هدى الخباني
كاتبة
(Houda El Khoubani)
الحوار المتمدن-العدد: 6595 - 2020 / 6 / 17 - 20:27
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تثير الاحتجاجات والانتفاضات في البلدان العربية تساؤلات مهمة حول الأسباب الكامنة وراء عدم تجاوب الأنظمة السياسية الحاكمة مع هذه الاحتجاجات والتي تعبر عن مطالب مشروعة تهدف إلى تحقيق مشاركة شعبية حقيقية عبر آليات الديمقراطية وتعزيز العدالة الاجتماعية والقضاء على الفساد.. ولا شك في أن الأنظمة العربية فوجئت منذ بداية هذا عام 2011 بزخم هذه الانتفاضات المثيرة.. لقد اعتادت الأنظمة السياسية على السكون والاستكانة وعدم حدوث انتفاضات واسعة, وإذا حدث تذمر فإنه عادة يكون محدودا ومقدورا على التعامل معه من قبل الأجهزة الأمنية التقليدية, لكن أن تحدث هذه الانتفاضات وبهذا الحجم الكبير وخروج مئات الآلاف من المواطنين إلى الشوارع والاعتصام في الساحات والاستمرار لأيام وأسابيع وأشهر فإن ثمة خللا قد حدث ولا بد من اكتشافه.. يعني ذلك أن الدهشة قد أصابت الحكام والذين تيقنوا, ولزمن طويل, أن إمكانية التحرك الشعبي غير واردة وأن أي احتجاج لا بد أن يكون محدود الأثر وقصير الأجل.. ولذلك فإن هذه الأنظمة السياسية العربية تعاملت مع الاحتجاجات بعنف, وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة وحسب طبيعة الأوضاع السياسية والاجتماعية الحاكمة ومدى استعداد قوى العسكر والأمن للأوامر وقمع المواطنين.
وقد آليت على نفسي أن أبحث في مسألة الطغيان بشكل موضوعي ولذلك فقد عدت إلى كتاب قيم "" الطاغية "" دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي " والذي ألفه الأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح إمام, وصدر في مارس عام 1994 .. الدكتور إمام عبد الفتاح إمام, رئيس قسم الفلسفة الأسبق بجامعة الكويت.. ويمثل الكتاب دراسة جادة في مسيرة الطغيان منذ بداية الحياة البشرية مرورا بالحضارات العديدة في الشرق والغرب والتي تأثرت بالفلسفات الإنسانية والديانات القديمة والسماوية.. وعندما يتمعن المرء بما ورد في الكتاب فإنه لا بد أن يجد سمات مشتركة للطغاة على مدى الحقب الزمنية المتلاحقة, وقد تختلف الأشكال والأسباب أو المبررات الايديولوجية أو الدينية التي يطرحها الطغاة وفلاسفتهم لنهج الطغيان, إلا أن السمات تكاد تكون واحدة, وأما نتائج الطغيان فهي متطابقة.. وقد ركز إمام في دراسته على قضايا محددة عبرت عنها العناوين الرئيسية للدراسة في الكتاب وهي: فلسفة السلطة, صورتان للطاغية في الفلسفة اليونانية, الطاغية الذي يرتدي عباءة الدين, فرار من الطاغية.. ويذكر المؤلف في الفصل الأول المتعلق بفلسفة السلطة " أن الحياة الإنسانية لا بد لها من قدر من التنظيم إن أردنا لها أن تحقق شيئاً ذا قيمة.. " وقد أكد الكثير من الحكام في العهود الزمنية القديمة, وحتى في الحديثة منها, على أن البشر يجب أن يداروا من قبل أنظمة سياسية قادرة على الوصاية والتحكم وعدم السماح لهم بالتعدي على السلطات الحاكمة.
