عن الأسلوب في “البيان الشيوعي”
أحمد البلتاجي
2020 / 6 / 20 - 10:45
أُمبِرتو إيكو
ترجمة أحمد البلتاجي
يَصعُب تخيّل أنَّ بضعة صفحاتٍ مُحكَمةٍ يمكن بمفردها أن تغيّر العالم. في النهاية، لم تكفِ أعمال دانتي الكاملة لإحياء الإمبراطورية الرومانية المقدسة في الدول-المدن الإيطالية، لكن في ذكرى البيان الشيوعيّ لعام 1848، النص الذي مارس بالتأكيد أثرًا ضخمًا على مدى قرنين من التاريخ، أعتقد أنَّ علينا أن نعيد قراءته من جهة قيمته الأدبية، أو على الأقل -إن لم نقرأه في أصله الألمانيّ- لمهارته البلاغية المتفرِّدة وبِنية براهينه.
في 1971 نُشر كتيبٌ لمؤلفٍ فينزويليّ هو ليوديفيكو سيلڤا بعنوان أسلوب ماركس الأدبي (نُشرت الترجمة الإيطالية في 1973). أعتقد أنه لم يعد متاحًا، لكنه يستحق أن يُعاد طبعه. في هذا الكتيب يتتبع سيلڤا ثقافة ماركس الأدبية (قلةٌ من يعلمون أنّه نظم الشعر أيضًا، وإنْ كان شعرًا سيئًا، وفقًا لمن اطلعوا عليه)، ويمضي ليحلل بالتفصيل أعمال ماركس الكاملة. ما يثير الفضول، أنّه خصَّص بضعة أسطرٍ فقط لـ البيان الشيوعي، ربما لأنه لم يكن عملاً شخصيًا خالصًا. هذا مؤسفٌ، كونَه نصٌ مذهلٌ تتعاقب فيه بمهارةٍ نبراتُ الوعيد والسخرية، الشعارات القوية والشروحات الواضحة، وحتى اليوم (إذا ما أراد المجتمع الرأسمالي حقًا الانتقام من الثورات التي أحدثتها هذه الصفحات المعدودة)، تنبغي قرائته كنصٍ مقدسٍ في الوكالات الدعائية.
يبتدأ البيان بقرعات طبولٍ مدوية، كسيمفونية بيتهوفن الخامسة “شبحٌ يتهدد أوروبا” (ودعونا لا ننسى أننا كنّا لا نزال على مقربةٍ من النشأة ما قبل الرومانسية والرومانسية للرواية القوطية، والأشباح ليست مما يُستهان به). سرعان ما تتبعها نظرةٌ تاريخيةٌ بعين طائرٍ للصراع الطبقيّ منذ روما القديمة حتى ولادة البُرجوازية ونموها، والصفحات المكرَّسة للفتوحات التي حققتها تلك الطبقة “الثورية” الجديدة تشكّل أساسًا ملحميًا، لا يزال ساريًا إلى اليوم، لمؤيدي مشروع السوق الحرّ. يرى المرء (وأقصد “يرى” بالمعنى السينمائيّ للكلمة) هذه القوة العاتية التي تحثُّها الحاجة إلى أسواقٍ جديدة لبضائعها، وهي تجتاح العالم بأسره على الأرض كما في السماء (وبالنسبة إليّ، فهنا يتبادر إلى ذهن ماركس اليهوديّ المسيحانيّ افتتاحيةُ سفر التكوين)، وتقلِب وتُحوِّل بلدانًا بعيدةً لأنَّ أسعار المنتجات الزهيدة هي مدفعيتها الثقيلة التي تمكنها من دكِّ كل سورٍ صينيٍّ وبها تُرغم البرابرة الأشدَّ كراهيةً للغرباء على الاستسلام، فتُنشِئ المدنَ وتُطوِّرها كرمزٍ وقاعدةٍ لسلطتها، وتغدو متعددةَ الجنسيات، مُعولَمةً، بل وتبتكر أدبًا لا يعود بعدُ قوميًا وإنما عالميًا.
يبدأ البيان بقرعات طبولٍ مدوية، كسيمفونية بيتهوفن الخامسة “شبحٌ يتهدد أوروبا”
في نهاية هذا الإطراء (المُقنِع والذي يداني الإعجابٍ الصادق)، نجد فجأةً انقلابًا دراميًا: لا يعود الساحر قادراً على التحكم بالقوى السُفلية التي استحضرها، ويبات المنتصر مختنقًا بفرط الإنتاج خاصتهِ ويُجبَر على ولادة حفّار قبرهِ: البروليتاريا.
تدخل هذه القوة الجديدة إلى المشهد: في البداية مفرَّقَةً ومرتبكةً، شكَّلَها وصاغها بطش الآلات، ومن ثَمَّ وظَّفتها البُرجوازية كقواتِ صاعقةٍ لتُجبَر على صراعِ أعداءِ عدوِّها (الملكيات الاستبدادية، المُلاَّك العقاريون، والبُرجوازية الصغيرة)، إلى أن تَمتصّ تدريجيًا الحرفيين، أصحاب الدكاكين، وصغار المُلاَّك الفلاحين الذين كانوا يومًا خصومها لكنهم تحولوا الآن إلى بروليتاريين بواسطة البُرجوازية. يغدو الانقلاب صراعًا بقدر ما ينتظم العمال بفضل قوةٍ أخرى طورتها البُرجوازية لمصلحتها: الاتصالات. يستشهد البيان هنا بمثال السكك الحديدية، لكنّ المؤلفَيْن يفكران بها كوسيلة اتصالٍ جماهيريٍّ جديدة (دعونا لا ننسى أن ماركس وإنجلس في كتابهما العائلة المقدسة كانا قادرين على استخدام تلفاز ذاك العصر -أعني السلاسل الروائية- كنموذجٍ للمخيلة الجمعيّة، وانتقدا أيديولوجيتها باستخدام اللغة والمواقف ذاتها التي جعلتها تلك السلاسل شعبيةً).
