|
الهولوجرام والمسرح والعالم
عبد الناصر حنفي
الحوار المتمدن-العدد: 6615 - 2020 / 7 / 11 - 11:33
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ملخص: تحاول هذه الورقة مطاردة بعض التأملات التي تنطلق من سؤال بسيط -بقدر ما هو خادع ومرواغ- عن المصير الذي قد يجلبه تطور تقنية الهولوجرام إلى ظاهرة المسرح؛ وهل يمكن أن يؤدي هذا إلى الاختفاء التام للمسرح كما نعرفه ليحل محله وسيط جديد تماما؟ أم أن هذا المسار لن يسفر في النهاية إلا عن مجرد إضافة جديدة إلى قائمة التقنيات – أو حتى العناصر- المسرحية. وبغض النظر عن عدم امكانية حسم هذا السؤال بشكل نهائي؛ إلا أن أهميته طرحه تكمن فيما يتيحه من إمكانية إعادة التفكير في ملامح ماهية الظاهرة المسرحية وتحليل علاقتها بالعالم وانماط استقبالها لكل ما قد يطرأ عليها من خارجها، وصولا إلى تلمس ما قد يجلبه التطور الهولوجرامي من تغيرات جذرية في طبيعة العالم المعاش ذاته على نحو قد يفضي بنا إلى أعتاب عصر ابستمولوجي جديد. (النسخة الأولى من هذه الورقة نشرت في مجلة عالم الكتاب-ابريل 2019، تحت عنوان: "تأملات في ماهية المسرح ومصيره أمام تطور تقنيات الهولوجرام")
1- سؤال ونبوءة: في منتصف التسعينات لم يكن اكتشاف الصورة الهولوجرامية قد أكمل عقده الثالث، ولكن عندما طرح بعض الأصدقاء سؤالا حول مستقبل المسرح قلت بثقة بالغة أن هذا الفن يحتضر ولكنه لم يعلم بذلك بعد، وأنه بينما نتكلم الآن يتم في مكان ما تجهيز القبر الذي سيوارى فيه إلى الأبد، وهذا القبر اسمه "الهولوجرام"! في ذلك الوقت بدت لي تلك النتيجة منطقية للغاية، فالهولوجرام -أو الصورة التجسيدية- قادم لانتزاع كل ما يخص المسرح، وكل ما كان يجعله -لعشرات القرون- فنا قادرا على البقاء، أي تلك الشيئية "الطارئة" التي لا تظهر سوى عبر حدث سرعان ما ينمحي بعد أن يحاول تجسيد حكاية بعينها تخص الذات الإنسانية بوصفها شيئا؛ أو موضوعا حسيا متعينا، يمرق عبر مجموعة من الأنماط المتباينة من الاحداث والوقائع والافعال التي تعيد تكوين هذه الحالة الشيئية باستمرار بكل ما يصاحب هذا من كتل مادية أو أشياء متعينة توالي غزو خشبة المسرح والانسحاب منها طوال الوقت. وبرغم أن هذا التنبؤ لم يعد يحظى بثقتي منذ فترة طويلة، إلا أنه كان تفكيرا متناغما بصورة جذابة مع النبرة التبشيرية التي طالتني من خطاب ما بعد الحداثة حول الواقع الذي سيختفي ويتم ابتلاعه بواسطة "فعاليات التمثيل" تارة؛ و"تقنيات الاستنساخ" تارة أخرى، بيد أن هذا الخطاب نفسه لم يكن حينها يميز جيدا بين فرضيتين أو سؤالين: هل هذه الفعاليات أو الظواهر التي تكرس لها تيارات "ما بعد الحداثة"؛ هي إحدى انبثاقات صباح البارحة التي استبقت تاريخها الخاص والمغاير وجعلته يلهث محاولا اللحاق بها قبل أن يشرق صباح الغد؟ أم أننا إزاء حالة من التنشيط المتزايد بعض الشيء لما كان طوال الوقت أحد الفعاليات الأساسية في طريقة بنائنا لعالمنا؟ وبوجه عام فهذه الأسئلة حول مصير المسرح ليست جديدة، ورغم ذلك فلا زال التعاطي معها يحمل طابعا تنبؤيا أكثر منه تحليليا نتيجة ارتكاز أغلب المقاربات على الفرضية الأولى التي ستبدو وكأنها تنهض في مواجهة الواقع الآني وضده على نحو لا يكاد يسمح لنا سوى بعزاء الانتظار المريح الذي سيتكفل وحده بالإجابة عن سؤال "ما الذي سيحدث؟" إن توفر للمستجدات الحالية وقتا كافيا للإفصاح عن نفسها. وفي المقابل فإن الفرضية الثانية ستبدو وكأنها تردنا باستمرار إلى الواقع الذي نعرفه وتفتح اقواسا للتأمل -إن لم يكن للتحليل أيضا- حول أوضاعه وتوازناته الآنية واحتمالاتها القائمة؛ والتي تشكل في مجملها قائمة خيارات هذا الواقع في توجهه نحو المستقبل! وهذا الاتجاه المزدوج والمتعارض دائما الذي تخطه هاتان الفرضيتين هو نفسه الأفق الذي تفتتحه أي نبوءة أمام العالم الذي تصدر عنه. ولكن بما أن "المسرح" ذاته لا يبدو وكأنه يحب أفق الانتظار الساكن الذي تتطلبه الفرضية الأولى؛ بحيث أنه كان ينتصر دائما للنبوءة التي ترد الواقع إلى حيث ينكشف أمام ذاته؛ فعلينا إذا أن نحاول المضي في هذا الاتجاه، وأن نقود تأملاتنا نحو ما يمكن رؤيته وتحليله داخل افق ما هو متوقع.
