عام من حكم قيس سعيدّ:الشّعبويّة على محكّ الواقع


حمه الهمامي
2020 / 10 / 23 - 00:03     

تعرّضنا في الجزء الأوّل من هذا المقال إلى الظروف التي برز فيها قيس سعيّد وإلى الأفكار والمواقف التي تشكّل منها خطابه الشعبوي خلال الحملة الانتخابيّة الرئاسيّة في خريف العام الماضي. كما تعرّضنا إلى أوجه الشبه بين شعبوية قيس سعيد وبين بعض الشعبويّات الأخرى في مختلف أنحاء العالم. ومن المهمّ الآن الانتقال إلى الكيفيّة التي ستتجلّى بها شعبويّة قيس سعيّد في الواقع بعد سنة من وصوله إلى الحكم. إنّ الواقع يبقى المحكّ للوقوف عند طبيعة أيّ خطاب سياسي. فالأشخاص أو الأحزاب والتّنظيمات والجماعات بإمكانهم أن يُسمّوا أنفسهم بما يُسمّون وأن يقولوا عن أنفسهم ما يقولون وأن يصفوا أنفسهم بما يصفون، ولكنّ الحكم عليهم لا يتمّ إلّا من خلال برامجهم الفعليّة وممارساتهم. فكيف تصرّف إذن قيس سعيّد خلال العام الأول من عهدته من مختلف القضايا الأساسية التي طرحت أو طرحها واقع البلاد والشّعب؟ وإذا كان الشعب هو الذي يريد، فماذا أراد خلال هذه الفترة وكيف تفاعل معه قيس سعيّد وماذا حقّق له؟

لقد قضّى قيس سعيّد كما ذكرنا حوالي العام في الحكم. ويمكن القول إنّ الحصيلة خلال هذا العام هزيلة للغاية من حيث الإنجازات العمليّة. فقيس سعيّد لم يتقدّم بأيّ مشروع قانون للبرلمان في أي قضية من القضايا الداخلية أو الخارجية. كما أنّه لم يتّخذ أيّة خطوة عمليّة جدّية لصالح تونس وشعبها أو قرارات تهم سير دواليب الدولة في حدود ما تسمح له به صلاحيّاته الدستوريّة وهي ليست بالهيّنة كما يُزعم باستثناء كونه عيّن رئيسين للحكومة بعد فشل الحكومة الأولى في نيل ثقة البرلمان إثر انتخابات خريف 2019. ومقابل ذلك فقد تكاثرت تصريحاته سواء خلال مقابلاته واستقبالاته في القصر أو خلال تنقّلاته داخل البلاد أو خارجها. وما من شكّ في أن هذه التصريحات وما تضمنته من مواقف يمكن اعتمادها لاستجلاء بعض توجهات الرجل وفهم طبيعة شعبويّته التي ما انفكّت تحدث ردود فعل كثيرة سواء كان ذلك عند “النخب” السياسية والإعلامية والثقافية أو عند عموم الناس. وقد ارتأيت تبويب هذه التصريحات وبعض ما قام به قيس سعيد من أعمال (بعض التعيينات…) حسب المحاور التالية: أولا: المسألة الوطنية: ثانيا: مسأـلة الحكم، ثالثا: مسألة الحريات والحقوق والمساواة، رابعا: مسألة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية خامسا: مسألة السياسة الخارجية والتطبيع مع الكيان الصهيوني سادسا: مسألة الأسلوب.



أوّلا: المسألة الوطنية
يمكن تأكيد أن قيس سعيّد الرّئيس لم يتطرّق في أيّة مناسبة من المناسبات بشكل مُمَنْهج وضافٍ إلى المسألة الوطنيّة ليقدّم تصوّرا أو برنامجا ملموسا لتحرير تونس من القيود الاستعماريّة الجديدة التي أصبح الإقرار بها أو ببعض مظاهرها الصّارخة يتردّد حتّى على ألسنة عدد من المسؤولين الرسميّين آخرهم إلياس الفخفاخ، رئيس الحكومة السّابق، الذي اعترف في آخر أيّام حكومته بأنّ البلاد “مرهونة للخارج”. ولكنّ القليل من التّصريحات التي وردت على لسان قيس سعيّد تعطينا فكرة عن طبيعة مقاربته للمسألة الوطنيّة. وما من شكّ في أنّ تصريحه في قناة فرنسا 24 بمناسبة زيارته الأخيرة لفرنسا يبقى التصريح الأكثر دلالة من بين جميع تصريحاته. فهو لم يتردّد في التّشكيك في استعمار فرنسا لتونس محاولا إقامة فارق بين “الاستعمار” و”الحماية”.

