أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سالم ابن دَهَش- ج1















المزيد.....

سالم ابن دَهَش- ج1


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6729 - 2020 / 11 / 11 - 23:13
المحور: الادب والفن
    


حكاية الأعراب

تجوب عشيرة الحوافظ تلك البقاع المقفرة والبراري المترامية الأطراف التي تمتد بين هور الحويزة وشط العرب ونهر الكارون وأطراف مدينة الأهواز، مصطحبة معها سالم ابن دَهَش منذ بضعة شهور. حيثما ارتحلت العشيرة تأخذه معها مثل بساط أو وسادة أو وعاء ماء أوعك سمن أو كيس تمر. لم يفهم الأخوان مطشر وعودة أبناء حمود العجرش لماذا قبل أبوهما أن يأخذ على عاتقه ضيافة ورعاية ذلك الولد الحضري غريب الأطوار، وأن يتكفل بحمايته، وأن تتحمل العائلة كلها أعباء العناية به. كان جميع أفراد العائلة يعملون نساءً ورجالاً، صغاراً وكباراً. ينهضون بالاعمال المختلفة التي لا تنتهي من رعي الماشية الى جلب الحطب و حلب الغنم والحراسة واعداد الخبز، ثم تفكيك الخيم وتحميل الأمتعة على ظهور الحمير والجياد، ومن ثم نصبها من جديد في مكان آخر. كلهم كانوا مشغولين بالعمل الذي لا ينتهي الا الاطفال الصغار الذين لا يقوون على عمل شيء. الوحيد الذي لا يعمل هو ذلك الضيف الشاب الحضري غريب الأطوار الذي اسمه سالم ابن دَهَش . فهو منذ أن التحق بالعائلة بناءً على توصية من رئيس القبيلة وهو إما أن يقرأ بكتاب ضخم ذي غلاف سمائي اللون مرسوم عليه صورة شيخ كبيرله لحية كثّة وشعر رأس منسدل على كتفيه، يضع يده اليمنى تحت معطفه. وإما أن يدخن سجائر أنيقة من علبة بيضاء مربعة الشكل، لكنه بات يدخن سجائر غير محكمة الصنع يلفّها بيديه بعد أن نفذت كل العلب التي جلبها معه. لم يحب الشابان مطشر وعودة أبناء حمود العجرش ذلك الولد الذي بدا لهما من خلال لباسه الحضري الغريب ووجهه الحليق ونعومته كأنه ولد مخنث. ولم تعجبهما ابتسامته ولهجته الخالية من الخشونة.
لم يفهم الشابان مطشر وعودة لماذا تغير شكل ذلك الولد بعد أن التحق بالعائلة بأيام قليلة. فقد أصابه الهزال، واصفر وجهه، وفقد ابتسامته الكريهة التي لم يكونا يعرفان سبباً واضحاً لها. وفقد شهيته للطعام. وصار يذهب للخلاء مرات عديدة طوال النهار والليل. والخلاء عندهم أن تذهب بعيدا لقضاء حاجتك. ثم فقد قدرته على الوقوف. ثم تكوَّرعلى نفسه وصار يبكي مثل طفل صغير من شدة الألم الذي قيل أنه كان مثل سكين تقطع أحشاءه.
تحوّل سالم ابن دَهَش هذا بشكل سريع، وبشكل مخيف. لم يمر على القبيلة داء كهذا الداء الذي ألمَّ بسالم. وبدأت العائلة كلُّها تنشغل بالقلق على مصيره. ترى ما الذي سيظن بهم الشيخ وقد إئتمنهم عليه؟ وما الذي ستقوله القبائل أن هم سكتوا على مرض ألمَّ بشاب عشريني وهو بين ظهرانيهم ولم يعملوا له شيئا. صحيح أن وجوده عندهم كان سرا يتعين عليهم الا يكشفوه حتى لأقرب أهلهم بناءً على توصية الشيخ. فمن يعلم قد ينقل خبر وجوده عندهم أحد ، وقد يبلغ ذلك الخبر أناساً قد يسببوا لهم الأذى. فالحذر واجب، ونحن لا نعلم ما الذي تخبؤه الأيام، قال الشيخ.