2- الأفق المفتوح لعلاقات الهولوجرام والمسرح: الهولوجرام هو أحد الاشتقاقات الأكثر تطورا التي نتجت عن اكتشاف "اشعة الليزر" أو الحالة الليزرية للضوء؛ والتي تداعب أو تنتهك الحد الفاصل بين الضوء بوصفه طاقة محضة أو سريان خالص للقوى؛ والمادة بوصفها كتلة أو مكون شيئي مستقر ومتماسك ذاتيا. وانطلاقا من فرضياتي حول "فينومينولوجيا القوى" والتي لا يتسع المجال لعرضها هنا؛ فإن "الكتلة الشيئية" تظهر حين تبدأ حزم "سريان القوى" في مقاومة مثيلتها مما يفتح الباب لصدور حقل "اختلاف القوى" التي يتكون عبرها كل ما "يكون" أو كل تلك المكونات الشيئية التي نسميها "المادة"، مما يؤدي إلى انبثاق حقل "العاب القوى" الذي ينتج عن تفاعل هذه الاختلافات واستجابتها لذاتها على نحو يسفر عن تأسيس ظهور كل ما "يحدث"، وبالتالي كل ما يمكن معرفته في العالم. والملمح التاريخي الفارق الذي تمثله أشعة الليزر من هذا المنظور هو أنها أول ظهور على الإطلاق لشيئية الضوء المقاوم لذاته، بحيث أصبحنا أمام شيئية متماسكة فيزيائيا ولكنها بلا كتلة داخلية! أما اكتشاف الهولوجرام فهو بمثابة إعادة ترويض هذه الشيئية الضوئية لصالح "لعب القوى" فهنا أصبح واضحا أن هذه الأشعة الليزرية يمكن أن تتمتع بسمات لا تعود إلى الخواص الأولية لاختلاف القوى فقط بل وأن تكتسب أيضا بعض ما يميز هندسة التوزيع المكاني الكتلة، فالهولوجرام قادر على أن يحجب بعضه بعضا بحيث أن خطوط الضوء التي في المقدمة تستطيع حجب تلك التي تقع خلفها، وهو ما يعني أن التجسيد الهولوجرامي يتمتع بخاصية توزيع مكوناته في المكان إلى داخل وخارج، وهو ما يمثل الخاصية الأساسية للكتلة، ولكن بينما تتمتع الكتلة المصمتة بداخل منطوي على نفسه ومغلق أمام ما هو خارجه؛ فيما تحظى الكتلة المجوفة (المعمارية) بداخل شبه مفرغ من المادة ولكنه لا ينفتح نحو الخارج إلا عبر فتحات بعينها ينمحي فيها وجود الكتلة ذاتها، أما "الكتلة الهولوجرامية" فداخلها منفتح على الخارج عبر كل النقاط التي تشكل سطحها، بينما تقاوم الضوء الخارجي وتمنع مروره عبر كل هذه النقاط أيضا وكأنها كتلة مصمتة ولكن أمام الضوء فقط، وهو ما يجعلنا أمام حالة فريدة واستثنائية من حالات الكتلة. وهذه الخواص التي تتمتع بها مكونات الهولوجرام هو ما يجعلها قادرة على إظهار موضوعها وتجسيده وكأنه "شيئا يحدث" في المكان. وفي هذا الإطار ينبغي التمييز بين نمطين من التقنية التجسيدية المرتبطة بفعالية الهولوجرام، فهناك تقنية "التسجيل والعرض"، والتي تقوم على استنساخ ما هو حادث بالفعل وإعادة عرضه، مقابل تقنية "تصنيع أو خلق" الشيء/الحدث هولوجراميا عبر أدوات ومعطيات رقمية. والنمط التقني الأول يقوم على تدوين أو تسجيل صورة شيئية؛ أو تحويل صورة ثنائية البعد إلى الحالة الهولوجرامية، ثم إعادة عرضها مجسدة، بحيث يصبح لدينا "نسخة" تستعيد حضور أصل سابق عليها وتتطابق معه، وبالتالي فهذا الاصل يتمتع أمامها بسلطة مرجعية "الظهور" الذي منحها إمكانية أن تكون حاضرة، وهكذا فهذه التقنية لا تتحرك أو تنشط إلا في مجال الحضور فحسب. أما التقنية الثانية فهي تضيف إلى الأولى فاعلية الإنتاج الرقمي عبر برامج او خوارزميات خاصة، بحيث أنها قد تقدم تجسيدا شيئيا لما لم يحدث أو يظهر من قبل قط، وبالتالي فما ينتج عنها هو أصل ذاته، بحيث أنه أيا كان ما قد يحيل إليه هذا التجسيد في الواقع أو الخيال فإن مرجعيته الوحيدة تقريبا هي طريقة صنعه، بمعنى أن لحظة إنتاج هذا "المكون الشيئي" ستنطوي على تطابق لحظتي الظهور والحضور معا، وهذه التقنية التي يمكن أن نطلق عليها "الهولوجرام الرقمي"، أو حتى "الهولوجرافيك" يمكن أن تتطور لتصبح "كتابة شيئية" أو "كتابة حدثية" (تخلق احداثا)، والتي يحتمل –إن ظهرت- أن تذهب إلى منازعة نظام "الكتابة الصوتية" المهيمن -منذ ابتكاره- على مسارات الحضارة الإنسانية. وقد بدأ الهولوجرام منذ فترة في طرح نفسه بوصفه اقتراحا مسرحيا، ولكنه حتى الآن لم يكد يتحول إلى "عنصر مسرحي" يمكن استخدامه لذاته؛ بحيث أن استعماله الحالي الأكثر تواترا وملاءمة يكاد ينحصر في خدمة أو تحسين تجسيد عنصري الملابس والديكور، وإذا افترضنا تزايد معدلات تطور وانتشار هذه التقنية على نحو يسهل من طرائق تشغيلها ويخفض تكلفتها بحيث تصبح أقل من متوسط التكلفة السائد لتصنيع الملابس والديكور وتخزينهما وصيانتهما؛ فقد تصبح أجهزة الهلولوجرام جزء من التجهيزات الأساسية للمسارح الكبرى مثلها مثل أجهزة الإضاءة والصوت، وبمعنى آخر فقد بتنا في انتظار قليل من التطور الذي قد يطيح تماما بالكتل المادية التي يتكون منها عنصري الديكور والملابس إلى خارج المسرح لتحل محلهما شيئية الهولوجرام. وهكذا، فمن الواضح أن الهولوجرام قد بات مؤهلا لمشاطرة المسرح في بعض ألعاب الظهور التي يمارسها، بحيث أن ظهور الكتل المادية "المصنعة" على خشبة المسرح قد لا يصبح بالضرورة مرتبط ارتباطا مباشرا بفعل "التصنيع" الإنساني، بكل ما قد يعنيه هذا من انفتاح ألعاب الحضور المسرحية على آفاق غير مقيدة بمادية تلك الكتل. ولكن هذا التطور الحالي يمر بهدوء بالغ يكاد يكون غير ملحوظ، وربما يظل كذلك، فقانون التكلفة الحدية الذي يحكم بشكل كبير عملية احلال شيئية الهولوجرام محل الكتل المادية لن يعمل بشكل يمكن أن ينتج تأثيرا لصالح الهولوجرام سوى في أوعية الإنتاج المسرحي التي تحظى برساميل ضخمة نسبيا، بينما المسرح بطبيعته لا يشترط حجم إنتاجي بعينه نظرا لتمتعه بحالة من المرونة التي قد تصل في بعض العروض إلى أن تكون تكلفة هذه العناصر المادية قريبة من الصفر. غير أن قانون "التكلفة الحدية" الرأسمالي النزعة قد يحدث تأثيرا ملحوظا في علاقة التجهيزات المسرحية بالهولوجرام؛ إذا ما تم حل بعض المشاكل التقنية والتمويلية الخاصة بقدرة الهولوجرام على التسجيل والعرض الكامل للمنتج المسرحي، فهنا ستصبح التكلفة المتغيرة لليلة العرض –أيا كان حجم تمويله الإنتاجي- في أضيق الحدود، بحيث أن كل ليلة عرض إضافية ستعني نسبة متزايدة من صافي الربح. ومدى تأثير هذا التطور مرتبط بالأوعية المسرحية التجارية التي تستجيب للمنطق الرأسمالي. أما إذا نجح تعاضد الهولوجرام والرقمية في خلق عرض مسرحي هولوجرامي المنشأ والصنع تماما، بحيث نحصل على مجموعة من الكيبوردات التي يكفي أن نضغط عليها لنخلق مشهدا مسرحيا؛ فسنكون عندئذ أمام تطور أكثر إثارة على نحو يستدعي معاودة التأمل في النبوءة التي بدأنا بها، فهل سنعاين حينها لحظة اندثار المسرح امام هذا التطور، أم أن الأمر سيتوقف عند ظهور فن درامي جديد مثلما حدث مع تطور تقنيات السينما والفيديو؟
