قسم الفلسفة-جامعة النيلين
هذا المقال محاولة للتفكير نقدياً فى رؤية د.فرانسيس دينق لنزاع الهويات فى السودان. وسنعود دائما وبشكل رئيسى إلى كتابه "صراع الرؤى – نزاع الهويات فى السودان" الذى ترجمه د. عوض حسن ونشره مركز الدراسات السودانية فى طبعة أولى بالقاهرة عام 1999 ولذلك لن نشير إليه فى الهامش وإنما سنكتفى بالإشارة إلى رقم الصفحات فى متن المقال.
ولأن الموضوع شائك ومعقد وينتمى فى حياة الناس لوجدانهم وعواطفهم وكرامتهم ومن ثم لتصوراتهم عن انفسهم وعن الآخرين فى بلادهم وخارجها وعن بلادهم ذاتها، ولأن الصراع الاجتماعى تبدى تاريخياً كصراع بين الهويات فأصبحت مصائر البلاد معلقة بنتائجه، ولأن تاريخ بلادنا فى ارتباطه بهذا الصراع هو تاريخ من العسف والمظالم ومخاضات الدم والقهر وانتهاكات الكرامة ، فلابد من معالجة الموضوع بحساسية رفيعة تقف الى جانب الضحايا وتفضح الاستعلاء والهيمنة دون أن تقع فى الإستعلاء والهيمنة المضادة. لقد أثمر هذا الصراع نتائج مرّة: مركزية عربية اسلامية ومركزية أفريقية مضادة . ويزعم هذا المقال أن رؤ ية د. فرانسيس تنتمى للثانية. وفى محاولتى للتفكير نقدياً فى هذه الرؤية سأعمل على تفكيك وتجاوز المقدمات النظرية والفكرية والسياسية للمركزيتين المتضادتين، اللتين تبدوان قائمتين على ذات المقدمات على الرغم من تضادهما ( او بسببه فى الحقيقة ). ولأن التضاد بين هاتين المركزيتين هو تضاد تماثل فإنهما تنزعان إلى التماهى فى رؤية واحدة ذات وجهين، يسعى كل وجه إلى تأكيد الآخر، بل إن وجود أحدهما يقتضى ويلزم عنه وجود الآخر. والتفكير النقدى فى هذه الرؤية يسعى إلى تجاوز مقدماتها بالتضاد معها بالاختلاف لا بالتماثل، مما يفتح أفق البلاد على وحدتها الوطنية وتكاملها القومى بالانتصاف للمظالم، وفى ذات الوقت تأسيس حق كل فرد فى النمو فى سياق القيم الرمزية التى نشأ وتربى عليها وتطويرها أو التخلى عنها إذا شاء .
ومنعاً للإلتباس فى الموقف السياسى والفكرى والنظرى الذى أعبر عنه فى موضوع الهوية (وهو موضوع إستراتيجيته الأساسية هى اللبس)، فلابد من الإبانة والوضوح حول هذا الموقف بتقرير إطاره وهيكله الأساسى. يقوم هذا الموقف على إجماع النظريات السياسية المعاصرة فى السنوات الأخيرة على أن"الامم مجتمعا ت متخيلة" العبارة الشهيرة التى دائما مايتم اقتباسها من بنديكت أندرسون Benedict Anderson أو هى "مصنوعات ثقافية" تشكل إدعاءاتها بالأشكال الجوهرية للهوية الجماعية، كتجانس عرقى او إثنى ، وكلغة وتاريخ ومصير مشترك، أو حتى كمعنى عام للخير، تشكل بناءات مصطنعة للناس الذين يحتاجونها للتأقلم والتوافق مع الشروط الثقافية والسياسية المتغيرة ويحتاجونها لتوليد افضل الأشكال وأقواها من التضامن الإجتماعى.(1) وليس المقصود هنا انكار الهويات التى يستشعرها الناس كأمر جوهرى ، وليس المقصود انكار ما قد يترتب عليها من مظالم وقهر وانما المقصود ان نقتنع بالأصل المصطنع لهذه الهويات والأصل المصطنع للاعتقاد بالانتماء الى إثنية مشتركة، دون أن يقلل ذلك من قناعتنا بفاعلية الاعتقاد بالهوية الذى يقوم على ترابط منطقى يمكن ان يتحول إلى علاقات شخصية أو وعى جماعى. هذه الهويات ليست عوامل مفسرة وانما تحتاج للتفسير. وهذا أول خلافنا مع رؤية د. فرانسيس والرؤية العربية الاسلامية المضادة فالنزاع الراهن فى السودان لايفسره النزاع بين الهويات، بل إن تبدّى الصراع كنزاع بين هويات هو الذى يحتاج الى تفسير ولايصلح مطلقا ان يكون عاملاً مفسراً. إن مجرد وجود هويات متنوعة لايصلح مطلقاً أن يكون أساساً للنزاع بينها. وهذا يعنى أن نفهم الظروف التى تدفع جماعة من الناس إلى إدراك الهوية كنواة مغلقة وصلدة ومن ثم تدفعهم للانسياق وراء الذين يستغلون هذا الوهم لصالحهم.(2) إن صراع الهويات ليس صراعاً ميتافيزيقياً بين هويات مغلقة خارج التاريخ ذات طبائع وخصائص جوهرية وانما هو صراع تاريخى، بمعنى أنه صراع اجتماعى وسياسى، أى صراع حول السلطة والثروة ولظروف بعينها أصبح هذا الصراع يدار على أسس من استراتيجيات الهوية. وهذا مايجب فضحه.
