هل هناك ضرورة نظرية لتخطي الماركسية؟ (2) في نقد فلسفة الهوية
هشام عمر النور
2006 / 7 / 4 - 08:27
استعرضت في مقالي السابق مفهوم التركيب عند كانط، والذي على أساسه توصلت إلى فكرة أن الموقف الفلسفي الذي يسود في عصر معين كأساس لحركة تحرر الإنسان يكون عادةً تعميم لقمم منجزات الفكر الإنساني في ذلك العصر. ثم زعمت أن الماركسية كانت في عصرها تعميماً لقمم منجزاته الفكرية إلاّ أنها الآن لم تعد كذلك، وهو ما يشكل الضرورة النظرية لتخطيها. والآن أود أن أدعم هذا الاستنتاج بالحجج اللازمة. ولكي أفعل ذلك لا بد من العودة إلى كانط مرة أخرى.
لقد نجح كانط كما قلنا في أن يجعل من فلسفته النقدية تعميماً للمنجزات العلمية والفلسفية لعصره فصارت المعارف التي كشفت عنها فيزياء نيوتن والمنطق الصوري لأرسطو هي المقولات التي تُحمل على الظواهر فتصير موضوعات، وائتلفت بذلك الفلسفة العقلانية والتجريبية. ولكن إحدى المشاكل الكبيرة للفلسفة النقدية أنها جعلت من فيزياء نيوتن ومنطق أرسطو نهاية المعرفة الإنسانية. ولذلك حين حولت المعارف النظرية لهذين العلمين إلى مقولات للذهن الإنساني لا يستطيع أن يرى العالم ونفسه خارج إطارها، أصبحت هذه المقولات متعالية بمعنى أنها سابقة للتجربة لأنها محددة لها. وبذلك صارت هذه المقولات ثابتة ومحددة مما يعني أن المعارف التي استندت عليها أيضاً نهائية ولن يستطيع الفكر الإنساني تجاوزها. وما حدث لم يكن كذلك.
فقبل أن يتطور العلم والمنطق ليتجاوزا فيزياء نيوتن ومنطق أرسطو استطاع هيجل أن يطور الفلسفة النقدية فقط بأن يصل باستنتاجاتها إلى نهاياتها المنطقية فحول العلاقة بين المقولات ـ التي صاغها كانط بحيث تنتج دائماً العلاقة بين مقولتين محددتين مقولة ثالثة ـ إلى المنهج الديالكتيكي المعروف والذي صار فيما بعد أساساً للماركسية ومدّ العقلانية إلى مجال المجتمع الإنساني إلاّ أن هيجل استبدل التعددية العقلانية التي أرسى قواعدها كانط بافتراضاته عن العقل الخالص والعقل العملي والعقل الجمالي بفلسفة للهوية جعلت من الفكر (أو الروح) هوية الوجود، وبذلك صارت الهيجلية رغم الديالكتيك فلسفة للتماثل وإن كانت تقوم على التناقض إذ أن ما يسود دائماً هو هوية الروح أو الذات. وهو ما يجعل مصطلح "الذات" عند هيجل لا يشير إلى الذات الإنسانية وإنما إلى أي موضوع طالما يسوده الاتساق والانسجام والتماثل اللذين يجعلون الموضوع ما هو عليه. ولذلك نستطيع أن نشير إلى الهيجلية أيضاً على أنها فلسفة للذات، وهو ما يساوي تماماً كونها فلسفة للهوية. وهو ما يتركنا مع نوعين من الديالكتيك، ديالكتيك التماثل وديالكتيك التناقض أو الديالكتيك الإيجابي والديالكتيك السلبي. ديالكتيك التماثل أو الديالكتيك الإيجابي ينتهي دائماً إلى تعميمات وموضوعات كلية بينما ديالكتيك التناقض أو الديالكتيك السلبي رغم إقراره بأن التفكير لا يمكن أن يتم بدون تفكير هوية، بدون مفاهيم تقوم على الهوية، إلاّ أنه ينفي دائماً الهوية والتعميمات والموضوعات الكلية لكي يظل ملتصقاً بموضوعه العيني.