لم ينفع مع داء سالم الأدوية التي جربتها نساء العائلة اللواتي يحفظن عن ظهر قلب كل الوصفات الطبية. فقد سقينه اليفّوت المر، وخلطن له علك البستج مع بضع حبات من (اليايفة) العفنة التي لا يتحمل طعمها بعير، وسقينه حليبا حاراً من ضرع معزى، وجرّبنَ معه جميع خلطات الأعشاب التي لا تخطر على بال من البطنج المجفف الى مسحوق قشر الرمان الأصفر وغير ذلك من الخلطات العجيبة، وجرَّبنَ معه الحجامة أيضا، فجرحن له ظهره وخاصرته، وقلبن على جروحه النازفة كأسا يحتوي قطعة قماش مشتعلة على أمل أن يخفف سفحُ الدم الفاسد ألمَه، وأن يوقف إسهال بطنه. ولكن كلّ ذلك لم يُفلح. وراح الولدُ يذوي باستمرار.
وحين مرت على مرض سالم ابن دَهَش أيام، لم يجد حمود العجرش بدا من الذهاب الى الشيخ لاطلاعه. يا شيخ الولد حالته تردت، ربما لم يناسبه هواؤنا، ربما لم يطب له زادُنا. يا شيخ أنا خائف، فقد يموت الولد عندنا، وتلومني أو يلومنا أهله. مشورتك يا طويل العمر.
وأشار عليه الشيخ أن يرسل الشاب لأهله، أن يرسله الى أقاربه الذين كانوا قد سلّموه اليه قبل عدة شهور. أولئك الذين يسكنون عند نهايات الأنهار على حافة الحماد. لأنك لا تستطيع الوصول الى أهله الذين يسكنون داخل البصرة. قد يجدوا له علاجا هناك. قال الشيخ. وأظن أن الظروف قد تغيرت عندهم، فلم يعد هناك خطر على حياته إن هو عاد لأهله. قال الشيخ. فقد سمعتُ أن الحكومة قد انقلبت هناك، وتغيرت الأوضاع. لا أعلم ما الذي يدفع العسكر الى الانقلابات كل يوم، قال الشيخ. لقد أدّينا الواجب. الآن واجبنا تسليم الأمانة لأهلها، أرسله لأهله يا حمود العجرش بسرعة. وتوخَّ الحذر، لتكن حركتك سراً، وسلمه لأقاربه خفيةً.
عاد حمود العجرش مسرعا لخيمه، فقد تخلص للتو من عبء التكليف بالرعاية الطويلة، وشعر بالارتياح لقرب التخلص من الشاب المريض، ولكنه مع ذلك بدا قلقا على مهمة ارسال الولد الى البصرة. فعليه أن يكون حذرا من أن يعرف بالخبر أيُّ أنسان سواء من العرب أو الحضر. فأنت لا تعلم كيف تفكر الحكومات. على وجه السرعة جهز حصانين، وأمر ولديه مطشر وعودة بالاستعداد للسفر الى حافات البصرة لتسليم سالم ابن دَهَش لأقاربه. كانت المعضلة التي واجهها حمود وعائلته هي كيف سيتم حمل المريض الذاوي. أشارت أمرأة طاعنة بالسن هي أم حمود العجرش بحلٍ غريبٍ لم يكن أحد من أفراد العائلة يعرفه من قبل. فقد وجهتهم بربط عمودين من أعمدة بيوت الشعر على جانبي حمارين أحدهما خلف الآخر بمسافة قامة أنسان. ثم أمرتهم بربط العمودين معا بحبال جيدا، ثم أشارت بوضع بساط عليهما ليكون بمثابة سرير محمول. فوضعوا المريض عليه ودثّروه، وتحرَّك الركبُ تحت جنح الظلام، المريض بين حمارين مشدودين لبعضهما بسرير، والشابان كل منهما على حصانه، مزودان بما يحتاجان أليه من مؤونة.
تحرك الركب قبل الفجر، كان الجو باردا، فقد هطل المطر طيلة الليلة الفائتة، ورغم أن الأرض كانت موحلة قليلا، الا أنها بدت مغسولة ولامعة عندما أشرقت الشمس خلفهم. كانت الأرض تلمع بحصى أبيض وأسود صغير منثور على وجه الأرض، وبحطام القواقع البحرية القديمة. كان الهواء منعشا ولطيفا رغم برودته ومحملا برائحة المطر.