وبناءً على ذلك فإن الموقف الذى أعبر عنه يطرح معالجة ذات شقين لأزمة الهوية فى البلاد. الشق الأول على الرغم من أنه يقوم على المقدمات السابقة إلاّ أن التجربة التاريخية تؤدى إليه أيضاً. فصراع الهويات قد قاد البلاد إلى طريق مسدود ينذر بتفتيت البلاد وفقدانها ومن ثم يجب أن نستبدل الأسس التى يدار عليها الصراع الاجتماعى والسياسى من أسس استراتيجيات الهوية إلى أسس قانونية ودستورية يخضع الأفراد وفقاً لها لعملية تكامل سياسية مع الدولة الدستورية الديمقراطية بمقتضى موافقتهم على مبادىء الدستور من منظور تفسير يتحدد بالفهم السياسى والأخلاقى للمواطنيين والثقافة السياسية للبلاد بحيث لايتم اجبار أى فرد على عملية تكامل ثقافية تتطلب تجريده من ثقافته وتعويده على طريقة حياة وممارسات وعادات ثقافة اخرى(3) وكما هو واضح فإننا نستبدل عملية التكامل الثقافية، التى تسعى الى فرض ثقافة مركزية واحدة على البلاد والتى خاضت فيها البلاد منذ الاستقلال وبلغت اقصى تطرفها مع نظام الجبهة الاسلامية ، بعملية تكامل سياسية تفرض نظاماً ووحدة تقوم على أسس دستورية وقانونية تعبر عن منظور سياسى وأخلاقى للمواطنيين وثقافتهم السياسية. أما الشق الثانى من المعالجة فيبدأ من الأصل المصطنع للهوية الذى يجعل فى مقدورنا ان نستبدل استراتيجيات الهويات فى البلاد بأخرى جديدة. استراتيجيات جديدات للهويات تدعم عملية التكامل السياسية وتبتعد عن الصراع السياسى والاجتماعى. هذه الاستراتيجيات الجديدة تفتح الهويات على رموز وقيم رمزية من تاريخها فتستعيد المركزية العربية الاسلامية مكونها الافريقى وتنفتح المركزية الافريقية على فكرة التعددية الثقافية ( التى تشكل الأساس الحقيقى للهوية اليوم ) فيتجاوزا معا مركزيتهما العرقية والاثنية الى استراتيجية جديدة للهوية السودانوية وهى استراتيجية - بالضرورة - لاتؤدى الى السيطرة والعداوة بل تؤدى الى المشاركة والى التواريخ المشتركة والمتقاطعة والى تجاوز التصورات المغلقة عن الهويات. هذا التصور يتجاوز الآفروعربية التى فضحها من قبل د. عبد الله على ابراهيم(4) كمحاولة لمثقفين شماليين للتخفيف من غلواء وتزمت ثقافتهم العربية الاسلامية بإدخال مكون متخيل أفريقى عليها وفشل المشروع لأنه مجرد تنويع على المركزيةالعربية انتهى برفض المركزيتيين لها كما ذهب إلى ذلك د. عبد الله.
كان لابد من الإطالة فى إبانة إطار الموقف الذى أعبر عنه منعاً للإلتباس فى أمرٍ طابعه أصلاً ملتبس لكى يُقدم القارىء على متابعة محاولتى للتفكير النقدى فى نزاع الهويات عند د. فرانسيس وهو على إدراك واضح بموقفى من القضية. فأنا أعتبر نفسى على ذات السرج الذى يركبه د.فرانسيس ،معاً، نريد سوداناً جديداً ولكن مع فارق أساسى وهو أننى لا أريده مقلوباً عن السودان القديم وإنما سودان جديد حقاً تقوم تصورات مثقفيه ومواطنيه على منجزات معارف الحضارة الانسانية المعاصرة وقمم فكرها الديمقراطى ، سودان يستكمل حداثته ويحل على أساسها جميع أزماته. هذا الاطارستتضح تفاصيله فى ثنايا محاولتنا النقدية وأطروحاتها البديلة .