إن من أهم مظاهر الطغيان التي برزت على مدى عصور زمنية طويلة, الحكم الثيوقراطي "Theocracy ", وهو ما أطلق عليه الدكتور إمام " الحكم المطلق المتعسف الذي يأخذ برقاب الناس باسم الإرادة الإلهية! "
ويؤكد المؤلف أن الديانات السماوية الكبرى لا تبرر لمثل هذه الحكومات المطلقة, لكن الحكام يفسرون النصوص الدينية بما يعزز طغيانهم وتسلطهم على الشعوب التي يتحكمون فيها, في الديانات القديمة, والتي سبقت الديانات السماوية, اعتبر الحاكم ذا طبيعة إلهية ولذلك فقد قدس وعبد من البشر, ويذكر أن حضارات مصر, وفارس, والهند, والصين, قامت على أساس هذه النظرية, " ولذلك لم يعد للحاكم من طبيعة إلهية إلا أنه يستمد سلطته من الله ", أو ما أطلق عليه في الديانات المسيحية " نظرية الحق الإلهي المباشر " وهو بذلك يحكم بمقتضى الحق الإلهي المباشر من دون حاجة لمباركة من البشر.. وكما هو معلوم أن الفكر المسيحي قد مر بانقلابات فكرية مهمة على مر التاريخ, خصوصًا في أوروبا, وبعد الصراع الذي دار بين الكنيسة والملوك في بلدان أوروبية مثل إسبانيا وفرنسا وإنجلترا فإن الفكر الكنسي تحول بشكل مهم وجرى التأكيد على أن " الله لا يختار الحاكم بطريقة مباشرة, وأن السلطة وإن كان مصدرها الله, فإن اختيار الشخص الذي يمارسها يكون للشعب ", وربما أدى هذا التحول في الفكر الديني في الكنيسة المسيحية إلى التوقف عن تأليه الحاكم, كما كان يتبع في الماضي.
إن مما لا شك فيه أن مفاهيم الطغيان قد جرت دراستها من عدد من الفلاسفة القدماء والمعاصرين ومنهم أرسطو وسقراط وأفلاطون في عهود الحضارة اليونانية, كما أن كاتبا مثل جورج أورويل George Orwell كتب رواية ممتعة هي مزرعة الحيوان أو حديقة الحيوان "Animal Farm " وصنف فيها مظاهر الطغيان المعاصر والتي تجسدت في الأنظمة الفاشية والأنظمة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي وبلدان أوربا الشرقية .. وقد تأثر أوريل بتجربة حكم ستالين في الاتحاد السوفييتي ومشاهداته لممارسة النظام هناك بشكل تفصيلي.. وقد بحث في دور الحزب الشيوعي في عمليات اعتقال الخصوم السياسيين والمعاصرين والرقابة على الإعلام وزيادة أعداد العاملين في الأجهزة الأمنية والتحكم في سلوكيات الناس وأنظمة التعليم والثقافة.. وغني عن البيان أن هذا الشكل من الحكم قد تكرس في العديد من البلدان, في أوربا الشرقية وكوبا وكوريا الشمالية والصين, كما أن البلدان النامية, ومنها بلدان عربية قد أخذت في اتباع النهج السلطوي نفسه, وإن لم تأخذ بالأيديولوجيا الاشتراكية في معظم الأحوال.. وإذا كانت البلدان الاشتراكية السابقة قد اعتمدت نظرية الحزب القائد, أو ديكتاتورية البروليتاريا, بموجب النظرية الماركسية اللينينية, فإن أنظمة عربية وغيرها قد أخذت بنظام الحزب القائد, ومن ثم تحولت إلى نظام الرئيس القائد, والذي كاد أن يكون مقدسا كما كان يحدث في الحضارات الفرعونية والبابلية, لا فرق إن اختلفت أنظمة القهر والقمع.
وإذا عدنا إلى الواقع السياسي العربي فإننا لا بد أن نؤكد أن أنظمة القهر والقمع بدأت مع الانقلابات العسكرية بشكل واضح, وإن كانت الأنظمة التقليدية التي سبقتها قد مارست أنواعا من القهر ولكن ليس بالدرجة نفسها.
وقد أدت هذه الانقلابات إلى تبني أنظمة بوليسية كاسحة واستفادت من أساليب الأمن السياسي الذي اعتمد في ألمانيا النازية, وفي بلدان المعسكر الاشتراكي, خصوصاً أساليب البوليس السياسي في ألمانيا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية "ستاتي" , وقد اعتمدت العديد من الأنظمة العربية على خبرات هذا النظام الألماني الشرقي في تعزيز قبضتها على الحكم وقهر خصومها السياسيين.