3- من المسرح إلى السينما وإعادة الاشتقاق التقني للعالم الدرامي: أتخيل أنه مع كل تقدم أحرزته تقنية الهولوجرام في العقود المنصرمة؛ كان البعض ينظر إلى ساعته ليحسب كم تبقى من الوقت قبل أن يموت المسرح ويتلاشى تماما بحيث يتحول ما نطلق عليه "العرض المسرحي الحي" إلى مجرد نسخة محفوظة بالكامل في شريط تسجيل هولوجرامي، غير أن التفكير في مستقبل الظاهرة المسرحية بوصفها عرضة لخطر الاندثار ليس جديدا تماما، فربما قبل قرن ونصف تقريبا كان ثمة اشخاص في مكان ما يتناقشون حول مصير المسرح بعد ظهور التصوير السينمائي؛ أو تقنية تسجيل وحفظ الحركة عبر وسيط مادي يتيح استعادتها وتكرارها بكفاءة ووضوح، وربما لم يكن أحد هؤلاء الأشخاص أكثر ذكاء مني فباغت رفاقه بقوله أن المسرح يحتضر أمام السينما التي تعد الآن لتكون قبره، فما الذي يستطيع المسرح تقديمه سوى سلاسل متتابعة ومرتبة من الانطباعات الحسية التي يشكل تعاقبها عالما دراميا، وهو ما سوف تقدمه السينما بصورة أفضل وأكثر دقة وحساسية، وربما أضاف هذا الشخص –بروح القرن التاسع عشر- أن المسرحيين في مواجهة السينما سيكابدون نفس مصير الحرفيين أمام الصناعة الرأسمالية. ومن المؤكد أن هذه الأقاويل قد تكررت بعدما تم إضافة شريط الصوت للفيلم، ثم بعد إضافة التوزيع اللوني بتحسيناته المتواصلة. ولكن بفضل التاريخ، أو على الأقل بفضل النقطة الزمنية التي نحتلها الآن داخله؛ فنحن نعرف جيدا أن كل ما قيل خلال القرن ونصف الماضيين عن اندثار المسرح أمام السينما هو محض هراء، فالسينما بدلا من أن تقصي المسرح اعتمدت عليه كثيرا في تشكيل ذاتها بوصفها فنا، واستعارت منه تقنيات التمثيل والإخراج وطرائق التعامل مع العالم عبر الدراما ... إلخ، أي أنها اقترضت منه كافة سلاسل ألعاب الحضور التي كونها لنفسه عبر التاريخ. أما المسرح فقد راقب صعود السينما بصمت وطور ذاته تحت تأثيرها كلما كان ذلك ممكنا، ثم في اللحظة المناسبة اقتنصها ومعها ربيبها –الفيديو- ليضمهما إلى صندوق أدواته (أو مقتنياته!) بوصفهما عنصرا مسرحيا يمكن استخدامه في تطوير ألعاب الحضور الخاصة به. وبعبارة أخرى فقد قام المسرح بـ "تطويع" فن الصورة المتحركة لصالحه من جهة، مثلما قام بحصد استثماراته في أصولها ومجال حضورها من جهة أخرى. ولكن حتى إذا كان القرن التاسع عشر –وما تلاه- مخطئا في تنبؤه بالعلاقة المستقبلية بين المسرح والسينما، فهذا لا يعني بالضرورة خطأ من يقدم الآن نبوءة مماثلة حول المصير المنتظر للمسرح مع الهولوجرام، فبرغم أن عقودا كثيرة قد مضت دون أن يتحقق هذا التنبؤ، فمن يدري ما الذي سيحدث في العقود التالية، خاصة وأن السينما والفيديو لم ينازعا المسرح إلا في ألعاب حضوره الدرامية فحسب، أي في جانب واحد من جوانب ماهية الظاهرة المسرحية، وهو نزاع انتهى إلى استحداث اشتقاقات درامية استخدمت لصالح تطور كل هذه الفنون بنسب متفاوتة. ولذلك فمن أجل إعادة التفكير في السؤال أو النبوءة التي بدأنا بها فعلينا أن نقترب أكثر من ماهية الظاهرة المسرحية وطبيعة علاقتها بعالمها.
3- الألعاب المسرحية وعطاءها الاجتماعي والجمالي: هناك شقين أساسيين يتقاسمان ماهية الظاهرة المسرحية، أو بعيارة أخرى فلنقل إن هذه الظاهرة تقدم لنا عطاءين (بالمعنى الفينومينولوجي للعطاء): أولهما: هو العطاء الاجتماعي الذي تنتجه تلك الظاهرة بوصفها ممارسة اجتماعية تتأسس على نمط فريد ومتطور من أنماط الفعل الإنساني الجسدي والمعرفي، بحيث أن ما تنطوي عليه من نظام مرهف لتقسيم العمل بين المنخرطين فيها يجعل من الصعب انقطاع هذا العطاء ما ظل البشر في حال التجمع والتواصل الذي يتطلب ممارسات عامة تجمع بينهم، وبرغم أن اشكال وتوزيعات وتأثيرات حضور هذا العطاء قد تخفت أو تزداد من ثقافة لأخرى أو من عصر لآخر إلا أن افتراض انقطاعه التام يحمل في طياته تصورا عن بشر غير الذين نعرفهم! وهكذا، فالممارسة المسرحية تتعلق في المقام الأول بالاستثمار الدائم لألعاب الظهور التي تدشنت عبر تطور الأفعال الأدائية والطقسية التي قادت مراحل تاريخ التجمعات البشرية، بحيث يمكننا القول أن الأرضية التي تنتج هذه الممارسة أو تجعل إنتاجها ممكنا هي أمر لصيق بمجال "الحضور الإنساني"، لدرجة أنه عندما تم الكشف عن بعض ملامح الأصل الأدائي لألعاب الظهور المسرحية تم استيراد هذا التحليل إلى أغلب مجالات العلوم الاجتماعية على نحو ساد خطابها المنهجي تقريبا خلال العقود الثلاثة الماضية. أما الشق الآخر للظاهرة فهو "ألعاب الحضور"، والتي يمثل "العطاء الجمالي" أحد تجلياتها عبر ما يقدمه العرض المسرحي بوصفه مادة للاستهلاك الجمالي والمعرفي، وللأسف فإن النظرية الجمالية التقليدية ذات الأصل الأدبي والغارقة فيما يسميه البعض –انطلاقا من هيدجر- "ميتافيزيقا الحضور"، لا تكاد ترى في ظاهرة المسرح سوى هذا الجانب فحسب، وهي حتى حين تلتفت إلى العطاء الاجتماعي الخاص بالظاهرة لا تراه إلا بوصفه مشتقا على نحو أو آخر من عطائها الجمالي. وبالتالي ففي كل مرة تذهب فيها هذه النظرية إلى أحد اشتقاقات المقولة الهيجلية الشهيرة حول "موت الفن"؛ وتحاول تطبيقها على "المسرح"؛ فإنها تفعل ذلك تحت غطاء فرضية أن عطاءه الاجتماعي سيتلاشى في نفس لحظة اختفاء عطاءه الجمالي، أي في تلك اللحظة المفترضة لموته بوصفه فنا، وهو ما يعني –طبقا للتحليل الذي نتبناه- أنها تقول أن الظهور سيتلاشى إذا ما انمحى شكل من أشكال الحضور التي يخلقها هذا الظهور لنفسه، وهو ما يكافئ القول بأن السبب سيختفي إذا ما بطلت بعض نتائجه؛ وكأن النتيجة تخلق سببها الخاص حين توجد وتبتلعه إذا انعدمت! ومثل هذه التناقضات الفظة كانت دائما بمثابة العقبة الكأداء في وجه تأسيس تحليل فينومينولوجي فعال للعالم وظواهره وبالأخص المسرح. وهكذا، فالمسرح بوصفه لعبة ظهور بالمقام الأول؛ هو في الأصل حركة متعينة في "الواقع" (أيا كان تعريفنا لهذا المفهوم) تسعى للتلاقي مع الخيال أو المتخيل الجمعي للعالم عبر ألعاب الحضور، وبالتالي فإذا ما افترضنا –جدلا- انقطاع هذا التلاقي على نحو ما فإن هذا لن يؤدي ابدا إلى اختفاء ألعاب الظهور من تلقاء ذاتها، وبمعنى آخر فإن بعض جوانب العطاء الاجتماعي للفعل المسرحي هو سابق ومستقل بشكل ما عن عطائه الجمالي، ولذلك فأي حديث حول موت الفن، أو اندثار فنون لصالح أخري؛ يصدر مرتكزا على منطلقات جمالية بحتة هو بالضرورة لا ينطبق على ظاهرة المسرح ككل.