وأول ماسنحاول أن نستخلصه هى واحدة من مقدماتنا التى استبقنا فيها النقد الى نتيجته وهى أن رؤية د.فرانسيس هى الوجه الآخر من عملة وجهها الأول هو المركزية العربية الأسلامية وهو مايملى علينا، أولاً، أن نتبين التفكير النقدى الذى أدى بنا الى النتيجة التى تقول بأن رؤية د.فرانسيس انما تعبر عن مركزية أفريقية، رغم أن فرانسيس يرى أن المواجهة الحاسمة سوف تكون بين الاسلاميين والعلمانيين بقيادة الجنوب مع مشاركة عناصرمن الشمال (ص36) إلاّ أن الاسلاميين عند فرانسيس إنما هم يعبرون عن النموذج الأكثر حداثة للهوية فى الشمال تماماً كما تعبر الحركة الشعبية لتحرير السودان عن النموذج الاكثر حداثة للهوية فى الجنوب. وهذان النموذجان تبلوران عبر فترات طويلة من تاريخ يحمل افتراضات عميقة الجذور.(ص70)
نشأت الهويتان المتنافستان فى الشمال والجنوب عبر مراحل متوازية - كما يرى د. فرانسيس - وكان لكل من الهويتين مرحلة تقليدية هيمنت عليها الهياكل والقيم القبلية ، فالشمال يتبع النهج الاسلامى والجنوب يتبع التقاليد المحلية الافريقية . وفى الحالتين تسيطر على المجتمع علاقات الاسرة والمصاهرة والنسب والتى على أساسها تحدد مقامات المواطنيين اعتمادا على النسب والسن والجنس (ذكر أم أنثى). فالزعماء ينحدرون غالبا من أسر تحظى بالهيمنة السياسية والدينية والنساء يخضعن للرجال وعلى الاطفال البر بالوالدين. ومن ثم تطور ذلك - كما يرى د. فرانسيس - عبر مرحلة انتقالية سادت خلالها الطائفية فى الشمال ، وتوسعت آفاق التعليم الغربى التبشيرى ذى التوجه المسيحى وسط المتعلمين فى الجنوب (ص24-28) الى ان انتهت الهويتان الى النموذج الاكثر حداثة فى الجبهة الاسلامية والحركة الشعبية . واذا قرأنا هذا التطور الممرحل مع تعريف د. فرانسيس لمصطلح الهوية الذى يرى فيه أن الهوية تعبّر عن الطريقة التى يصف أو يعرّف بها الأفراد أو المجموعات ذواتهم أو تعريف الآخرين لهم استناداً على العرق، الاثنية ، الدين ، اللغة أو الثقافة. إلاّ أن د.فرانسيس يركز على العرق والاثنية ويرى أنهما أساس الهوية على الرغم من احتواء تعريفه على النظرة الذاتية والثقافة. ويرى أن هذه النظرة الذاتية والثقافية لايمكن ان تكون أساسا للهوية وأنها لابد أن تكون منسجمة مع الحقائق الموضوعية التى هى دوماً عرقية وإثنية ، لكى تكون صحية ومعافاة أما إذا كانت الهوية غيرمتسقة مع الحقائق الموضوعية أى العرقية والإثنية فهى إنما تعكس حالة مرضية ونظرة ذاتية مشوهة ومهزوزة. ولذلك يهاجم فرانسيس الأكاديميين الذين تبنوا الذاتية والثقافة كعامليين حاسميين فى تحديد الهوية ويرى أنهم قد عرّضوا ماهو واضح المعالم إلى الضبابية والتشويش(ص357-400). هذا الفهم للهوية القائم على العرق والاثنية يجعلنا نفهم التطور الممرحل للهويتين المتنافستين فى الشمال والجنوب كتجلى لهوية ثابتة مغلقة تتخذ فى كل مرحلة تطور شكلاً معبرا عنها بالذات فى علاقتها مع الهوية الأخرى المنافسة لها، ومع ذلك تظل هى هى ذات الجوهر الميتافيزيقى الذى لايتغيّر مطلقاً ولا نحتاج إلى كثير عناء لنتذكر أيضاً أن الأاصولية الاسلامية ترى الهوية العربية الاسلامية كجوهر ميتافيزيقى مغلق لايتغير مطلقاً. وكلا المركزيتين تقصى إحداهما الأخرى، فالمركزية الأفريقيةالتى يعبر عنها د. فرانسيس ترى أن الهوية العربية الاسلامية فى الشمال حالة مرضية يجب التعافى منها بالعودة الى الحقائق الموضوعية وبدراسة الجينات كدليل حاسم يجبر الشماليون الى العودة لحقائق العرق والاثنية وبذلك يعيدون بناء هويتهم بحيث يتم اقصاء مكونها العربى نهائياً وتسود البلاد فقط هويتها الأفريقية. بينما المركزية العربيةالاسلامية ترى فى الهويات الأخرى محض خلاء قيمى ومعرفى يجب أن تسارع الى ملئه بالهداية والرشاد، وأن رسالتها المقدسة فى حمل العالمين جميعا إليها، وتقسم العالم إلى دارين فقط "دار للاسلام " و" دار للحرب " فكل ما ليس هى فهو عدوها.
ولأنهما وجهان لعملة واحدة فإن وجود إحداهما يستدعى وجود الأخرى وهو ماقاله د. فرانسيس حرفياً "ونرى أنه من الصعب رؤية كيفية بروز الشمال كوحدة واحدة دون أن يكون وجود الجنوب عامل تحدٍ متحد ، هذا إن لم يكن عاملاً بينا للتهديد. وينطبق نفس الشىء على الجنوب لانه لولا وجود الشمال لما نمت وحدة الهدف" (ص215) وإذا قرأنا هذا المقتطف مع مقتطف آخر "فالجنوب يمثل الهوية الافريقية والشمال يرى بأنه يمثل الهوية العربية الاسلامية"(ص30) تكتمل لدينا صورة النقيضين اللذين يعبران عن ذات المقدمات النظرية والفكرية والسياسية. ولذلك فهما نقيضان زائفان. النقيض الحقيقى هو النقيض المختلف لا النقيض المتماثل، وهو الذى يتجاوز الهوية ولا يلغيها. وإذا كان د. فرانسيس يشير أحياناً إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان بإعتبارها ممثل الجنوب الذى يقود مشروعاً وطنياً وعلمانياً وديمقراطياً فإن وطنية هذا المشروع تتجسد فى أفريقيته كما رأينا ، أما علمانيته فتعبر عنها المسيحية والتعليم الغربى اللذان استوعبتهما هويته الافريقية، أما ديمقراطيته فتعانى من مشاكل حقيقية فى الحركة بإعتراف د. فرانسيس نفسه. وهذا يعنى أن مشروع الحركة الشعبية يعبر جوهرياً عن مركزية أفريقية بالنسبة إلى قراءتنا النقدية لرؤية د. فرانسيس .