وقد عمدت هذه الأنظمة إلى تسخير كل الوسائل الاقتصادية والإعلامية والتعليمية والدينية في بسط سطوتها وطغيانها.. كما عملت على إلغاء التعددية الحزبية التي كانت قائمة في ظل الأنظمة التقليدية سواء في مصر أو سورية أو العراق أو ليبيا, مما دفع العديد من الأحزاب إلى العمل السري واتباع أساليب انقلابية للوثوب على السلطة, وهكذا لم تعد إمكانية لتداول السلطة أو الانتقال السلمي من تيار سياسي إلى آخر, بناء على برامج اقتصادية واجتماعية تطرح على الشعوب.. وقد رافق هذا الاستبداد السياسي تزايد النفوذ الاقتصادي والمالي للمقربين من السلطة وأقارب الرئيس والأبناء وتمكنهم من تجميع ثروات هائلة بجميع الأساليب خصوصًا غير المشروعة, والهيمنة على المصالح الاقتصادية وإلغاء المنافسة.. وحتى بعد تطوير الأنظمة إلى ديمقراطيات شكلية أو مزيفة واعتماد تعددية مقزمة فإن الطغيان والفساد استمرا من دون أي عقاب, أو مواجهة من المعارضات القائمة في أي من هذه البلدان.
وقد يكون هؤلاء الحكام قد اقتنعوا بنظرية أرسطو, التي تقول " إن الشرقيين ولدوا عبيدا, فهم بطبيعتهم يتحملون الطغيان من دون شكوى أو تذمر.. " لكن هل ذلك صحيح وهل أهل الشرق يقبلون بالاستبداد بموجب النظريات القديمة, ومنها ما أشار إليه أرسطو ؟
لقد أكدت الديانات على حرية الفرد وحتى في الثراث الإسلامي فإن مقولة عمر بن الخطاب " كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟" تظل من أهم المفاهيم في القيم الإسلامية.. لكن التطورات المعاصرة جاءت متناقضة مع هذه القيم الراقية في فهم حقوق الإنسان, حيث عمد رجال الدين في مختلف البلدان العربية الإسلامية إلى دعم الاستبداد والتبرير للحكام ورفض الثورة عليهم مهما بلغ طغيانهم من وحشية.. وغني عن البيان أن ما جرى في إيران من اعتماد نظام ولاية الفقيه بعد ثورة الخميني على الشاه عام 1979 قد عزز السلطة الدينية وبرر للطغيان السياسي لرجال الدين بشكل مباشر..لكن هذه الأنظمة المستبدة, خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الأنظمة الديكتاتورية في أوربا الشرقية لم تفهم المتغيرات المعاصرة وإمكانية التأثير على جميع الشعوب, حتى تلك التي لا تزال تعاني التسلط وغياب الحرية وانعدام احترام حقوق الإنسان في بلدانها..كما جاءت التطورات التقنية في مجال الإعلام والتواصل لتقرب بين الأمم وتعزز النزعات الثقافية الداعمة للحريات.
إن ما يجري من تظاهر وانتفاضات ضد التسلط والاستبداد لم يعد مقدورا على كبحه وتوقيفه, كما أن الأنظمة المستبدة لم تعد قادرة على استيعاب مطالب المحتجين بعد أن استخدمت العنف والحلول الأمنية وقتل العزل من هؤلاء المحتجين.. يضاف إلى ذلك أن الطغاة غالبا ما يقدمون على تقديم تنازلات متواضعة ومتأخرة تهدف إلى إضعاف المعارضين أو شق صفوفهم ووقف انتفاضاتهم, إلا أن الزمن قد تغير وأصبحت تلك التنازلات كما أشرنا متواضعة ومتأخرة "Too little too late " ولن تجدي في وقف الهدير.. لا بد أن يكون بداية النهاية للطغيان في العالم العربي, وربما تتغير جميع الأنظمة العربية, وربما يستطيع عدد منها أن يستوعب المطالب, وقد يؤدي ذلك إلى انتقال سلس للسلطة أو استمرار النطام من دون إسقاط ولكن بتغيير أساليب الحكم.. الأمر يعتمد بينها العديد من العناصر وبينها مدى ذكاء الحكام في التوافق مع مطالب شعوبهم المقهورة ولكن لا يمكن الاستمرار في ظل طغيان أصبح غير مقبول وطنيا وأمميا... وينبغي على المجتمع الدولي وإن تفاوتت مواقفه تجاه الانتفاضات في البلدان العربية والنامية, أن يحدد آليات مع الطغاة ويحدد كيفية تحرير الشعوب منهم ودفع البلدان باتجاه الديمقراطية وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان.. ويمكن الزعم بأن التحولات المنشودة قد تستغرق وقتا مبهما, إلا أن النظام الدولي لكي يثبث جدارته ويعزز السلام العالمي يتعين عليه أن يطور من أساليب التعامل مع الطغيان والقهر واتباع آليات جادة للقضاء على الاستبداد في كل مكان.
#هدى_الخباني (هاشتاغ)
Houda_El_Khoubani#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