فردّا على الصّحافي الذي سأله عن لائحة الاعتذار التي قدّمت في مجلس النوّاب أجاب : “المثل الفرنسي يقول: من يعترف، يتّهم نفسه” (Qui s’excuse, s’accuse)، وكأنه ينصح الفرنسيين بألا يعتذروا لتونس وألاّ يعترفوا بـ75 سنة من الاستعمار المباشر وما صحبها من نهب وتدمير ممنهج لقوى الإنتاج ومقدرات البلاد ومن اضطهاد لشعبها . وهو ما استفزّ الصحفي الذي ردّ عليه بانفعال “ولم لا؟”. فحاول سعيّد إيجاد مخرج قائلا: “في تونس كنّا تحت نظام الحماية وليس الاستعمار المباشر…”. وهو موقف لم يجرؤ على التصريح به أي مسؤول تونسي في السابق ولا حتى القادة الفرنسيون أنفسهم، فقط غلاة الاستعمار هم الذين ادعوا أنهم جاؤوا لتونس في “مهمة حضارية” وليس لاستعمارها.
ومن البديهي أن رئيسا لا يعتبر ما حصل لتونس استعمارا مباشرا لا يمكنه أن يفتح عينيه على ما تتعرض له اليوم من أشكال هيمنة استعمارية جديدة متعددة الأطراف: أوروبا (خاصة فرنسا) والولايات المتحدة الأمريكية الخ… ومن أهم هذه الأشكال إغراق البلاد في المديونية. ورغم وجود حركة عالمية لإلغاء مديونية البلدان الفقيرة والضعيفة، ورغم ما أبدته المؤسسات المالية الدولية، بمناسبة جائحة كورونا من “استعداد” للتفاوض حول مسألة المديونية فإن قيس سعيد لم يحرك ساكنا لا لخوض حملة واتخاذ مبادرات لتعليق تسديد القروض التونسية وتكوين لجنة للتدقيق فيها وفرز ما فيها من ديون كريهة ومن ديون استخدمت في مصلحة عامة، ولا لتعبئة ما يمكن تعبئته من قوى عالمية لاسترداد الأموال التونسيّة المهرّبة للخارج والتي تقارب رسميّا الـ38.5 مليار دولار أغلبها في عهد بن علي. كما أنّ قيس سعيّد لم يثر، مثله مثل بقيّة القوى التي حكمت تونس منذ سقوط بن علي وعلى رأسها “حركة النهضة”، بعد عام من الحكم مسألة إلغاء الاتّفاقات السرية وغير المتكافئة مع الدول الأجنبية وفي مقدّمتها اتفاقية الشّراكة مع الاتّحاد الأوروبي التي سببت في عشر سنوات فقط تدمير حوالي 10 آلاف مؤسسة صغرى ومتوسطة وأكثر من 300 ألف موطن شغل، دون أن ننسى بالطبع الاتفاقية التجارية مع تركيا والاتفاقية العسكرية التونسية الأمريكية وغيرها. ومن جهة أخرى فإن قيس سعيد لم يدل بموقف من اتفاقية “الأليكا” التي يسعى الاتحاد الأوروبي إلى فرضها بالتقسيط على البلاد قبل الموافقة عليها بالجملة.



ثانيا: مسألة الحكم:
لقد صرّح قيس سعيد أكثر من مرّة أنّ “للشعب التونسي فكرا سياسيا جديدا” (يقصد بالطبع فكره هو). كما صرّح أن مشاريع قوانينه لتغيير النظام السياسي وتكريس فكرة المجالس التي بنى عليها حملته الانتخابية موجودة وجاهزة وهي تنتظر الفرصة المناسبة لتخرج من الرفوف وتتحول إلى قوانين فعلية قابلة للتكريس. لكن عدا هذه التصريحات الفضفاضة فإننا لم نر شيئا في الواقع عدا نزعة شخصية مستمرة لخلق الظروف المناسبة لاحتكار السلطة والعودة إلى النظام الرئاسي. لقد دخل قيس سعيد في حرب صلاحيات ونفوذ مع رئيس البرلمان ومن ورائه مع حركة النهضة وحلفائها.