ويمكن هدم هاتين المركزيتين بهدم النواة المغلقة المتضمنة فى كل منهما سواء أكانت هذه النواة المغلقة عرقية أوإثنية أو كانت ثقافية. فهنالك اتفاق عام بأنه لا يوجد فى العالم عرقاً نقيّاً. ود.فرانسيس نفسه يورد فى كتابه المنشور فى عام 1973م والذى ترجمه الاستاذ محمد على جادين فى عام 1999م بعنوان " مشكلة الهوية فى السودان"أن هنالك صعوبة فى تحديد انتماء وهوية الشمال أو الجنوب على أساس عرقى(5). فإذا كان أمر اختلاط الشمال معروفاً فإن د. فرانسيس يورد فى الهامش إشارات إلى تمازج القبائل النيلية بعناصر حامية قوقازية ويورد ملاحظة بروفسيرايفانز برتشارد وشكه فى أن هنالك قبيلة أو مجموعة فى السودان يمكن أن تدعى أنها زنجية. لأن شخصيتها غير الزنجية وحياتها الرعوية ولدرجةٍ ما تركيب لغاتها ترجع إلى مزيج وتأثير حامى(6). إن تحليل د.فرانسيس فى كتابه صراع الرؤى يفترض أن الإثنية حقيقة موضوعية ، بينما هى مجرد واقع يخص الوعى، وهو يريد أن يكون الإنتماء الى الإثنية موروثاً ويرجع إلى أصول قديمة بينما هو يتغير مع الزمان والمكان. وهنالك وفرة من المؤلفات الانثربولوجية او التاريخية تثبت أن المجتمعات السابقة على الاستعمار كانت كلها تقريباً متعددة الاثنيات وتضم تشكيلة كبيرة من المجموعات الثقافية، وأن أشكال التعبئة الاجتماعية أو الدينية كانت تشمل إثنيات متعددة، وأن أفريقيا الغابرة لم تكن بالتاكيد شبكة من الاثنيات.(7) هذا اذا كانت هذه النواة عرقية أو إثنية أما إذا كانت هذه النواة المغلقة ثقافية كما تدعى أحياناً المركزية العربية الاسلامية وتصر على اعتبار ثقافتها ككيان ثابت ومغلق على نفسه بتمثيلاته وعقائده ورموزه . فإن هذا شطط واضح فأى ثقافة يجرى خلقها فى التأثير والتفاعل المتبادل وتستمر فى التغير والتبدل والتطور وفقاً لهذه العملية. والأمثلة أكثر من أن تحصى فالتاريخ الانسانى كله شاهد على هذه العملية . فقد تأثرت عقائد الثقافة العربية الاسلامية بمؤثرات الفلسفة اليونانية حتى فى أصول فقهها الذى تأثر بالمنطق الأرسطوطالى. إن الحياة الانسانية لاتعرف الهويات التى تنطوى على أنوية مغلقة فما من هوية إلاّ وقامت على تعددية ثقافية، فكل الثقافات هجينة كمايرى ادوارد سعيد ومفكرون نقديون آخرون . فمبدأ الهوية، عند هؤلاء، مبدأ سكونى يشكل لباب الفكر الثقافى خلال العهود الاستعمارية، فالأوربيون هم الذين شكلوا شيئاً جوهرياً هو ال"نحن" مقابل ال "هم" وكل واحد منهما مستقر تماماً. هذا الانقسام يمكن أن نعود به إلى التفكير اليونانى عن البرابرة ولكنه أصبح علامة مميزة للثقافة الامبريالية ولتلك الثقافات التى كانت تسعى إلى مقاومتها. ويخلص ادوارد سعيد إلى أن جميع الثقافات منشبكة إحداها بالأخريات وليست بينها ثقافة منفردة ونقية محضة، بل كلها مهجنة، مولدة، متخالطة،متمايزة الى درجة فائقة ، وغير واحدية(8).