عند هذه النقطة يصعد الشيوعيون إلى خشبة المسرح. وقبل أن يشرع البيان في إيضاح ماهيتهم ومرادهم بطريقةٍ برنامجيةٍ، يضع نفسه (بحركةٍ بلاغيةٍ رائعة) موضعَ البُرجوازيِّ الذي يخشاهم، ويطرح عددًا من التساؤلات المذعورة: هل تريدون إلغاء الملكية؟ هل تريدون إشاعة النساء (المشاعية الجنسية)؟ هل تريدون القضاء على الدين، القومية، العائلة؟
هنا تغدو الأمور أشدَّ دهاءً، لأنّ البيان يبدو وكأنّه يجيب على تلك التساؤلات بطريقةٍ مُطَمئنَة، وكأنّه يلاطف خصومه. عندها، بحركةٍ خاطفة، يسدد ضربته إلى الضفيرة العصبية الشمسية في البطن، ظافرًا بهتافات جماهير البروليتاريا.
هل تريدون إلغاء الملكية؟ بالطبع لا، لكنّ علاقات الملكية دائمًا ما كانت خاضعةً للتغيّر: ألم تقضِ الثورة الفرنسية على الملكية الإقطاعية لصالح الملكية البُرجوازية؟ هل نريد إلغاء الملكية الخاصة؟ يا لها من فكرةٍ سخيفة؛ لا سبيل إلى ذلك، لأنها الملكية الخاصة بعُشر السكان، التي تضطهد الأعشارَ التسعةَ الباقية. هل تتهموننا بأننا نريد إلغاء ملكيتـ(كم)؟ حسنٌ، نعم، هذا بالضبط ما نريده.
إشاعة النساء (المشاعية الجنسية)؟ حسبكم، إننا نؤثِرُ أن نرفع عن النساء وضعهم كأدوات إنتاج. هل تروننا نسعى لإشاعة النساء؟ أنتم الذين خلقتم تملُّكَ النساء وإشاعتهنّ، فعلاوةً على استغلالكم لزوجاتكم فإنكم تستغلون زوجات العمال، ولعبتكم المُفضلة هي ممارسة فن إغواء زوجات أقرانكم.
القضاء على الأمّة والوطن؟ ولكن كيف تأخذ من العمال ما لم يمتلكوه قطّ؟ على العكس، إننا نسعى لأن نجعل من أنفسنا أمةً وأن ننتصر.
هكذا، وصولاً إلى أنموذج الاحتراز في الرد على السؤال عن الدين، بإمكاننا أن نحدس الإجابة “نريد أن نقضي على هذا الدين”، لكنّ النص لا يقول ذلك: فبمجرد أن يتطرق لموضوعٍ شائكٍ كهذا، يمر عليه مُنسابًا، ولنقل أن التغيير بكافة صورهِ مُكلَّفٌ، لكن رجاءً، دعونا لا نُسرع إلى تناول هكذا مسائل شائكة.
يأتي من ثمّ الجزء الأكثر مذهبيةً، برنامج الحركة، نقدُ مختلف أشكال الاشتراكية، لكن عند هذه المرحلة يكون القارئ قد وقع في غواية الصفحات السابقة. وتحسُّبًا لما كان عليه الجزء البرنامجيُّ من تعقيد بالغ محتمل، نجد هنا في الختام صدمةً مفاجِئة، شعارين أخَّاذين، بسيطين، يتعذّر نسيانهما ومُصممَّينِ (كما يبدو لي) لينالا مستقبلاً استثنائيًا. “ليس لدى العمال ما يفقدونه سوى أغلالهم” و”يا عمال العالم، اتحدوا!”
حتى لو تغاضينا عن شعرية البيان الأصيلة القادرة على ابتكار مجازاتٍ آسرة، يبقى قطعةً من الخَطابة السياسية (وغير السياسية) الرفيعة، تنبغي دراسته في المدارس بجانب هجائيات شيشرون لكاتِلين وخطبة مارك أنطونيو على جثمان يوليوس قيصر عند شِكسبير، خصوصاً أنه ليس مُستبعَدًا، نظرًا إلى إلمام ماركس بالثقافة الكلاسيكية، أن تكون هذه النصوص على وجه التحديد قد جالت في ذهنه أثناء كتابته البيان.
*أمبرتو إيكو (1932 – 2016): فيلسوف وروائي وناقد أدبي إيطالي، باحث في القرون الوسطى. ترأس قسم الدراسات العليا في قسم “الإنسانيات” في جامعة بولونيا الإيطاليا، وكان زميلًا شرفيًا في جامعة أكسفورد.