وقد اشتدت هذه الحرب بعد فشل حركة النهضة في تمرير حكومتها (حكومة الحزب الأول في الانتخابات، حسب الدستور) برئاسة الحبيب الجمني مما فسح المجال دستوريا لقيس سعيد كي يعين من يراه “الأقدر” لرئاسة الحكومة، فنفض الغبار عن إلياس الفخفاخ الذي تحمل مسؤولية حقيبة وزارة المالية في حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة (2011-2014). وحين نعرف أن هذا الوزير الذي عرف بتوجهاته الليبرالية المتوحشة وولائه للمؤسسات المالية الدولية وقربه من فرنسا التي لا يستبعد أن يكون لها دور في اختياره، ندرك أن قيس سعيد انقاد في تعيين الفخفاخ بمبدأ الولاء لا ببرنامج حكومي في خدمة تونس وشعبها. ومن المعلوم أن الفخفاخ لم يعمر أكثر من خمسة أشهر في الحكم إذ انفجرت فضيحة “تضارب المصالح” التي كان سعيد على علم بها قبل تعيينه نهائيا وغض الطرف وهو ما لا يخول له الحديث اليوم عن مقاومة الفساد.



وقد أتيحت فرصة ثانية لسعيد لاختيار رئيس حكومة جديد بعد أن دفع الفخفاخ للاستقالة قبل أن يقيله البرلمان وتعود صلاحية تعيين رئيس الحكومة للحزب الأول في الانتخابات أي حركة النهضة، فما كان منه إلا أن اختار هشام المشيشي طالبا منه اختيار وزراء حكومته من خارج “الأحزاب” (حكومة مستقلين) وهو ما غذى الصراع بينه وبينها. ومن المضحكات المبكيات أن “العصفور النادر” الذي وقع الاختيار عليه انقلب على من اختاره (قيس سعيد) حتى قبل جلسة نيل الثقة وارتمى في أحضان خصومه أي ائتلاف “حركة النهضة” و”قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة” الذي ضمن له المرور في البرلمان مقابل الانقلاب على صاحبه. وقد بينا في كتابات سابقة أن حكومة المشيشي ليست سوى نسخة رديئة، في كافة المستويات، من الحكومات التي سبقتها، وقد جاء مشروع ميزانية العام القادم ليؤكد أن حكومة “التكنوقراط” داخلة في حرب ضد الشعب المفقر والمنهوب أصلا.

وهكذا فإن قيس سعيد لم يختر مرة أخرى رئيس الحكومة على أساس برنامج يحمل على الأقل إصلاحات تخفف من وطأة الأزمة على البلاد والشعب والمجتمع بل اختاره على أساس الموالاة ظنا منه أنه سيتمكن بذلك من السيطرة على السلطة التنفيذية وعزل خصومه في البرلمان وعلى رأسهم حركة النهضة. وقد استمر قيس سعيد في ردود الفعل على المشيشي، المنقلب عليه، في تمشّ لتحقيره وتقزيمه. فحين أقال المرشح لوزارة الثقافة حتى قبل المرور أمام البرلمان تمسك به قيس سعيد وفرضه. كما عين قيس سعيد عددا من الوزراء في مراكز هامّة. وهو لا يتحرّج في استدعاء وزراء خارج رقابته دستوريا (وزير العدل، وزير أملاك الدولة…) ليُسْدِي التّوجيهات و”يهدّد”.



وبالإضافة إلى ذلك فهو يستدعي المشّيشي ليقرعه بسبب تعيينات قام بها وفقا لصلاحيّاته (بقطع النظر عن طبيعة هذه التعيينات) وينشر الفيديو للعموم دون علم المعني. ومن جهة أخرى فإن سعيد لا يتوانى عن التدخل في الشأن القضائي في حركات يريد بها تأكيد “اهتمامه” ببعض القضايا التي تشغل أو تهزّ الرأي العام ولكنه بذلك يخرق الدستور الذي “يحجّر كل تدخل في سير القضاء” لأنّه “سلطة مستقلّة” ولا حقّ له كسلطة تنفيذية في توجيهه أو في إصدار أحكام مسبقة في هذه القضية أو تلك أو في إضافة مصدر آخر للتشريع وهو الشريعة بعد أن بتّ الدستور في الأمر منذ المجلس التأسيسي. وما من شكّ في أن جيل تسعينات القرن الماضي يتذكر ما كان يفعله بن علي من دعوة بعض الأشخاص ممّن لهم قضايا مع الإدارة أو المحاكم ومساءلتهم في جلسات كانت تتمّ بالقصر وتبثّ ليلا في وسائل الإعلام ويظهر فيها بن علي بمظهر الرئيس “العادل”. وبالإضافة إلى ذلك فإن نبرة “أمنية، عسكرية” ما انفكت تبرز عند الرجل الذي لا يفوّت فرصة لمغازلة المؤسستين المعنيتين والإشادة باستعدادهما للدفاع عن “الشرعية” وقد أبدى في تصريح أخير تنويهه بكون “الجميع” يطلب منه تدخل المؤسسة العسكرية وكأنه يريد “فتح شاهية” هذه المؤسسة بالقول: إن المدنيين فاشلون في إدارة شؤون البلاد وأن “الجميع” يريدكم مكانهم…