لقد لعب الاستعمار الدور الاساسى فى تصليب الهويات والثقافات. ففى افريقيا الموغلة فى القدم كانت التقاليد عبارة عن عمليات تطورية مستمرة متواصلة ومفتوحة، وجاء الاستعمار وجمدها- بحجة المحافظةعليها– فى تقاليد وفلكلور بتأثيره الأيديولوجى ونصوصه القانونية وبمحاولته لتثبيت أماكن الأهالى أو توجيه هجراتهم. هذه هى خبرتنا مع التجربة الاستعمارية فى بلادنا، ولذلك نزعم أن الهويتين المتنافستين هما نتاج السياسات الاستعمارية شأنهما فى ذلك شأن سائر الهويات التى ارتبطت بالثقافةالامبريالية وبمقاومتها أيضاً كما قلنا من قبل. وهنالك حيثيات أخرى تدعم هذا الاستنتاج من واقع خبرتنا ايضاً بالتجربة الاستعمارية فالطائفتان الاساسيتان اللتان تعبران عن هوية شمال السودان، فى المرحلة الثانية من تطورها كما يرى د.فرانسيس دينق، وهما طائفتى الانصار والختمية، هما نتاج السياسات الاستعمارية التى اكدت شرعية امتلاك الارض وحولتها الى وثائق قانونية، وأقامت مؤسسات سياسية جديدة، ووزعت المصادر الاقتصادية، وحددت الاوضاع الاجتماعية ،وأنشأت قيماً اخلاقية واقتصادية وسياسية جديدة أكسبت الدولة الكولونيالية صفة الدولة الحقيقية. وسياساتها فى الجنوب هى التى أدت إلى تكوين هويته بتجميده فى تقاليد وفلكلور وبتأثيرها الايديولوجى ونصوصها القانونية التى سيطرت على حركة السكان، كما رأينا قبل قليل. ونستطيع أن نستخلص من ذلك أن ظاهرة الانتماء لهوية إثنية ظاهرة حديثة تماماً، مرتبطة بالدولة "المستوردة" وليست راسباً أو إنبعاثاً جديداً للثقافة التقليدية.(9)
إن التصور الذى يرفض مبدأ الهوية السكونى ويرى الثقافات كهجنة وتعددية، يهدم أيضا إحدى أهم الأفكار التى تقوم عليها رؤية د.فرانسيس وهى الفكرة التى ترى أن الطابع الجوهرى للهوية فى الشمال هو الإستيعاب، بينما الطابع الجوهرى للهوية فى الجنوب هو المقاومة. إن هذه الفكرة تبدو فى ظاهرها وكأنها مجرد تعبير عن وقائع تاريخية، بينما الإقتراب النقدى منها يفضحها لأنها تقوم على تصور مغلق للهوية لا ينفتح على التعدد فيصير بذلك الإستيعاب خللا وظاهرة غير سوية كان لابد أن تنتهى إلى حالة باثولوجية (مرضية) يعانى فيها الشمالى من التشوش والاهتزاز فى نظرته إلى ذاته. بينما يعبر فيها الجنوبى عن وضع صحى ومعافى. فمن الطبيعى أن ترفض الهوية المغلقة الانفتاح على الآخر بمقاومته ورفضه وهو ما نجح فيه الجنوب فصار الأقرب إلى واقع الحال وإلى الحقائق الواقعية، بينما فشل الأفريقى الشمالى ولذلك تم إستيعابه وأصبح موقفه غير منسجما مع إدعائه العروبة. هذا التصور لا يمت بصلة بمناهج التفكير النقدى التى ترى فى العالم الهجنة والتعددية وأن إنسان هذا العالم يقيم هويته على التبادل والتهجين والاستعداد للتأقلم.
هذه الفكرة الهامة فى رؤية د. فرانسيس تعبر عن رد فعل لإستعلاء المركزية العربية الإسلامية فى الشمال بإستعلاء أفريقى مضاد. وما يؤكد هذا الاستنتاج حجة ثانوية يوردها فى أكثر من موضع فى الكتاب وتعتمد على فكرة الاستيعاب والمقاومة. وهى حجة تسقط العبودية عن سكان الجنوب، وهو محق فى ذلك، ولكن لتلصقها بالشماليين، وهو غير محق فى ذلك. يقرر د. فرانسيس فى هذه الحجة أن سكان الجنوب الذين بقوا فيه ترسخ لديهم الاحساس بالهوية والكبرياء عبر مقاومتهم الظافرة ليظلوا أحرارا من العبودية والهيمنة، بينما معظم الشماليين ينحدرون من إختلاط بالعبيد من الجنوب. إن وصف معظم الشماليين بأنهم ينحدرون من أصول عبودية لا تسنده حقائق التاريخ وإنما يسنده فقط منطق الثأر. فكلنا يعلم أن التزاوج والاختلاط بين النوبة فى شمال السودان والعرب المهاجرين لم يكن قائما على الرق والعبودية. وهذا الاختلاط هو الأساس لمعظم القبائل فى وادى النيل فى شمال السودان. ولا يمكن أن يتصف معظم الشماليين بأصول عبودية إلا إذا كان الاستيعاب الذى يصف به د. فرانسيس هويتهم يعنى استعبادهم واسترقاقهم. وهو ما لا يمكن أن يصح ولكنه منطق المركزية والمركزية المضادة يجعلهما تتبادلان الإقصاء والإزدراء والإحتقار.