لم تصمد فكرة السرير المربوط الى الحمارين طويلا، فقد تفككت أربطة الحبال، ثم أن الحمارين تمردا على هذا الوضع الغريب الذي لم يعتادا عليه. فحمل عودة المريض أمامه على ظهر حصانه، محتضنا أياه بقوة خشية أن يسقط. ثم حمل مطشر المريض بعد ذلك وراء ظهره على حصانه، ثم وُضع المريضُ مقلويا على ظهر حمار مثل كيس تمر رأسه يتدلى من جانب، وقدماه من الجانب الآخر. ثم أُجلس داخل عِدْلٍ بجانب حمار متوازنا مع أغراض أخرى وضعت في في الجانب الآخر من العدل. ثم حمله عودة على كتفه مثل خرقة. كان أكثر الأحمال ثقلا وازعاجا.
لم يفهم الشابان لماذا كان على هذا الولد أن يهرب من البصرة، ولماذا تعين على أهله ان يكلفا عشيرة الحوافظ التي تربطهم معها علاقات تاريخية برعايته. ولم يفهما ما الذنب الذي اقترفه سالم ابن دَهَش كي يهرب من بلده العراق الى أيران. ولم يكونا يدركان معنى أن تنقلب الحكومة، ولم يستوعبا لماذا يكون على الحكومة أن تطارد الشبان من أجل سجنهم أو شنقهم.
بل أن الشابين لم يفهما لماذا يتعين على الناس البقاء في تلك المدن الخانقة، وان يتحملوا كل تلك الأوزار والمخاوف بينما يكون بامكانهم الحياة بحرية في الحماد، لا تظلهم سوى السماء ولا تقف بوجههم عوائق، يتحركون حيثما شاءوا ومتى ما شاءوا.
متحاشين الانظار، ومبتعدين عن تجمعات القبائل تسلل الشابان خلسة بمهارة ورشاقة، ليصلا الى قرية باب الشمس التي تقع على حافة الحماد. وصلا عند غروب الشمس، ولكنهما قررا المكوث متخفين حتى العشاء. فتسللا خلسة لبيت الحاج شهاب الوافي وهو من أقارب الشاب، طرقا الباب بحذر. حين فُتح الباب همسا بحذر، هذا سالم ابن دَهَش . وسلّموهم أياه وكأنه خرقة، انسان يوشك على الموت. حين أتمّوا المهمة، فرّا الى الحماد مسرعَين وقد شعرا بخفة عجيبة.
للحكاية تتمة



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دوامة الأوراق
- حلم بورجوازي سخيف
- جريمة قتل
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الثالثة
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الثانية
- سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الأولى
- سلسلة فنارات- الجزء الثالث- جاسم جليل
- البصرة عام 2075
- بوادر الفساد في البصرة
- حتى الهواء يا أمي
- صديقي صالح
- سلسلة فنارات - ج2 - الحاج سعود الفالح
- الحَمَر
- لوحة گلگامش التي ستهزّ العالم
- صورتان وأربعة وجوه
- كائنات غريبة
- سلسلة فنارات - ج1 - علي قاسم
- القسم رقم 8 - الحلقة الثالثة - همس الفتيان
- أم سالم
- الانتصار على الألم


المزيد.....




- مترجمون يثمنون دور جائزة الشيخ حمد للترجمة في حوار الثقافات ...
- الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، و ...
- -أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة ...
- الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
- “من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج ...
- المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ ...
- بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف ...
- عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
- إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع ...
- تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سالم ابن دَهَش- ج1