وخلاصة القول إن قيس سعيد لم يظهر من خلال سلوكه هذا اهتماما بتوجهات أو ببرامج تهدف إلى تعميق الممارسة الديمقراطيّة في البلاد وتوفير الحدّ الأدنى من وسائل العيش للطبقة العاملة وعموم الكادحين وتحرير الوطن من مخالب مراكز النفوذ والمال الأجنبي وإنما أظهر رغبة جامحة في احتكار السلطة سواء من خلال صراعه مع خصومه أو من خلال تعييناته وتصريحاته أو تدخّله في العمل الحكومي وخاصة في القضاء. وهو ما يؤكّد ما قلناه أعلاه من أن سعيد يتصرف، شأنه شأن شعبويي اليمين، بعقلية مستبدّة لا بعقلية ديمقراطية وهو ما يفنّد كل دعاويه حول “الديمقراطية المجالسية التشاركية” التي لا تمثل في تصوره غير غطاء غطاء لنظام مركزي، فردي متسلّط.

ثالثا: مسألة الحريات والمساواة وحقوق الإنسان:
يمكن القول إنّ هذه المسألة هي التي كشفت بشكل سافر بعض توجهات قيس سعيّد المحافظة، المعادية للحريات والمساواة وحقوق الإنسان. فقد أدلى بدلوه في المدة الأخيرة في موضوع المساواة بين الجنسين وخاصة في مجال الإرث. كما أنه تدخل في موضوع عقوبة الإعدام وتطبيق الشريعة. وقد بيّن أنه لا يختلف عن شعبويي اليمين بشكل عام إذ أنّه يحاول أن يتماهى مع الروح المحافظة لقطاعات واسعة من المجتمع لإظهار أنه متشبّث بقيم “الدين” و”العائلة” و”الأخلاق” و”العدل” الخ…

في الحريات العامة والفردية:

لقد تعرضت الحريات الفردية والعامة للعديد من الانتهاكات منذ تولي قيس سعيد رئاسة الجمهورية. وشملت هذه الانتهاكات مدونين وإعلاميين ومحتجين اجتماعيين وغيرهم. ومع ذلك فإننا لم نسمع صوت قيس سعيد، وهو المسؤول عن احترام الدستور وما جاء فيه من حريات وحقوق، منددا أو مدافعا عن الضحايا. كما أننا لم نسمع صوته بخصوص موقفه من حرية التفكير والتعبير والإعلام بشكل عام ولا بخصوص الجدل الحاصل حول بعض مشاريع القوانين الخطيرة المقدمة إلى مجلس النواب ومن بينها مشروع قانون زجر الاعتداءات على القوات الحاملة للسلاح الذي أثار استنكار كافة منظمات المجتمع المدني والأحزاب الديمقراطية أو مشروع تعديل المرسوم 116 الذي يفتح الباب للمافيات ولوبيات المال والفساد كي تضع يدها بالتواطؤ مع قوى أجنبية على الإعلام في تونس.

ومن جهة أخرى وبالنسبة إلى حرية الإبداع والثقافة عامة فإننا لا نجد بعد عام من الحكم أية بصمة لقيس سعيد. فهو، على غرار كل الشعبويين تقريبا، لا يهتم بالإبداع والثقافة. إن المرات التي تحدث فيها عن موضوع ذي صلة بالثقافة لا تصل حدّ أصابع اليد الواحدة. فحين سافر سعيد إلى فرنسا في شهر جوان الماضي، قال في الندوة الصحفية بقصر الإيليزي، ممتدحا مضيفه الرئيس الفرنسي ماكرون “المستوعب لمتطلبات العصر”: “إنني أقرأ تصريحاته وأقرأ كتبه وأقرأ الكتب التي يقرأها”. وفي زيارة أداها بمناسبة يوم 13 أوت، العيد الوطني للمرأة التونسية، للممثلة القديرة دلندة عبدو، أكدت وسائل الإعلام أنه “استحضر معها “العديد من الأدوار الشهيرة لشخصيات من الأعمال المسرحية والتلفزية التي قدمتها ومنها بالخصوص في سلسلة حكايات المرحوم عبد العزيز العروي وسلسلة “محل شاهد”. أما آخر مرة تدخل فيها في موضوع ثقافي فعند تعرض الفنان لطفي العبدلي لحملة تشهير حين تعرض في أحد أعماله المسرحية لـ”كلسون عبير موسي”، فقد ذكر الفنان أن رئيس الجمهورية اتصل به ليعبر له عن تضامنه. وفيما عدا هذا فلا تدخل يذكر، على ما نظن، لرئيس الدولة في المجال الثقافي ولا مساندة تذكر أيضا لأهل القطاع الذين يعانون من مشاكل كبيرة.