ولأن رؤية د. فرانسيس يسودها منطق المركزية والمركزية المضادة فإنها لا ترى مخرجا للأزمة إلا بفحص صحة وشرعية إدعاء العروبة وسوف يوضح ذلك الفحص عدم وجود أساس للإنقسام العرقى المفترض، الذى تقوم عليه مشاعر التحامل والتمييز. ورغم أن د. فرانسيس يورد إحتمال آخر وهو التسليم الجدلى بأن السودانيين الشماليين عرقيا عرب ولكن ما يهم هو أنه يجب عليهم الكف عن التصرفات العنصرية تجاه المتعثرين غير العرب، إلاّ أن هذا الاحتمال الآخر يرد فقط كإحتمال منطقى وقياسى – على حد تعبير د. فرانسيس – أى أنه لا يرد كخيار عملى وذلك بسبب دعوته للسودانيين الشماليين بألاّ يتصرفوا بطريقة تعكس مشاعرهم العرقية الطبقية المتأصلة. ولذلك فإن البديل هو الخيار الذى يفضله د. فرانسيس وهو الإقرار بأن هذه المشاعر لا تقوم على حقائق. أما إذا أصر الشماليون على نظرتهم الذاتية بأنهم عرب فإن الإنصاف والعدل يمليان بأنه يجب عليهم ألاّ يفرضوا إرادتهم على الجنوب وإن عليهم قبول إنفصال البلاد.(ص399-400) إن حجة د.فرانسيس تمضى على النحو التالى: إن على الشماليين إذا أرادوا أن يحفظوا للبلاد وحدتها أن يتخلوا عن مكون هويتهم العربى على أساس من الحقائق العرقية التى تنكر عليهم هذا المكون. أما إذا رفضوا ذلك وتمسكوا بذلك المكون من هويتهم فإن الأمر سينتهى إلى الإنفصال لأنهم لن يستطيعوا أن يعملوا على الضد من مشاعرهم العرقية الطبقية المتأصلة. إن إقصاء المكون العربى من هوية الشماليين هو شرط وحدة البلاد. وأعتقد أنه تحت شروط هذا الاقصاء المتبادل بين المركزيتين المتضادتين فإن المخرج الوحيد لأزمة البلاد هو الانفصال.
وأحد التناقضات الثانوية التى ترد فى الكتاب وتشير إشارة قوية للمركزية العرقية لدى د. فرانسيس هو إحتفائه بالأصول الدينكاوية لقادة ثورة 1924 – وليس فى ذلك مشكلة فنحن أيضا نحتفى بهم وباصولهم الدينكاوية ونرى فيهم رموزا للوحدة الوطنية والتكامل القومى وتعزيزا لهما- مستنتجا من ذلك أن الجنوبيين وبشكل خاص الدينكا قد قاموا بتصعيد الحركة الوطنية فى الشمال وأشعلوا ثورة 1924 فى جميع أنحاء القطر،(ص106 ،177) وكل ذلك صحيح و لا غبار عليه، ولكن ما يثير الحيرة حقا هو أنه عندما ينتقد زين العابدين عبد التام، وهو أحد قادة ثورة 1924 من الدينكا وكان له دورا بارزا فى قيادة الثورة بكل من ملكال و واو، عندما ينتقد البند الخاص بالجنوب فى الدستور المقترح للحكم الذاتى فى عام 1951 والذى تمت صياغته لحماية مصالح الجنوبيين ولقيام وزارة خاصة بالمديريات الجنوبية وإقامة مجلس شئون الجنوب فإن د. فرانسيس لا يتوانى فى وصفه بأنه جنوبى مستعرب متأسلم ويعلق على وصفه لنفسه بأنه جنوبى بأنه تعبير غير سليم عن هويته المستوعبة.(ص125) وإذا وضعنا فى الإعتبار وضعية زين العابدين عبد التام التى تماثل تماما وضعية قادة ثورة 1924 الآخرين من الدينكا فإننا لا بد أن نتساءل كيف يكون الدينكا هم الذين أشعلوا ثورة 1924 فى كل أنحاء القطر، ثم نصف ذات القادة من الدينكا بأن هويتهم مستعربة متأسلمة ومستوعبة ولا تعبر عن الجنوبى؟!! ولكنه منطق المركزية العرقية الذى يريد أن ينسب عملا جليلا كثورة 1924 لعرقه لينوه بالدور الهام لعرقه فى تاريخ البلاد وحركتها الوطنية وعندما يتناقض ذات القادة، الذين بسببهم تمت نسبة الثورة إلى الدينكا، مع مصلحة الجنوب يصبح هؤلاء القادة مستعربون ومتأسلمون ومستوعبون ولا يمثلون الجنوب وكأنما ذات الإنسان يصدر فى كل فعل من أفعاله عن هوية مختلفة.