4- ألعاب الحضور والظهور والاستنساخ الهولوجرامي للمسرح: وفي هذا الإطار فإذا ما كان بوسع تقنية الهولوجرام أن تتطور بوصفها أداة تسجيل وتشغيل للعرض المسرحي على نحو يفضي لتراجع الحاجة إلى التكرار "الحي" للعرض، فإن هذا لن يمس سوى الجانب الخاص بإعادة الألعاب المسرحية فحسب، فحينها لن يكون العرض المسرحي بحاجة إلا إلى الظهور لمرة واحدة فقط؛ ثم تتولى نسخه الهولوجرامية بقية المهمة. ولذلك فربما يمكننا القول -انطلاقا من هذا التحليل- أن النبوءة التي تبشر بأن تطور تقنية "التسجيل والعرض الهولوجرامي" سيؤدي إلى اندثار الظاهرة المسرحية؛ قد سقطت بصورة نهائية، وأننا -سواء في أفضل الأحوال أو أسوأها- قد نشهد مع هذا التطور خطوة إضافية للمسرح تجاه ما أطلق عليه فالتر بنيامين "عصر الاستنساخ التقني للعمل الفني"؛ ليلتحق مرة أخرى بفنون مثل الموسيقى والرسم والأدب المكتوب، وهي فنون خسرت –فيما يقول بنيامين- الهالة أو العبير المصاحب لها، أو بعبارة أوضح: خسرت جزء حميمي من مجال الحضور الذي يخصها. ومع أن المسرح قد قاوم بنجاح –حتى الآن- الجوانب السلبية لفعالية استنساخه عبر الوسائط التقنية إن لم نقل أنه ضاعف مساحة حضوره العام من خلالها بواسطة استحداث أنماط جديدة (إذاعية وتليفزيونية) من العرض تتوازى مع المسرح الحي ولا تقصيه، إلا أن خضوعه المفترض لتقنيات التسجيل الهولوجرامي قد يجعله يخسر هذه المرة ما هو أكثر من مجرد تلك الهالة المرتبطة بحضوره المباشر؛ لأن هذه التقنية تبدو قادرة على الحلول محل أي تكرار مستقبلي للعرض على نحو قد يسلبه تلك المساحة المخصصة لإعادة اكتشاف ذاته باستمرار، المرة تلو الأخرى؛ عبر معاودة ممارسة ألعاب الظهور والحضور، ولكن بالمقارنة بالموسيقى التي سبق أن منيت بخسارة مشابهة فمن المشكوك فيه أن تطورا كهذا يمكن أن ينهي المسرح كما نعرفه. اما إذا تطور الهولوجرام إلى "كتابة شيئية" تفرض قوانين جديدة تماما على ألعاب الظهور والحضور والعلاقات بينهما، ففي هذا الإطار يمكننا التفكير في الموسيقى مرة أخرى، وتأمل التحول المماثل الذي اجتاحها بعد اخضاع الفعل الموسيقي لتقنيات الابداع الرقمي بحيث تطابقت لحظة التأليف أو الكتابة الموسيقية مع لحظة العزف المسجل القابل للتداول، وأصبح بالإمكان أن نعاين انتشار مقطوعات موسيقية لم تعزف من قبل قط. غير أن حجية هذه المقارنة قد تضعف كثيرا أمام تلك الفوارق الهائلة بين ماهيتي الموسيقى والمسرح، ففي الغالب لا تقدم تقنيات الموسيقى الرقمية سوى نفس الصوت الموسيقى الذي قد يصعب تمييزه عن الصوت الصادر عن فعل العزف التقليدي، وهو ما لا ينطبق على "الأشياء" أو الأحداث التي قد يصبح الهولوجرام قادرا على خلقها مسرحيا. ولذلك ربما كان علينا أن نواصل التأمل على نحو أعمق في ماهية الظاهرة المسرحية وطبيعة تأسيسها وأنماط تعاملها مع ما تجلبه إلى فضائها الخاص من العالم المعاش، وخبراتها التاريخية التي راكمتها عبر التنازع مع ما هو شيئي.
5- ظاهرة المسرح بين العالم الأنطولوجي والفضاء الرقمي: من المنظور الابستمولوجي نحن لا زلنا نعيش داخل حدود ما أطلق عليه "العالم الأنطولوجي"، والذي بدأت معالمه في التبلور فلسفيا منذ القرن الخامس قبل الميلاد في اليونان القديمة (مع بارمنيدس وزينون، ثم أفلاطون وأرسطو)، إلى أن اكتملت وبسطت هيمنتها بصورة تامة على ما هو معاش في الإسكندرية "الهيلينية" التي كانت حينها مدينة العالم. وما هو انطولوجي هو ذلك الذي يبقى في الحدث وبرغمه، إنه ما لا يطاله "الحدث"؛ أو بعبارة أوضح "ما لا يطاله التغيير" عبر مروره بالحدث. والعصور الانطولوجية المختلفة التي شهدتها حضارة البحر المتوسط التي ننتمي إليها قد عززت تطورات هائلة في ألعاب الحضور، لأن ما هو انطولوجي ليس بمقدوره أن يواصل الصمود في محايثة ما هو معاش إن لم تسانده أو تستدعيه مجالات حضور مستقرة يمكن إعادة إنتاجها اجتماعيا بسهولة وغزارة. أما المسرح –على الأقل في طبعته اليونانية، إن لم يكن قبل ذلك - فسيبدو وكأنه قد عثر على فضاءه الخاص قبل أن تتبلور ملامح هذا العالم الانطولوجي، أي أنه سابق على هذا العالم وغريب عنه في الوقت نفسه. وهكذا، فالمسرح ينتمي إلى عالم ابستمولوجي تم نسيانه وهضم نتائجه في العالم الذي تلاه بحيث أصبحنا لا نكاد نعرف عنه شيئا "بعد"، وهذا الزمن الابستمولوجي البائد الذي اعتدت أن أطلق عليه اسم "عالم الفعل" قد شهد تطور الفعل الجسدي والمعرفي في مواجهة "ما يظهر"؛ أو "ما يحدث"، الأمر الذي منح الانسان كل ما لديه –تقريبا- من المبادئ الأساسية لألعاب الظهور والحضور؛ وهو ما مهد أو أتاح خلق هذا العالم الأنطولوجي الذي ما لبث أن قدم نفسه بوصفه كيان يتطوى داخله كل ما هو تاريخي وكأنما لم يكن شيئا قبله! وأعتقد أن العصور التي سادها "عالم الفعل" قد وجدت تأسيسها المكتمل والنهائي في مصر الفرعونية القديمة، وخاصة عبر مفهوم "الماعت"، وخلافا لما هو شائع فإنني افترض أن هذا المفهوم يتمحور حول اكتشاف ماهية الفعل ذاته في علاقته بالحدث أكثر مما يعنى بنتائجه سواء تمثلت في مفهوم العدل أو غيره. وفي هذا العالم –القديم- كانت علاقة الفعل (وبخاصة الفعل الإنساني) بالحدوث أو الظهور هي الأرض التي يتأسس عليها كل ما هو معاش؛ وكل ممارسة اجتماعية أو جمالية، والكثير من الفنون التي أنتجها هذا العالم قد شهدت تحولات جذرية مع عصور تطور العالم الانطولوجي، باستثناء بعض الفنون الأدائية (مثل المسرح والموسيقى) التي تم تأسيسها بوصفها "حدوث" خالص ينتجه الفعل الإنساني. وفي هذا الإطار، فإن التقنيات الرقمية في جوهرها هي حدوث خالص أيضا، وبذلك فهي تنتمي بشكل ما إلى عالم الفعل، ولكن من زاوية أخرى فالمنتج الرقمي بقبوله التسجيل والاستعادة المتطابقة مع ذاتها يستجيب لشرط البقاء الأنطولوجي الذي يتطلب عبور ما يحدث دون تغيير، ولذلك فإن جلب "الرقمية الشيئية" أو الهولوجرام بتوسطها بين ما هو فعل حادث وما هو انطولوجي باقي؛ إلى الظاهرة المسرحية يمكن أن يكون تطورا مثيرا للغاية ومنذرا بتحولات يصعب توقعها ناهيك عن التفكير فيها بدقة مقبولة. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن التطورات الأخيرة للخطاب الثقافي عبر مرحلة "الحداثة المتأخرة" (والتي عادة ما يطلق على بعض تجلياتها اسم ما بعد الحداثة!) تميل إلى إبداء مقاومة إيديولوجية عنيفة –أحيانا- ضد الهيمنة الانطولوجية، أو على الأقل ضد سيادة "الحقيقة الأنطولوجية" على المعرفة الإنسانية (وهو النزوع الذي يعد أحد أهم مصادر النبوءة التي بدأنا بها هذه التأملات)؛ فإن هذا قد يعني أن ثمة بيئة فكرية صالحة لاستقبال وتدعيم وتحفيز أو تسريع تلك التحولات المنتظرة للمسرح عند تلاقيه الأخير مع العالم الشيئي للهولوجرام الرقمي الذي ينتزع خاصية الحضور أو البقاء الانطولوجي لنفسه فيما يهتك كل ما يمكن اسناده إلى الحقيقة الانطولوجية. وربما كان التفكير في هذه التفاعلات الممكنة يتطلب أن نذهب إلى تأمل أكثر تفصيلا حول طبيعة الفعل المسرحي، بحيث نصبح في وضعية تمكننا من التساؤل حول قدرة الهولوجرام الرقمي على ابتلاعه وازاحته.