وما دمنا نتحدث عن مجال الحريات فلا مناص من التعرض لموقف قيس سعيد من الاغتيالات السياسية وعلى رأسها اغتيال الشهيدين الكبيرين شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي. ففيما عدا استقبال أرملتي الفقيدين والتعبير لهما عن التضامن فإنه لم يفعل شيئا بخصوص كشف هذين الاغتيالين والحال أن ملفيهما بين يدي مجلس الأمن القومي منذ فترة حكم الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي. كما أنه لم يتقدم خطوة واحدة بشأن ملف تسفير الشباب التونسي إلى سوريا وغيرها من بؤر التوتر زمن حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة في إطار مشروع استعماري صهيوني رجعي عربي لتمزيق المنطقة ومزيد إخضاعها.

مسألة المساواة بين الجنسين:
ألقى قيس سعيّد يوم 13 أوت الماضي بمناسبة العيد الوطني للمرأة التونسية المناسب للذكرى الرابعة والستين لمجلة الأحوال الشخصية التي تضمنت إصلاحات لفائدة المرأة والمجتمع التونسيين (منها خاصة إلغاء تعدّد الزوجات الخ… ) خطابا بقصر قرطاج أمام جمع من النساء. وفي الوقت الذي كان فيه الرأي العام النسائي والديمقراطي عامة ينتظر من رئيس الدولة إعلان حزمة جديدة من الإجراءات أو المبادرات التشريعية التي تكرس ما جاء في الدستور من تنصيص على مبدأ المساواة، فاجأ النساء في عيدهن بأنه يناهض طموحهنّ إلى المساواة التامة في الحقوق. وعاد بهن إلى الوراء معتمدا موقفا لا يختلف في شيء عن مواقف القوى الرجعية المحافظة من قضية تحرير النساء، بل إنّه لم يرق حتى إلى مستوى الطاهر الحداد الذي طالب قبل 90 سنة، في مؤلفه الشهير: “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”، بالمساواة في الحقوق بين الجنسين بما في ذلك في مجال الإرث.

لقد ارتد قيس سعيد عن الدستور وهو مطالب باحترامه، وعاد مرة أخرى إلى الشريعة وتحول إلى فقيه يؤوّل، وحتى في هذا المستوى فإنه لم يرق إلى مستوى الشاطبي الأندلسي الذي أبدع قبل قرون المذهب “المقاصدي” الذي اعتمده الحداد ومحمد الطالبي وغيرهما لتقديم قراءة تقدمية ، بل استند إلى التأويلات النصية، الأكثر جمودا وثبوتا ومعاداة للتغيير أي التي تتشبث باللامساواة قانونا، أزليا موحيا بأن “المؤمن الحقيقي” هو الذي يعادي هذه المساواة التي اعتبرها اختلاقا “بورجوازيا” لا يعني “نساء الشعب” اللواتي يعانين الفقر وكأنه فعل لهن شيئا يذكر لإخراجهن من فقرهن بل كأن هؤلاء النساء الكادحات الفقيرات قادرات على الحصول على حقوقهن الاقتصادية والاجتماعية دون أن يرقين إلى مستوى المواطنة القائمة على مبدأ المساواة التي يمثل غيابها أحد أسباب وضعهن الدوني أصلا بما يعنيه من استغلال فاحش يفوق استغلال العمال من الرجال. . وقد حاول، لتبرير موقفه، إقامة تضاد بين مبدأ المساواة “البورجوازي” ومبدأ “العدل”، الذي يمثل حسب رأيه قمة الفكر الإنساني. وهو هنا لا يفعل سوى ترديد ما كان ردده قبله زعيم الإخوان المسلمين