إن تجاوز أزمة البلاد يكمن فى النقيض المختلف الذى يتجاوز المركزيتين معا ويحولها من عوامل مفسرة إلى عوامل تحتاج إلى تفسير. هذا النقيض المختلف يتمثل فى مهمة إكمال إندراج البلاد فى مشروع حداثتها. وهى مهمة تحملها قوى إجتماعية غض النظر عن هويتها وأصولها العرقية والإثنية، تعمل على الانتقال بالبلاد من بناها التقليدية إلى بنى حديثة فى السياسة والإقتصاد والإجتماع. هذا الانتقال يتم على أساس معرفى هو التنوير، كإطار نظرى تعددى عقلانى نقدى يشمل العقلانية والتجريبية والعلم الطبيعى والتربية والتعليم بوصفهما أدوات تغيير إجتماعى ونقد الكهنوت والنقد السياسى والإجتماعى، ويقوم عليه مشروع سياسى يتكون جوهره من حقوق الإنسان كما تعرفها المواثيق الدولية، والحقوق المدنية والسياسية، والعدالة والديمقراطية والمساواة. وغياب هذا المشروع هو الذى يفسر تبدى الصراع الإجتماعى والسياسى فى البلاد كصراع هويات. وهذه هى النتيجة الطبيعية لسيطرة البنى التقليدية على الحياة السياسية والإجتماعية والإقتصادية. ولقد أصاب د. فرانسيس فى وصفه للممثلين الأساسيين للهويتين المتنافستين فى البلاد: الجبهة الإسلامية والجبهة الشعبية لتحرير السودان، فقد أبان بوضوح إعتمادهما وتعبيرهما عن البنى التقليدية فى البلاد على الرغم من وصفه لهما بأنهما أكثر النماذج حداثة. إن ارتباط هاتين القوتين بالبنى التقليدية أعاقتهما وأعاقة البلاد كلها من تحقيق سلامها وديمقراطيتها وعدالتها. إن د. فرانسيس يرى أنه مع صعود الحركة الشعبية لتحرير السودان كقوة ذات نفوذ ومناوئة للحكومة الإسلامية، برز بذلك تبلور اتجاهين ثوريين هامين من الشمال والجنوب من خضم تقليدية المجتمع السودانى وكحاضن لهما.(ص24) كما إن الدولة والحركة الشعبية وفصيلها العسكرى وجدت فى القيم العسكرية التقليدية إطارا مؤسسيا جاهزا للتجنيد ورفع الروح المعنوية لدى مقاتليهم. إن إعادة إحياء تقليد المقاتل القبلى يعنى بأن القبيلة كسبت واحدة من قيمها المفقودة – تماسكها الداخلى، الذى يتم الحفاظ عليه تقليديا بتوجيه العداوات للغرباء والأجانب. وكانت المحصلة النهائية لذلك إعادة تنشيط القبيلة بدلا عن تحديث العملية السياسية.(ص214) كما يرى د. فرانسيس أن قوى التحديث فى الجنوب (والتى نفهم أن الحركة الشعبية تمثلها) قد دعمت ورسخت نظام القيم الثقافية التقليدى. وأن الحركة الشعبية تمثل إنصهارا لعناصر من التقليد والحداثة.(ص224-225) ويمكن أن نضيف إلى ذلك فيما يخص الجبهة الإسلامية إن مشروع التوحيد الدينى لديها يخرج من فكرة وحدانية الإله إلى توحيد كل مناحى الحياة ومجالاتها ومستوياتها على أساس دينى أصولى مما يجعل مشروعها ينتمى إلى القرون الوسطى ويتناقض جذريا مع مشروع الحداثة، الذى يقوم على التمييز المتنامى بين مجالات الحياة ومناحيها ومستوياتها، بحيث يتمتع كل منها بإستقلالها النسبى. وننتهى من ذلك إلى نتيجة نختلف فيها مع د. فرانسيس وهى أن الجبهة الإسلامية والحركة الشعبية تعبران عن حركة حديثة معاقة ومشوهة بحكم نشأتها فى حاضنة تقليدية ومحافظة ونموها دون أن تتحرر من البنى التقليدية لمجتمعها فصارت أقرب إلى التقليد منها إلى الحداثة فى فاعليتها وممارستها النظرية ورؤيتها.
إن الفارق بين الحداثة كمشروع نقدى جديد تأسس على ما بعد الحداثة ونقدها والتحولات الجذرية فى العالم المعاصر وبين المشروع الذى تعبر عنه الجبهة الإسلامية والحركة الشعبية بوجهين متضادين، هو فارق كبير. فالحداثة الجديدة ترى فشل الدولة القومية حتى فى أوروبا. فقبل أن يعتلى خشبة مسرح التاريخ القوميون الصرب المتطرفون وغلاة الهوتو الروانديين بمليشياتهم المسلحة وأحلامهم وكوابيسهم المتعلقة بالهوية، كان قد اتضح غداة الحرب العالمية الأولى أن طريق أوروبا القوميات والإقتصاديات القومية طريق مسدود.(10) ومع التحولات الجذرية فى العالم المعاصر ومع ظاهرة العولمة فإن الدولة القومية التقليدية التى تتحدد بالقدرة على المحافظة على حكم القانون داخل حدودها عن طريق القوة وبالقدرة أيضا على المحافظة على هذه الحدود مستقرة بواسطة الجيش، هى بالضبط النوع من السيادة الذى أطاحت به ديناميات العولمة.