6- أنماط الفعل المسرحي: يتأسس الفعل المسرحي على ما هو مجلوب من العالم الواقعي المعاش، ولكنه –عكس ما تذهب إليه أغلب نظريات المحاكاة- لا يقدم هذا المجلوب كما هو، فللمسرح طريقتين أو نمطين من الفاعلية "التحويلية" في التعاطي مع الأشياء والبشر والمعاني وكل ما يستعيره مؤقتا من العالم الخارجي ليؤسس به عالمه الخاص. والنمط الأول هو "التأطير" المسرحي، وهو يتأسس على الاكتفاء بالاستخدام المسرحي لحضور تلك المجلوبات التي تظهر من خلاله كما تظهر في العالم دون تغيير كبير، ولكنه يقوم بربط الأفق المصاحب لها بالمكونات الأخرى لعالمه على نحو يجعلها أشبه بالحروف أو الكلمات التي تشكل الجمل التي يسعى لقولها أو تقديمها، وهو ما أطلق عليه "تأطير مجال الحضور المعاش". إما النمط الثاني للتحويل المسرحي فهو "التطويع"، وهو يقوم بالإضافة إلى ما سبق بالتلاعب في أنماط ظهور مجلوبات العالم الخارجي وإعادة تشكيل مجال حضورها بحيث "يطوعها" لصالحه على نحو قد يسلبها الكثير من قيمتها أو ملامحها وتضميناتها الذاتية أو الداخلية التي كانت تتمتع بها قبل جلبها إلى المسرح؛ بحيث يتم منحها قيمة أخرى مباينة لما كانت تنطوي عليه؛ إن لم تناقضها أحيانا، وهذه التغيرات المضافة للمجلوبات لن "تظهر" إلا بوصفها جزءا من الفعل المسرحي وموضوعا له، أما عندما ينقضي هذا الفعل فقد ترتد هذه المجلوبات عن الكثير مما اكتسبته ولكن هذا لا يعني أن بإمكانها أن تعود تماما لما كانت عليه، على الأقل ليس بالنسبة لنا نحن الذين شاهدناها وهي تنخلع عن ذاتها وتتخارج إلى شيء آخر. وهكذا، فهذين النمطين، التأطير والتطويع، هما الأدوات الأساسية في الألعاب المسرحية بمواجهة العالم، فالأول يتلاعب بأفق الحضور، والثاني يتلاعب بكيفيات الظهور والحضور معا. وهو ما يمنح المسرح مساحة هائلة من المناورة مع العالم، وقدرة استثنائية على انتهاك استقرار ما هو معاش وقلقلته. ولكن إلى أي مدى يمكن لهاتين الفاعليتين أن تناورا حالات الشيئية الرقمية الجديدة التي ينتظر أن يغزو بها الهولوجرام كل ما هو مسرحي؟
7- الشيئية الطارئة (الحادثة) للمسرح: إن القول بأن قدم الظاهرة المسرحية يجعلها فنا مكشوفا ومستنفدا وأن كل ما يخصها معروف؛ هو أمر يفتقر للدقة إلى حد كبير. فلا يزال المسرح غريبا عنا إلى هذا الحد أو ذاك، بحيث سيبدو وكأن ثنائية "بول دي مان" حول البصيرة والعماء تتحكم أكثر مما ينبغي في العلاقة بين الفلسفة والتنظير الجمالي للمسرح، وهو ما نجده بداية من ارسطو وبصيرته بالدراما المسرحية بوصفها "تركيبا للأفعال" مقابل عماءه أو استخفافه بالعرض المسرحي الذي بدا له أحيانا وكأنه زائد عن الحاجة (وهو النزوع المزدوج الذي تحكم في الخطاب المسرحي بقدر متساوي من الهيمنة لعشرات القرون)، مرورا ببعض الفلاسفة ممن كانوا أكثر قربا من معاينة جوهر ما هو مسرحي والتقاطه في فكرة واضحة تصلح لاستدراج العديد من التحليلات الثرية؛ ولكنهم تعاموا عن الذهاب خلفها في إطار منازعاتهم ضد المسرح ودعوتهم لكراهيته على نحو أو آخر، وهو ما ينطبق مثلا على "فرانسيس بيكون" الذي اصطدم اصطداما غير واعي بآلية الاستباق المسرحي للعالم ولكنه أغلق عينه عنها وفر من أمامها صامتا ليتشبث بمقولته المحقرة عن "وهم المسرح" أو صنميته، وكذلك نيتشة الذي كان أول من تنبه لفعالية "التطويع" الذي يمارسه التحويل المسرحي (الفاجنري) على الموسيقى؛ ولكنه اكتفى باستخدام هذه الملاحظة في حربه "الشخصية" ضد الاوبرا الفاجنرية؛ مثلما رأي أن حالة "التياتروقراطية" أو سيادة المسرح على جميع الفنون (وهو أول من استخدم ذلك المصطلح الأفلاطوني بهذا المعنى) هو أمر أشبه بالدنس الجمالي الذي يجب قتاله أو على الأقل مقاومته عبر تحقير غير مسبوق للمسرح. وهكذا، فالأمثلة النظرية الي يمكن ايرادها لإثبات غرابة المسرح أمام مفاهيمنا الجمالية والفلسفية ذات الأصل الأنطولوجي هي كثيرة لدرجة يصعب احصاؤها، ولكنني سأكتفي بتوقف آخر عند هيدجر ودراسته الجمالية الأهم في القرن العشرين: "أصل العمل الفني"، ففي بداية هذه الدراسة سيتساءل هيدجر ببساطة عن شيئية العمل الفني، وهو سؤال كان يمكن أن يصبح كاشفا لخصوصية شيئية الظاهرة المسرحية مقابل الممارسات الجمالية الأخرى، لولا أن هيدجر لم يكن يفكر في الشيئية المكونة للحدث الفني؛ أو حتى الشيئية التي تتكون عبر ما يحدث في الممارسة الجمالية؛ وكلاهما يمثلان المادة الأصلية لظهور العمل الفني؛ بقدر ما كان يفكر في الشيئية الباقية، أي ذلك الشيء الذي يبقى من "حدث الممارسة الفنية" بعدما يخضع للتحويل الجمالي، وبعبارة أخرى فهيدجر هنا لم يكن يفكر في العمل الفني إلا بوصفه تحويلا أنطولوجيا للشيء، ولذلك لم يتمكن من تمييز حالة الشيئية الطارئة التي يتعاطى المسرح عبرها مع العالم، وأن "العمل المسرحي" هو في الأصل اجتماع مؤقت لأشياء متعينة في اطار حدث بعينه، وهو ما يجري على نحو لا يسعى إلى تحويل تلك الاشياء من حالة ثابتة إلى حالة أخرى ثابتة تبقى بعد نهاية العمل، فعقب نهاية العرض المسرحي "لا شيء" مما كان فيه يبقى على حالته التي اكتسبها مسرحيا، فالبشر أو