية العراقية ما تزال تعيش في الريف وإن كانت في المدينة حيث ملاذها ومكونها الروحي ففيه تجد نفسها وقد عالجت أهم وأعقد المشكلات، فالتغيير المفاجئ للشخصية وتنقلها إلى أمكنة جديدة وذات طبيعية مدنية يغّربها ويضع على لسانها أقولا غير دقيقة. من هنا نجد التغيير الحاصل في تغيير بنية المدينة وتحولاتها من الإنتاج الصغير إلى الإنتاج الكبير هو تحول في بنية العلاقات الاقتصادية ودور النقد والمؤسسات والصناعات والطبقة العاملة وحركة رأسمال ومثل هذه المفردات قلما يتطرق إليها روائي عراقي بعد،لأنها ترتبط بشخصيات لم تجد نفسها في بنية المجتمع العراقي بعد، ربما سيكتب روائيا آخر في زمن لاحق عن شخصيات تسللت إلى المدينة وكونت نفسها وموضوعها بمعزل عن بين الريف الروحي. كل ما حاولت الرواية العراقية فعله هو أن تعيد بناء علاقات اقتصادية جديدة وبسيطة. فعند غائب طعمة في النخلة والجيران استبدلت الطوله ببنايات حديثة، وتنور الخبر بفرن الصمون والمغني الشعبي بصوت الراديو والسير على الأقدام بالبايسكلات والعربة بالسيارة، وهي تحولات بسيطة لا تخلق شخصية مدنية. في " سوق هرج" نجد تشابها في ذلك وفي مدينة الحلة وهي اقرب للعاصمة في التحولات وفي مواقع نابضة منها كالسوق وبوساطة أحداث متنقلة بين السوق وحواف المدينة. فتغيرت بعض ملامح المدينة نتيجة وجود رأسمال جديد ولكنه تغير بسيط ويمس حياة شخص واحد هو أبو بازو في حين أن شخصيات كثيرة انهارت بسببه. الملاحظة السادسة، أن عائدا محكوم بتاريخ الشخصيات،تلك أتى بها للرواية لتعيش في بيتها المتسع بعد أن ولدت خارجه- يعيد أجزاء من حياتها السابقة عن طريق الإخبار وليس التداعي، وهي طريقة شعبية تتلاءم وسياق فعل الحكاية- فهو إذ يبدأ بهادي طرزان ويؤكد على بصوته الجهوري وهو يعلن عن أي بضاعة، ينهيها بضياع هذا الصوت بعد أن ضربه شقاوات أخيه،وما بين العلانية الصاخبة وإخفاء الصوت يحدد القاص مرحلة جديدة تبدأ بأفول الذين لم يتطوروا وفضلوا البقاء ضمن سياق واحد. وظهور نخبة جديدة استفادت من تقلبات الزمن وغياب الحق وشيوع الفساد ليتسيدوا المرحلة. وقراءة أولية لتاريخ مثل هذا، نجد أن عائدا يبني روايته هذه على انهيار مرحلة ما بعد ثورة تموز 1958 وقيام مرحلة ركود فكري استمر أكثر من عشرين عاما- تنتهي الرواية قبل عام 1980 بحيث لم نر في الرواية أي تيار سياسي مؤثر، أو أي فكر جديد، كل ما نراه هو البقاء ضمن ماضي الثورة القريب، أما الحاضر فيغيب بالسكر والغناء على مسناية جريان النهر، بانتظار زمن آخر.
#ياسين_النصير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرؤى السردية
-
كتاب شعرية الماء
-
حوار مع الدكتور كاظم الحبيب
-
عن المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي العراقي
-
مكونات الطبقة الوسطى العراق نموذجاً
-
قراءة في رواية الضالان
-
أدباء عراقيون - الشاعر سعدي يوسف
-
أدباء عراقيون -ابو كاطع: شمران الياسري
-
أدباء عراقيون- غائب طعمة فرمان
المزيد.....
-
مترجمون يثمنون دور جائزة الشيخ حمد للترجمة في حوار الثقافات
...
-
الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، و
...
-
-أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة
...
-
الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
-
“من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج
...
-
المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ
...
-
بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف
...
-
عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
-
إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع
...
-
تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|