(11) ومن ناحية فكرية ونظرية فقد تلازم صعود الهوية القومية مع ظهور الجمهوريات التى قامت على مبادئ عالية التجريد، لأنها تتجاوز سياق الحياة العادية وتفرض على المواطنين الأفراد أن يعاملوا أنفسهم والمواطنين الآخرين كفاعلين سياسيين لهم القدرة على إصدار أحكام فى الشئون العامة بعد التجرد من سياق حياتهم الخاصة. أى أن مبادئ الجمهورية كانت عالية التجريد لأنها تجاوزت طابع علاقات السلطة بين الحكام والمحكومين الذى كان سائدا فى العصور الوسطى وهو طابع جزئى وخصوصى وشخصى بين الأمراء والنبلاء والناس الذين يعملون فى مقاطعاتهم ولذلك فهى علاقة لا تتجاوز سياق حياتهم الخاصة. أما طابع علاقات السلطة فى الجمهورية فهو طابع مجرد لأنه قائم بين مواطنين يصدرون أحكاما عامة فى شئون عامة، ولذلك فهو طابع كلى وعام. ولأن الناس كانوا قريبى العهد بعلاقات السلطة ذات الطابع الشخصى والخصوصى فقد إحتاجوا إلى ما يعوضها لهم فى الجمهوريات الجديدة. ولذلك كان صعود الهوية القومية بعد ثورات نهاية القرن الثامن عشر يشكل تعويضا مؤقتا يوفر مستويات من التكامل الإجتماعى والتضامن الإجتماعى يجسر الفجوة بين المجزئ والخصوصى وبين الكلى والعام. وأصبحت القومية هى الأساس لتحول الذات إلى مواطن. ومن ثم نشأت ثنائية بين الطابع الكلى والمجرد للجمهورية والطابع الخصوصى والمجزئ للقومية. وهى ثنائية لم تكن مؤذية طالما كانت قومية الأفراد لها أولوية على قومية الدولة، أى عندما كانت القومية تعويضا لعلاقات التضامن التى كانت سائدة فى الماضى. ولم تصبح القومية خطرا إلاّ عندما تم إرجاعها إلى حقائق ما قبل سياسية لشعوب شبه طبيعية، أى إلى شئ مستقل وسابق على تكوين الرأى السياسى التاريخى وعلى تكوين إرادة المواطنين أنفسهم.(12) وهذا هو بالضبط مشروع الهوية القومية الذى تعبر عنه كلّ من الجبهة الإسلامية والحركة الشعبية.
ومع العولمة فقدت الإختلافات القومية أهميتها فى وجه النماذج الراهنة للتأثير الإقتصادى، والهجرة الإقليمية والعالمية، والتطور التكنولوجى، وصعود التدابير والمؤسسات الدولية، وعولمة المخاطر الإقتصادية والبيئية، بحيث فقدت الدولة القومية شرعيتها تحت ضغط العولمة الإقتصادى والسياسى. كما أن الناس لم يعدوا فى حاجة إلى ذلك التعويض المؤقت لتوفير مستويات من التكامل الإجتماعى والتضامن الإجتماعى إذ أمكن إستبدال الهوية القومية بهوية ثقافية، على أن يتم فهم الثقافة على نحو عريض لا على نحو خصوصى، بحيث يتوفر للأفراد أشكال محددة من الخلفيات المعرفية والقاموس اللغوى والتجارب التاريخية المشتركة والإلتزامات التفسيرية (أى المادة الأخلاقية) ليشكل كل ذلك شرطا لتبنّى المبادئ المجردة وإجراءات الدولة الدستورية الديمقراطية. وهذا يعنى أن الأساس الأخلاقى لإستيعاب المواطنين الأفراد فى الدولة الدستورية قد تمت تلبيته بأن ترشح المادة الأخلاقية فى المبادئ المجردة للدستور الديمقراطى.(13)
ونخلص من كل ذلك على أنه فى الوقت الذى تتخطى فيه قمم التفكير النقدى المعاصر الدولة القومية وهويتها فإن بلادنا يتهددها خطر التفتت بسبب أزمة هويتها، التى يفسرها عدم إكتمال إندراج البلاد فى مشروع الحداثة وبالتالى غياب المشروع ذاته. إن تجربتنا التاريخية ومعارف وقيم الحياة الإنسانية المعاصرة تجعلنا نبصر أفقا لتحرر البلاد وإشاعة سلامها واستعادة ديمقراطيتها وهزيمة مشاريع تخلفها والإلتحاق بالحياة الإنسانية المعاصرة ومدنيتها.
المراجع
1- Max Pensky, Cosmopolitanism and the Solidarity Problem: Habermas on National and Cultural Identities, In Conestellations Volum 7, No 1, Blackwell Publishers Ltd., Oxford, 2000, p. 65
2- جان فرانسوا بايار، أوهام الهوية، ترجمة: حليم طوسون، الطبعة الأولى، دار العالم الثالث، القاهرة، 1998، ص 88.
3- Opct., p 70.
4- د. عبدالله على إبراهيم،الأفروعبية أو تحالف الهاربين، فى الثقافة والديمقراطية فى السودان، مجموعة مقالات، الطبعة الثانية، دار الأمين، القاهرة، 1999م، ص 15- 28.
5- د. فرانسيس دينق، مشكلة الهوية فى السودان، أسس التكامل القومى، ترجمة محمد على جادين، الطبعة الأولى، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 1999م، ص 7.
6- المرجع السابق، ص 16.
7- جان فرانسوا بايار، مرجع سابق ص 33- 39.
8- إدوارد سعيد، الثقافة وألإمبريالية، ترجمة: كمال أبو ديب، الطبعة الأولى، دار الآداب، بيروت، 1997م، ص 69- 70.
9- جان فرانسوا بايار، مرجع سابق، ص 39.
10- المرجع السابق، ص 8.
11- Max Pensky, Ibid., P 74
12- Ibid., P 65- 67
13- Ibid., P 67- 68