إن العدل لا يطرح إلا بين شخصين متساويي الحقوق. فالمساواة هي الشرط الأول للعدل. فبدون هذا الشرط يصبح العدل مجرد خديعة لتشريع اللامساواة واللاعدل بالطبع. لما سئل حسن البنا، مؤسس “الإخوان المسلمين” في مصر، في أربعينات القرن الماضي عن اللامساواة في الميراث أجاب أنها من باب “العدل” لأن الرجل يعمل والمرأة لا تعمل (فما الموقف إذن وقد أصبحت تعمل وتعيل؟). وهي نفس “الحجة” التي أثارها ممثلو حركة النهضة في هيئة 18 أكتوبر عام 2007 للمطالبة بتعويض كلمة مساواة بكلمة عدل. وهو ما تم رفضه. وفي فترة لاحقة، عند مناقشة الدستور سعت حركة النهضة في المجلس الوطني التأسيسي إلى تعويض كلمة المساواة بكلمة “التكامل” وهي كلها خزعبلات لنفي مبدأ المساواة في الحقوق الذي يمثل مكسبا إنسانيا لا نقاش فيه، حتى وإن بقي في المجتمع الرأسمالي مكسبا لا يتجاوز حدود القانون وهو ما طرح ويطرح مواصلة النضال من أجل تنزيل تلك المساواة القانونية في الواقع عبر تغيير جذري للعلاقات الاجتماعية.

وفي المحصلة فإن سعيد، مثله مثل “الإخوان” وكل المحافظين، لا يتعامل مع مسألة الميراث كمسألة اجتماعية، تاريخية، نسبية وانتقالية بل سعى إلى تحويلها إلى دغم (dogme) غير قابل للتغيير في محاولة لاستمالة القطاعات المحافظة في المجتمع وافتكاكها انتخابيا من حركة النهضة وباقي التيارات الدينية المتطرفة. وهو لا يهمه أن يرتد عن الدستور الذي ينص صراحة عن المساواة بين النساء والرجاء في الحقوق ويدعو الدولة إلى العمل على رفع كافة أشكال التمييز، كما لا يهمه أن يختلق بدعا جديدة “لا عندها ساس ولا راس” ليقيم جدارا صينيا بين الفضاء العام والخاص جاعلا من هذا الأخير فضاء مغلقا يتيح للرجال ارتكاب ما يريدون من الجرائم والمخالفات على حساب نسائهم وبناتهم بدعوى أنهم داخل “فضائهم الخاص” وهو موقف يعود بنا إلى عصور الهمجية ولا يرقى إلى أبسط مكتسبات العصر الحديث التي تجرّم الاعتداءات والانتهاكات التي تحصل في الفضاء العائلي سواء استهدفت الأطفال أو النساء.

مسألة حكم الإعدام:
لقد استغل قيس سعيد موجة الاستنكار التي عقبت الجريمة الشنيعة التي كانت ضحيتها الفتاة الشابة رحمة لحمر، ليركب الموجة ويطالب، يوم الاثنين 28 سبتمبر في افتتاح اجتماع مجلس الأمن القومي، بالعودة إلى تنفيذ حكم الإعدام المعلق عمليا منذ مطلع تسعينات القرن الماضي إلى أن أصبح هذا التعليق موضوع تعهد رسمي من تونس بعد التوقيع، عام 2012، على توصية للجلسة العامة للأمم المتحدة تقضي بعدم تنفيذ حكم الإعدام. إن قيس سعيد وهو يدلي بهذا الموقف مستندا إلى حجة دينية، داس أولا على الدستور الذي نص في فصله 22 على أن “الحق في الحياة مقدس، لا يجوز المساس به إلا في حالات قصوى يضبطها القانون”، وداس ثانيا على تعهدات تونس الدولية وداس ثالثا على استقلالية القضاء بإعطائه تقريبا حكما مسبقا في القضية وهو الإعدام وهو يعلم لأن القانون في ذاته لا يقضي بحكم الإعدام في كل جرائم القتل. وهكذا فإن قيس سعيد، يجرنا إلى الوراء في الموقف من حكم الإعدام الذي ألغته كليا أو جزئيا معظم بلدان العالم.

وإلى ذلك فإن قيس سعيد لم يفعل ما فعله إلا لتغطية القضية الحقيقية المطروحة عليه كمسؤول سياسي وهي البحث عن أسباب تفشي الجريمة في بلادنا وكيفية مواجهتها وهو ما لا جواب لقيس سعيد عليه، مثله مثل الحكومة ومجلس النواب. إن إلغاء حكم الإعدام لم يسبب في أي بلد من بلدان العالم تزايد الجريمة كما أن الإبقاء على تنفيذ حكم الإعدام لم يسبب تناقصها، بل على العكس من ذلك فإن البلدان التي قلت فيها الجريمة بشكل كبير هي من بين البدان التي ألغت عقوبة الإعدام ولها سياسة اقتصادية اجتماعية ثقافية قادرة على خلق حد أدنى من التوازن لدى مواطنيها ومواطناتها مما يجعلها تستبق الجريمة بالحد من عواملها. وهذا هو دور السياسي الذي يفكر في تطوير وطنه وليس دوره مجاراة كل ما “يريده الشعب” بقطع النظر عن صحته ومدى استجابته للتقدم الإنساني.