والماركسية في قلبها لهيجل ـ الإشارة هنا إلى عبارة ماركس الشهيرة بأنه استعدل هيجل ليمشي على قدميه بدلاً عن رأسه ـ لم تتحرر من إطار هيجل الفلسفي فظلت فلسفة للهوية وللذات ولكن على أساس مادي، وبدلاً من أن تكون الروح هوية الوجود صارت المادة هي هوية الوجود. وبذلك ظلت الماركسية فلسفة للتماثل وظل الديالكتيك ديالكتيكاً للتماثل والإيجاب ـ رغم ادعائها عكس ذلك، خاصةً مع مهدي عامل. وفعلت الماركسية، مثلما فعل هيجل، وتجاهلت التعددية والاختلاف بتبنيها للإطار الهيجلي كفلسفة للذات أو للهوية وللأساس الذي يقوم عليه هذا الإطار وهو التقابل بين الذات والموضوع. إن نقطة الضعف الرئيسية في الماركسية تُوجد في نظريتها للمعرفة التي تقوم على أساس هذا التقابل. وهو تقابل موروث أيضاً من كانط ويشكل أحد أزماته الكبيرة إن لم يكن جذرها جميعاً.
وعلى الرغم من أننا قد نجد أساساً لفلسفة الهوية في الفلسفة النقدية بسبب كونها تعميماً فلسفياً لقمم منجزات عصرها الفكرية، وبسبب مقولاتها المتعالية السابقة على التجربة والمحددة لها، وبسبب بنائها على التقابل بين الذات والموضوع، إلاّ أن كانط لم يطورها في هذا الاتجاه، كما فعل هيجل، وإنما في الاتجاه الآخر، اتجاه التعددية. بينما استخدم هيجل هذا الأساس ليجعل الوجود كله هويته الروح. وبذلك صار الكون والطبيعة والمجتمع والذات والتاريخ مجرد تجلٍ للفكرة المطلقة وهكذا ترابط التاريخ في كل المجالات حلقة أثر حلقة. وهكذا كانت الماركسية أيضاً إلاّ أنها ليست تجلٍ للفكرة المطلقة وإنما تجلٍ للمادة، التي نستطيع أن نقول عنها أنها مطلقة أيضاً. إن كل ما فعله ماركس ـ كما يرى هابرماس ـ هو أنه أعاد قراءة "فينومينولوجيا الروح" قراءة أداتية. ومن ثم، لم تعد الفلسفة مذاهب ومدارس فلسفية متصارعة ومتخالفة بحيث نفشل في تحديد الحقيقة بل صار كل واحد من هذه المذاهب والمدارس يعبر عن جانب من جوانب الحقيقة. ومن ثم أصبحت فلسفة هيجل هي التعميم النهائي لكل هذه الفلسفات، بحيث تعبّر عن كل جوانب الحقيقة. وهكذا كانت الماركسية أيضاً. وفكرة نهاية المعرفة الإنسانية التي عبّر عنها كانط ضمنياً أعلن عنها هيجل بوضوح. وصارت النهايات سمة أساسية للفلسفات الكبرى فيما بعد كانط، بما في ذلك الماركسية وإلى أن نصل إلى فوكوياما.
إن الاستنتاج الذي لا بد من الوصول إليه هو أن الماركسية لم تكن مقلوب الهيجلية إن مقلوبهما معاً هو فكر اللا هوية ومنهجه، منهج الديالكتيك السلبي، ديالكتيك الاختلاف. لقد كانت الماركسية في قلبها المزعوم لهيجل موقفاً فلسفياً جدّته ليست في اختلافه أو تناقضه مع هيجل وإنما في قدرته على تعميم قمم منجزات عصره الفكرية: الفلسفة الألمانية والاقتصاد الإنجليزي والاشتراكية الفرنسية أو ما اعتاد الأدب الماركسي على تسميته بمصادر الماركسية وفقاً للينين. ما الذي يجعل ما فعله كانط انتقاءً وتوفيقاً بينما الماركسية ليست كذلك؟ بالنسبة لي إن الاثنين يقومان على تركيب وليس انتقاء وتلفيق. والفارق بين التركيب والتلفيق هو أن الأول يقوم على منهج يترتب عليه تماسكه واتساقه بينما الثاني لا يقوم على منهج مما يترتب عليه تفككه وتناقضه المنطقي. ويتحقق التركيب في الاثنين: الفلسفة النقدية والماركسية. بل إن الفلسفة النقدية أولى به لأن كانط هو الذي صاغ مصطلح التركيب. ووقعت الماركسية فيما وقعت فيه التيارات الفلسفية السابقة لها ونظرت لما ركبته وألفته على أنه نهاية المعرفة الإنسانية. فهل كان الأمر كذلك؟ هذا ما سنراه في المقال القادم.