الممثلين وقطع الديكور والملابس والاكسسوارات والأوراق التي تحفظ النص الأدبي أو التعليمات الاخراجية أو الألحان الموسيقية، أي كل ما استخدم أو يمكن استخدامه لخروج العرض إلى العالم؛ كل ذلك سيظهر بعد العرض كما كان قبله تقريبا، ودون اختلاف ملحوظ في تعيناته أو "شيئيته الظاهرة"؛ حتى وان بدا أن مجال الحضور المصاحب له قد أصابه بعض الاختلاف أو الانتهاك. وهو ما يعني أن الشق المسرحي الذي ينتمي إلى طائفة "ألعاب الظهور" يفنى مع نهاية كل ليلة عرض ولا يترك سوى ما ينتمي إلى ألعاب "الحضور" وأفقه، ولذلك فما أن يتم اسدال ستار العرض المسرحي حتى يصبح غير متاح لنا التواصل معه إلا عبر أفق الحضور الذي أخلفه، وهو ما يصدق حتى على فريق العمل الذي سيتعين عليه تقديم العرض مرة أخرى في ليلة تالية، فأيا كانت الأشياء المتوفرة قيد الاستخدام فإن هذا الفريق ينبغي أن يستعيد أفق حضور العرض من أجل إعادة إنتاجه وإعادة جلب أشياءه مؤقتا وبصورة طارئة إلى لحظات "ظهور متعين" جديدة. وهذه "الشيئية الطارئة" التي يمتاز بها الفعل المسرحي –والتي عادة ما تفشل الجماليات المعاصرة في إدراكها- تفتح السؤال أمام كيفية تفاعلها أو مصيرها أمام شيئية الهولوجرام التي ما أن تطرأ حتى تبقى، والتي ما أن تقتنص لحظة ظهور عارض حتى تستحلب منها إمكانية أن تكون حاضرة أبدا.
8- مناورات الظاهرة المسرحية: ومن أجل توسيع افق هذه التأملات ببعض النماذج الواقعية سأتعرض هنا إلى مثالين حديين لتعاطي الفعل المسرحي مع الأشياء التي يجلبها من العالم، الأول يتعلق بتطويع شيئية الكتلة النحتية الصلبة، التي تبوأت في مراحل بعينها مرتبة النموذج الأصلي لما هو أنطولوجي، والذي ما أن يظهر حتى لا يطاله بعدها الحدث أو التغير، والثاني خاص بتأطير تلك الشيئية الرقمية التي توالي غزو عالمنا بوتيرة متصاعدة. في الدورة 12 للمهرجان التجريبي (عام 2000) قدم العرض اليوناني "أوريستيا" تجربة شديدة التفرد في مناورتها مع التماثيل والأشكال النحتية الإغريقية القديمة، حيث كان كل مشهد يبدأ من تجسيد أحد هذه التماثيل بواسطة أجساد الممثلين ثم لا شيء آخر سوى تلاوة مؤسلبة لجمل الحوار إلى أن ينتهي المشهد فتتفكك الكتلة وتعاود الاندماج في تشكيل جديد. كان المؤدون يتحركون ببطء شديد بين كل مشهد ساكن وآخر؛ حركة متناغمة ومنسجمة في كافة تفاصيلها؛ ومحسوبة بدقة شديدة بحيث أنه مهما تعارضت اتجاهاتها أو تقاطعت فإنها تتلاقى جميعا في اللحظة نفسها وتسكن داخل تشكيل يستوحي تلك التماثيل القديمة ذات الشخوص المتعددة، كان هذا الانسياب فائق النعومة يبدو منشغلا بذاته وساعيا إلى الانطواء نحوها وكأنه بلا خارج يمكن أن يذهب إليه، بينما كان السريان الذي تتأود عبره الحركة ببطء لا يكاد يخدشه ثقل تضاغط الكتل الجسدية تجاه بعضها البعض وهي تنشد الاتحاد في كتلة مصمتة تحاول طرد الفراغات؛ إلى أن تحين لحظة تجلي ذلك التجمد الصارخ للحركة في أوضاع تكاد تقاوم قانون الجاذبية أكثر مما تستجيب له. وعبر هذا الاندفاع البطيء والانسياب الهادئ للأجساد نحو ما سيبدو وكأنه مصيرها النهائي الذي ستتعثر به؛ كان ثمة أفق حضور يتخلق بصورة هادرة تمنحه القدرة على الاستمرار والتحويم حول هذه الأجساد حتى بعد أن سكنت حركتها تماما، بحيث لن يمكنك أبدا أن تغفل عن تلك العلاقات الدرامية الفاتنة التي باتت توالي التدفق بين جنبات هذه الكتل المتحجرة وتفيض عن انثناءاتها الرشيقة وتلاحق الصوت الذي يحمل جمل الحوار وتمنحه تضخيما أو تأكيدا دراميا لتلوناته ونبراته المؤسلبة التي لو انتزعناها من المشهد فلن تبدو أكثر من مجرد تأوهات معدنية مصمتة وباهتة، أما بوصفها جزءا من المشهد فمن الصعب القطع ما إذا كان هذا الصوت يشع من أرواح الممثلين التي سجنت داخل هذا الشكل المنحوت أم أنه يهبط إليها من مكان ما! وهكذا، قدم هذا العرض تطويعا مسرحيا لفن النحت أو منتجاته، عبر إخضاعه لتلك التتابعات البسيطة من الحركة والسكون، والتي كشفت كيف يمكن لهذا النموذج الانطولوجي الصلب المتعالي أن يكتسب ظهوره من داخل سلسلة من الأفعال الحركية المتناغمة ذاتيا، مثلما –وهو الأهم- كيف يمكن لهذه الحركة نفسها أن تعود إلى ابتلاعه ومحوه كأنما لم يكن! وفن النحت؛ مثله مثل الكثير من الفنون القديمة، تم "استخدامه" مسرحيا في إطار فعالية التحويل التأطيري منذ أكثر من ألفي عام، أما عرض "الاوريستيا" الذي ذكرناه هنا فيكاد يكون –حسب علمي- المرة الأولى في التاريخ التي يتم فيها إخضاع "النحت" لآلية التطويع المسرحي على هذا النحو. وبعبارة أخرى فالفارق الزمني بين تطبيق مرحلتي الفعل المسرحي (التأطير والتطويع) على موضوعة النحت يزيد على الفي عام، وهو ما يعني أن المسرح لا ينسى مهامه ولا صراعاته قط مهما طال الزمان. أما المثال الثاني، ففي عام 2016 قمت بإجراء دراسة حول عنصر "الدمى" في العروض المشاركة بالمهرجان التجريبي. والدمى هي أحد أنماط الكتلة الأداة، أي الكتلة التي هي نتاج فعل إنساني أو وسيلة لأداء هذا الفعل على نحو أكثر كفاءة، وفي هذا الإطار تنتمي الدمي لمساحة تقاطع شديدة الحساسية والرهافة بين الكتلة