رابعا: مسألة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
والموقف من الفساد ونهب المال العام والتهرب الضريبي:
لقد جعل قيس سعيد من الحديث عن الفقراء وخاصة شباب الثورة المعطل عن العمل محورا رئيسيا في حملته الانتخابية. وقد استمر في ذلك حتى بعد صعوده إلى الرئاسة، دون أن يتغير نوع الخطاب إذ أنه واصل التشهير بما يعانيه هؤلاء الشباب من فقر وبؤس سواء كان ذلك عند مقابلة بعضهم في القصر أو عند تنقله إلى بعض الجهات ناسيا أنه اليوم رئيس دولة وأن المطلوب منه هو الفعل وليس الاكتفاء بالتشهير والتعبير عن التعاطف. فقيس سعيد لم يتقدم ولو بمشروع قانون واحد يحمل مقترحا من شأنه تخفيف بؤس أولئك الشبان. كما أنه لم يتقدّم برؤية عامة وشاملة لتجاوز الأزمة الخانقة التي تعيشها البلاد. والسبب في ذلك هو أنه لا يحمل في جرابه لا مقترحات ولا تصورا. وهو ما يجعل حديثه عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشعب مجرد هراء لا يسمن ولا يغني من جوع. وهو ما بدأ يتفطن إليه قطاع واسع من الذين باع لهم قيس سعيد الوهم في حملته الانتخابية. إن ما لم يفهمه سعيد هو أن قضية التشغيل التي تطرح اليوم بحدة غير مسبوقة من شمال البلاد إلى جنوبها ومن غربها إلى شرقها هي العنوان الأكبر لأزمة نمط إنتاج نيوكولونيالي، ريعي، استهلاكي مدمر للقطاعات المنتجة ولقوى الإنتاج تحديدا ولا تستفيد منه سوى أقلية من المافيات واللصوص المحليين والأجانب وأن لا مستقبل لشعبنا ومجتمعنا، كما سنبين ذلك في المقال الأخير من سلسلة هذه المقالات، دون التخلص من نمط الإنتاج ذاك ومن حاضنته الاجتماعية وتعويضه بآخر جديد.

ولا يختلف موقف قيس سعيد من ناحية الشكل من مختلف القضايا الأخرى ذات الطابع الاقتصادي والمالي والاجتماعي مثل قضايا الفساد والتهريب والتهرب الجبائي ونهب المال العام، فهو يتكلم ويشهّر ولكنه لا يفعل شيئا رغم ما لديه من سلطات باعتباره الضامن لتطبيق الدستور وصاحب الأولوية في تقديم مشاريع القوانين ورئيس مجلس الأمن القومي. ولكن ذلك هو طبع الشعبويين وسلوكهم: كثرة الكلام عن الشعب دون أي إنجاز جوهري وجدي لصالحه. وهو ما تبيّنه التونسيات والتونسيون أيضا من خلال سلوك قيس سعيد في مواجهة جائحة الكورونا. ففيما عدا توزيع بعض الإعانات فإن الرجل لم يتخذ مبادرات قادرة على مساعدتهم على التصدي للجائحة من قبيل تقديم مشروع قانون لتعليق تسديد المديونية لإيجاد الموارد الضرورية والقيام بحملة حول ذلك في العالم.

خامسا: مسألة السياسة الخارجية والموقف من التطبيع:
يكاد يجمع المتابعون للشأن السياسي في بلادنا على أن قيس سعيد لا يملك عقيدة دبلوماسية ترتكز على الدفاع عن مصالح بلادنا في الساحة الإقليمية والدولية الدولية شديدة الاضطراب والتقلب في هذا الوقت. فلا هو أفلح في رسم سياسة واضحة تضع بلادنا خارج حلبة صراع المحاور الإقليمية، ولا هو أفلح أيضا في القيام بدور ناشط وفعال في حلّ الأزمات التي تهز المنطقة والتي لها تأثير في وضع بلادنا ومصالحه وعلى رأسها الأزمة الليبية إذ ظل موقف الدبلوماسية التونسية سلبيا وضعيفا يعكس في الواقع حالة الضعف والوهن الداخلي التي أوقعتها فيها منظومة الحكم الحالية وسابقاتها.
وبالطبع يبقى الموقف من القضية الفلسطينية هو الموقف الأخطر في سلوك قيس سعيد. فقد صرّح على الملأ خلال حملته الانتخابية أن “التطبيع مع الكيان الصهيوني خيانة عظمى”. ولكنه تناسى بعد وصوله إلى قصر قرطاج هذا الموقف سواء عندما طرحت بعض مظاهر التطبيع الداخلية في مجال الرياضة وغيرها أو عند تعيينه أخيرا أحد موظفي مكتب تونس بتل أبيب في زمن بن علي ممثلا لتونس في الأمم المتحدة أو فيما يتعلق بموجة التطبيع الخليجية الأخيرة التي اعتبرها “شأنا داخليا”.



سادسا: مسألة الأسلوب بشكل عام:
لقد تميز قيس سعيد خلال هذه المدة بأسلوب شعبوي خالص. فهو لا يترك فرصة للحديث عن المؤامرات التي تحاك ضده، ضد “الشرعية” وقد ذهب به الأمر أحيانا إلى زيارة بعض مقرات قيادات عسكرية وأمنية ليلا للحديث عن تلك المؤامرات والتهديد بأنه سيكشفها واحدة، واحدة ويكشف المورطين فيها. ولكنه لا يفعل بعد ذلك شيئا. كما أنه لم يتردد يوم استقبال أعضاء حكومة المشيشي لأداء اليمين في نعت خصومه من ائتلاف “النهضة-قلب تونس-ائتلاف الكرامة” بكونهم أعوانا للاستعمار والصهيونية واعدا مرة أخرى بكونه سيكشفهم دون أن يتبع كلامه بإجراءات فعلية. وليس خافيا أن اتّباع قيس سعيد هذا الأسلوب ليس مجانيا وإنما الهدف منه إبراز نفسه “منقذا” محاطا بالأشرار من كل جانب وأنه في حاجة إلى “دعم الشعب”. وهو أيضا طريقة لتغطية فشله مدة عام في تقديم أي شيء ينفع هذا الوطن وهذا الشعب وخاصة فئات الشباب المهمش التي وعدها بالجنة.

خاتمة
هذه إجمالا الملامح الكبرى لتصورات قيس سعيد ولعام من حكمه. فهو في الأساس لم ينجز شيئا يعتد به لصالح هذا الوطن والشعب. وقد ظل يراوح مكانه ويخوض حربا مع حركة النهضة وحلفائها محورها من يحتكر السلطة لا خدمة مصالح الوطن والشعب. وما من شك في أن قيس سعيد يستفيد من تعفن منظومة الحكم القائمة ومن بؤس خصومه الذين دمروا البلاد وأفلسوها. وهو ما يزال قادرا على الاستفادة من هذا الوضع أمام برلمان مهزلة بأتم معنى الكلمة وحكومة تخطط لمزيد “تبريك” الوطن ورهنه للمؤسسات المالية الدولية ولمزيد تفقير الشعب وتدميره حسا ومعنى. كما أنه يستفيد من وهن الحركة الثورية والتقدمية وعجزها إلى حدّ الآن عن إعادة تنظيم صفوفها والاستفادة من الوضع لتوسيع تأثيرها وافتكاك زمام القيادة من مختلف الشعبويات الموجودة.

وهو يلقى نتيجة ذلك كله الدعم من عديد الأطراف والجماعات، بعضها لا يهمه ما يطرح قيس سعيد ولا خطورة مشروعه على الحريات والديمقراطية بقدر ما يهمه عداؤه لحركة النهضة، وبعضها يائس محبط تفتنه وعود سعيد الزائفة ويذهب في اعتقاده أن للرجل ما يقول ولكن خصومه يعرقلونه وبعضها الثالث ما يزال يرى فيه الرجل النظيف دون اعتبار لتصوراته ومواقفه، وبعضها الرابع يجذبه طابع الرجل المحافظ والرجعي في القضايا المجتمعية الخ… ولا نخال سعيد إلا يفكّر في اللحظة المناسبة للمرور إلى خطوة جديدة من تنفيذ برنامجه (مثل حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها …) يعبّئ له أنصاره المنتظمين في تنسيقيات بهدف تغيير النظام السياسي وتعويضه بنظام رئاسوي يكون هو محوره.

ومن هنا تتأتى خطورة قيس سعيد والتيار الشعبوي في تونس عامة في مناخ عالمي موات للشعبوية التي تطرح نفسها بديلا جديا للديمقراطية البورجوازية التمثيلية المتأزمة، في خدمة الرأسمال المالي منفلت العقال. إنها تثير قضايا واقعية لتوظفها في خدمة مشروع لا علاقة له بمصالح أصحاب تلك القضايا من أبناء الشعب وبناته.
وبطبيعة الحال فإن الأمور لا تسير وفق خط مستقيم فالأوضاع يمكن أن تفاجئنا لهذا السبب الطارئ أو ذاك بما لم نضعه في الحسبان…