المادية الظاهرة وألعاب الحضور، فهي منصة مادية مخصصة لاستقبال ما يخص الوعي عبر "آلية المخارجة" التي تجوف حضور الدمية وتملأه بمعطياتها في نفس الوقت، وهو ما يتم على نحو يجعل كتلة الدمية تلعب دورا شبيها لما تقوم به الكتلة المعمارية المجوفة التي تعمل -في ميدان الظهور- على استقبال واحتواء وحفظ ما يأتيها من خارجها. وفي عرضين ("الزومبي والخطايا العشر" من مصر، و"سم هاملت" من المكسيك) كان ثمة منازعة واضحة تحاول مجابهة صور وأحداث وأفعال الفضاء الرقمي الذي يقدم نفسه بوصفه يمتلك بشكل أو آخر سلطة ماضية على المصير الإنساني والاجتماعي، وفي مواجهة هذه الشيئية الرقمية الطارئة والعصية على الإمساك بها؛ اختار العرضان دمجها في علاقة مع الكتلة/الدمية التي بدت وكأنها شبكة قادرة على اصطياد هذا المعطى الرقمي المهيمن وإكسابه مزيدا من الحسية والتعين. وهذه المناورة المسرحية المشتركة –التي يفصل بينها مسافة جغرافية وثقافية بقدر التباين بين مصر والمكسيك- تضعنا أمام مناورة الفعل المسرحي التي تهدف إلى احتواء أو تجسيد الحضور الفوري والزائل لمعطيات العالم الرقمي عبر كتلة مادية شديدة القدم يعود ظهورها التاريخي إلى عشرة آلاف عام تقريبا (للمزيد انظر للكاتب: "الدمى والوعي والعالم" نشرة مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي والمعاصر، 2016، أو موقع الحوار المتمدن). بالنسبة لنا الآن فكل من الدمية والتمثال هي كتل ذات وظيفة جمالية بالمقام الأول، ولكنها في عصور أخرى كانت كيانات أسطورية ذات سطوة دينية أو تعبدية، وهنا سيبدو المسرح وكأنه يستعيد زوال الهيمنة الاسطورية الما قبل تاريخية للدمية لمواجهة الهيمنة الرقمية "الما بعد تاريخية"، فيما سيستحضر مع التمثال اسطورة البقاء الصلب المفارق للعالم الإنساني ويفتتها عبر الحركة إلى أصلها بوصفها تنتمي إلى مجال حضور الفعل الإنساني. ومن الواضح أن هاتين المناورتين تغطيان مساحات جغرافية وثقافية وجمالية وزمنية هائلة الاتساع، وهو ما يعني أن لظاهرة المسرح ميل عنيد وتاريخ طويل -لما ينتهي بعد- في منازعة ما يهيمن أو ما يقدم نفسه بوصفه متعاليا على الفعل الإنساني، ولا أكاد أجد مبررا للقول بأن أي هيمنة متوقعة للهولوجرام الشيئي ستحظى بنصيب أقل من هذه المنازعة المسرحية.
9- رهان المسرح: وهكذا، فالظاهرة المسرحية تحظى بمساحة شاسعة لسريان حركتها وفعاليتها التحويلية على نحو يمنحها قدرة شبه دائمة على مناورة العالم المعاش فضلا عن نزوعها إلى تأطير أو اخضاع كل ما يطرحه هذا العالم وجلبه إلى حيث يصبح موضوعا ممكنا للفعل المسرحي الذي يستطيع التعاطي مع عناصره أو مكوناته عبر أكثر من نمط تحويلي، وربما لايزال المسرح هو ميدان التدريب الأساسي الذي يختبر فيه الانسان تفاعله مع ألعاب الظهور والحضور وإمكانيات المزاوجة بينهما في مواجهة حدوث الأشياء، إنه الأفق الذي يستبق فيه الفعل الإنساني عالمه مستشرفا مصائره. ورغم ذلك فإن معظم هذه الخصائص المسرحية قد تصبح عرضة للهجوم الاستحواذي المنتظر لتقنية الكتابة الهولوجرامية الشيئية -حال اكتمال ظهورها- والتي قد تلاقي دعما من النزوع الرأسمالي الدائم لخفض التكلفة الحدية، بحيث أن كل ما مررنا به لا يجعلنا نفكر باطمئنان فيما إذا كان هذا التطور المتوقع سيسفر عن نهاية المسرح كما نعرفه، أم أنه سيفضي إلى ظهور نوع جديد من الفن الدرامي يتقاطع مع المسرح في تقنياته وعوالمه مثلما حدث مع تقنية التصوير والعرض السينمائي. وربما لا يمكن حسم هذه التوقعات المتعارضة إلا في إطار رهان يتخارج عن النبوءة التي بدأنا منها هذه التأملات، وفي هذا الإطار سأضع رهان -مشروط- على ازدهار الممارسة المسرحية ما ظل التجمع البشري والفعل الإنساني هما أساس بناء العالم. لقد تعرضنا لمرونة الفعل المسرحي التي تجعله قادرا على إضافة كل ما يظهر أو يحدث إلى فضاءه، وهو ما يتيح لنا التفكير في أنه قد يتمكن بسهولة من إضافة "الشيئية الهولوجرامية" إلى نطاق فاعليته، ولكن هذه القدرة ليست المبرر الوحيد لرهاني على استمرار المسرح، فتلك المرونة المسرحية التي تسمح بالإضافة تسمح أيضا بالتخلي والحذف، فلا يكاد يوجد عنصر أو مكون مسرحي واحد –على سبيل الحصر- غير قابل للاستبعاد أو الاستبدال، وتاريخ وحاضر المسرح يمدنا بالكثير من المعطيات في هذا الشأن، بدءا من استبعاد النص اللغوي أو الأدبي مرورا بالإطاحة بالممثل ذاته والاستغناء عن الكتل المادية للديكور والملابس وصولا لتحييد؛ أو حتى التخلي، عن جانب من فضائه الحسي المزدوج مثلما نجد في مسرح المايم المنعدم الصوت تقريبا، أو المسرح الإذاعي الذي يقصي حاسة البصر تماما، وفي كل مرة يستبعد فيها المسرح أحد عناصره يتحول من شكل لآخر ومن سلسلة ألعاب ظهور وحضور إلى أخرى، ولكن الممارسة المسرحية تستمر في كل الأحوال ولا تنقطع. وبالطبع فإن التطور الهولوجرامي إذا أصبح قادرا على منازعة المسرح وملاحقته فيما يضيفه، فقد يستطيع أيضا مطاردته فيما يقصيه أو يستبعده ولكن أغلب الظن أن هذه المطاردة إن قدر لها أن تبدأ فقد تستمر لأحقاب طويلة قبل أن تحصل على نتيجتها النهائية.
10- الهولوجرام والعالم، سؤال آخر! لقد بدأنا هذه التأملات بسؤال عن تأثير التطورات المحتملة للهولوجرام على مصير المسرح، وحاولنا التوقف أمام حالات المجابهة أو المنازعة "المباشرة" التي يمكن أن تنشب بينهما، ولكن حتى ضمن الإطار المحدود الذي يرسمه هذا السؤال فإن كل ما استعرضناه هنا لا يغطي المنطقة التي أتاح انفتاحها أمام التفكير، إذ من المفترض أن تصاعد فاعلية الهولوجرام لتصل إلى حد تشكيل نظام كتابة جديد يكتب الأشياء والأحداث هو أمر ليس من شأنه أن يؤثر في المسرح فقط، بقدر ما سيطال أنماط ظهور وحضور كل ما هو "شيئي" أو "حدثي" في العالم، أي أن تأثيره سيمتد إلى الأرض التي يصدر عنها الفعل المسرحي ويتحرك فوقها، وهو ما يضعنا أمام سؤال آخر اكثر اتساعا وغموضا: هل سيؤدي ظهور "الكتابة الهولوجرامية" إلى اندثار العالم الذي نعرفه ليحل آخر محله؟ أولا، يجب ان نؤكد أن هذا السؤال ليس من قبيل المبالغة المابعد حداثية التي تبدو في بعض الأحيان وكأنها نموذج واضح لما نعته هيجل بالوعي الشقي أو المتعب الذي لا يستطيع الإمساك بالعالم فيكتفي باستغلال كافة الفرص المتاحة لنفيه، إذ أن تقنية الهولوجرام قد اصطدمت منذ لحظة ظهورها الأولى مع بعض من أعمق مفاهيمنا المؤسسة للعالم، فمثلا سنجد أن حالة التجسيد الهولوجرامي التي يمكن استعادتها باستخدام الصورة المسجلة بكاملها أو باستخدام جزء منها فحسب؛ قد افضت إلى تصدع مباغت في ثنائية الجزء والكل، بحيث سيبدو هنا أن الجزء يساوي الكل، بينما لا يزيد الكل عن أي من اجزائه مهما انقسمت! وهو ما أدي - في الربع الأخير من القرن الماضي- إلى اندلاع موجة من الانخطاف الميتافيزيقي المدوخ تجاه هذه الصدمة الهولوجرامية، وبرغم أن هذه الموجة قد خفتت بعدما تبين أن هناك حدودا لا يمكن تجاوزها في تجزيئ الصورة المخزنة حتى يظل تجسيدها كفؤا، إلا أن تكريس الحالة الهولوجرامية بوصفها مصدرا لنماذج مختلفة وراديكالية في فهم العالم لم ينقطع من حينها، فالمبدأ الهولوجرامي المتعلق بإعادة إنتاج تجسيد ثلاثي الأبعاد من معطى مخزن في بعدين قد أصبح نموذجا متبعا في بعض نظريات الفيزياء الكونية التي تتطور ببطء منذ التسعينات، هذا فضلا عن العديد من التأويلات الأكثر ميتافيزيقية التي تستخدم "الهولوجرام الكمومي" في بناء فرضيات حول الإدراك او تتحدث عنه بوصفه السجل الذي تدون فيه كل التفاعلات التي تحدث في العالم على نحو يستدعي مفهوم "كتاب القدر" أو اللوح المحفوظ الذي يتضمن تاريخ كل ما يجري في الكون. ولكن بغض النظر عما يمكن أن تنتهي إليه هذه الممارسات النظرية؛ على أهميتها، إلا أنها في النهاية لا تطال سوى فهمنا أو تفسيرنا للعالم ومجرياته فقط، أما إذا كان مقدرا أن تتحول تقنية الهولوجرام إلى نظام كتابة فهذا قد يجلب تغييرات جذرية تطال "العالم المعاش" ذاته وليس كيفية فهمنا له فحسب. ومن أجل فحص هذا الاحتمال؛ علينا أن نؤكد أولا ان العالم بوصفه ظهورا فإنه يتحدد بالكامل طبقا لتفاعلات أو مسارات الفعل والحدث والتي تتأسس على لعب القوى واستجابة "اختلاف القوى" لذاته، أما عالمنا بوصفه حضورا فهو يصدر عن الترابطات المعرفية التي تتخلق بين الفعل والحدث، فيما تتوقف مساحة امتداد هذا الحضور وتنوعه على قدرتنا على تبادل هذه الترابطات والتواصل عبرها بحيث يتطور إلى فضاء حضور مشترك بحجم العالم الذي يضمنا. وقد تطور فضاء الحضور المشترك هذا عبر عصرين ابستمولوجيين كما ذكرنا سابقا، أولهما "عصر الفعل" الذي كرس بالمقام الأول لمحاولة السيطرة على الحدث من خلال الفعل، وثانيهما "العصر الانطولوجي" الذي اعتمد على تخليق الكيانات الانطولوجية الثابتة وعزلها عن تعرضها للتغيرات التي يفرضها الحدث على نحو لا ينقطع، وهو ما تم انجازه عبر تطور قدرة الفعل المعرفي على الاستقلال عن الحدث أو تحييد تأثيراته، أي أن هذين العصرين ارتبطا بتزايد الاتكاء على الفعل سواء كان يؤدي أدواره في الواجهة أو في الخلفية؛ مقابل التحكم في الحدث أو التباعد عنه أو خلق مسافة عازلة وقابلة للتزايد بينه وبين مجالات الحضور التي يخلقها الفعل. وفي هذا السياق يمكننا التفكير في أن التحول الهولوجرامي المحتمل إلى نظام كتابة يجسد الاحداث قد يؤدي إلى خلخلة غير محسوبة لما هو قائم حاليا من توازنات ابستمولوجية وممارسات معاشة بين الفعل والحدث لصالح الأخير، وهو ما يعني أننا قد نكون حينها في مواجهة تحول للمسار التاريخي الذي تقدمت عبره الابستمولوجية نحو اتجاه معاكس للاتجاه الذي تأسست عليه، مما قد يفضي إلى ظهور عالم يصعب تخيل معالمه انطلاقا من مسلماتنا وفرضياتنا الحالية، ناهيك عن إمكانية التأمل في مصير المسرح في هذا العالم المحتمل! وهكذا، فإذا كان السؤال الذي بدأنا به قد قادنا إلى الانفتاح نحو التفكير في أفق العلاقات القائمة والممكنة بين كل من الهولوجرام والمسرح والعالم؛ فمن الواضح أننا بحاجة إلى الكثير من الجهود المستقبلية التي لن يتعين عليها أن تهدف إلى حسم هذا السؤال بقدر ما ينبغي أن تسعى إلى مزيد من التجول في ذلك الأفق الذي دشن انفتاحه.
#عبد_الناصر_حنفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الترجمة ولعنة -تانتالوس-: شوية ملاحظات حول ترجمة -فتحي إنقزو
...
-
استطرادات حول تعريف هوسرل للظاهرة بوصفها حضورا
-
الكذب ووقع الحقيقة - 2004
-
عن دوار الترجمة وإفساد المبتدئين - ملاحظات حول ترجمة كتاب -ج
...
-
من ثقب العبارة: تأملات أولية في بعض سياقات أعمال إريكا فيشر
-
-نحو تأسيس فينومينولوجيا المسرح- :عن ظاهرة المسرح بوصفها مما
...
-
تأملات أولية في حدث ظهور ما هو موسيقى
-
نحن، والآخر في العالم!
-
شذرة حول الصخب الهيجلي وعماء الزمن
-
الدمى والوعي والعالم
-
عن إشكاليات التأطير الجمالي في عرض: عاصفة رعدية
-
تساو يو والروح الصيني القلق - تحليلات أولية حول الإطار الدرا
...
-
تأملات تمهيدية حول ظاهرة المهرجان التجريبي
-
عن ظاهرة المسرح والمسابقات التنافسية
-
تقرير فني حول عرض -قول يا مغنواتي-
-
عن الشوق الاجتماعي للمسرح .... ومخاطر خيانته!
-
عن الأمل الهيجلي .. ورهاناته
-
أغنية البجعة الليبرالية
-
في إنسانية المسرح الجامعي
-
من -ماكبث- إلى -بير السقايا- .... تأملات أولية في تحولات الد
...
المزيد.....
-
زيلينسكي: الحرب مع روسيا قد تنتهي في هذا الموعد وأنتظر مقترح
...
-
الإمارات.. بيان من وزارة الداخلية بعد إعلان مكتب نتنياهو فقد
...
-
طهران: نخصب اليورانيوم بنسبة 60% وزدنا السرعة والقدرة
-
موسكو.. اللبنانيون يحيون ذكرى الاستقلال
-
بيان رباعي يرحب بقرار الوكالة الذرية بشأن إيران
-
تصريحات ماكرون تشعل الغضب في هايتي وتضع باريس في موقف محرج
-
هونغ كونغ تحتفل بـ100 يوم على ولادة أول توأم باندا في تاريخه
...
-
حزب -البديل- فرع بافاريا يتبنى قرارًا بترحيل الأجانب من ألما
...
-
هل تسعى إسرائيل لتدمير لبنان؟
-
زيلينسكي يلوم حلفاءه على النقص في عديد جيشه
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|