البلشفية طريق الثورة: الفصل السادس: سنة الثورة – انتصار البلشفية
آلان وودز
2020 / 4 / 13 - 10:32
تم الاستيلاء الفعلي على السلطة بسلاسة حتى أن الكثيرين لم يعرفوا أنه حدث. ولهذا السبب فإن أعداء ثورة أكتوبر يصورونها على أنها كانت انقلابا. في الواقع هناك سببان وراء تلك السلاسة: أحدهما تقني والآخر سياسي. لقد تم تنفيذ الاستعدادات التقنية للهجوم النهائي بدقة كبيرة من قبل اللجنة العسكرية الثورية، بقيادة تروتسكي. كانت القاعدة الأساسية، كما هو الحال دائما في الحروب، هي تركيز القوى، في اللحظة الحاسمة وعند النقطة الحاسمة، بما يخلق تفوقا ساحقا للقوى، ثم الضرب بقوة. لكن هذا ليس كافيا أثناء الانتفاضة، إذ لعب عنصر المفاجأة والمناورة، لخداع العدو فيما يتعلق بالنوايا الحقيقية للثوار، دورا مهما هنا، كما في أي نوع آخر من العمليات العسكرية. لقد تم تقديم كل خطوة على أنها خطوة دفاعية، لكن في الواقع ومن الناحية العملية كانت طبيعة الانتفاضة هجومية بالضرورة، حيث تحركت بسرعة لتحتل المواقع الواحد منها تلو الآخر، ومداهمة العدو على حين غرة.
لكن السبب الحقيقي وراء تنفيذ الانتفاضة بتلك السرعة ودون ألم تقريبا، لم يكن عسكريا ولا تقنيا، بل كان سياسيا. كانت تسعة أعشار مهام الانتفاضة قد تم إنجازها مسبقا -من خلال كسب أغلبية ساحقة في سوفييتات العمال والجنود. وعندما دقت ساعة الحقيقة، لم تجد الحكومة المؤقتة، مثلما حدث للنظام القيصري في فبراير، من يدافع عنها. يظهر الموقف الحقيقي في لحظة الانتفاضة من خلال تصريحات أحد الفاعلين الرئيسيين في الأحداث- كيرينسكي، الذي كتب في مقتطف مليء بالسخرية والحسرة:
«كانت ليلة 24-25 أكتوبر ليلة توقعات محمومة. كنا ننتظر وصول القوات من الجبهة. لقد استدعيتهم في الوقت المناسب وكان من المقرر أن يصلوا إلى بتروغراد صباح 25 أكتوبر. لكن وبدلا من وصول القوات، كل ما حصلنا عليه هو برقيات ومكالمات هاتفية تقول إن السكك الحديدية تتعرض للتخريب.
في الصباح (25 أكتوبر)، لم تكن القوات قد وصلت بعد. كان مقر الهاتف المركزي ومكتب البريد ومعظم المكاتب الحكومية قد احتلت من قبل فيالق من الحرس الأحمر. كما أن المبنى الذي كان يضم مجلس الجمهورية، والذي كان في اليوم السابق فقط مسرحا لمناقشات غبية ولا نهائية، قد احتل أيضا من قبل الحرس الأحمر»[1].
نفس كيرينسكي الذي كان يتباهى في وقت سابق أمام السفير البريطاني بأنه ينتظر فقط أن يقوم البلاشفة بالتحرك لكي يسحقهم، وجد نفسه الآن بدون قوات تقوم بالمهمة واضطر للفرار من بتروغراد في سيارة تكرمت السفارة الأمريكية بتوفيرها له.
ليس هذا هو المكان المناسب لتكرار تاريخ الانتفاضة بالتفصيل، فقد تم التطرق إلى ذلك بما فيه الكفاية في كتابات جون ريد وليون تروتسكي. إن ما يثير الدهشة في ثورة أكتوبر هو كيف تمكنت من أن تعمل تحت الأنظار المركزة للرأي العام. لو أن الناس لم يكونوا على علم بأن البلاشفة ينوون الاستيلاء على السلطة، فإن التصريحات العلنية التي قام بها كامينيف وزينوفييف كانت ستنبههم إلى الحقيقة. الجريدة الفرنسية “Entente”، التي كانت تصدر في بتروغراد، كتبت في 15 نوفمبر، أي بعد أسبوع على الثورة:
«حكومة كيرينسكي تناقش وتتردد، بينما حكومة لينين وتروتسكي تهاجم وتعمل.
يطلق على هذه الأخيرة اسم حكومة المتآمرين، لكن هذا خطأ. إنها حكومة المغتصبين، أجل، مثلها في ذلك مثل جميع الحكومات الثورية التي تنتصر على خصومها. أما المتآمرين فلا!
كلا! إنهم لم يتآمروا. بل على العكس من ذلك تماما، لقد تحركوا علنا وبجرأة ودون تلاعب بالكلمات ودون إخفاء لنواياهم، وضاعفوا من تحريضهم وكثفوا دعايتهم في المصانع والثكنات وعلى الجبهة وداخل البلد، وفي كل مكان، حتى أنهم حددوا مسبقا موعد حملهم للسلاح وموعد استيلائهم على السلطة…
هل هم متآمرون؟ أبدا…»[2].
في مساء 24 أكتوبر، بدأت مجموعات من الحرس الأحمر في احتلال مطابع الصحافة البرجوازية، حيث طبعوا أعدادا كبيرة من الإعلانات الثورية وكذلك الجرائد البلشفية، مثل رابوتشي بوت وسولدات. الجنود الذي تلقوا الأمر بمهاجمة تلك المطابع رفضوا الامتثال. كانت هذه هي الصورة العامة في بتروغراد. كانت المقاومة غير موجودة عمليا. بينما كان المندوبون إلى المؤتمر يراقبون من المداخل – بعضهم بحذر، والبعض الآخر بشغف- خروج فيالق الجنود والبحارة من قصر سمولني إلى النقاط الرئيسية في المدينة. وفي الساعة الواحدة صباحا، احتلوا وكالة التلغراف. بعد نصف ساعة، تم الاستيلاء على مكتب البريد. وفي الساعة الخامسة تم الاستيلاء على مكتب الهاتف. بحلول العاشرة صباحا تم ضرب طوق حول قصر الشتاء، حيث كان من المتوقع أن تكون بعض المقاومة. لكنه في الواقع سقط بسهولة.
لم تعمل انتفاضة أكتوبر إلا أعلى تأكيد الشيء الذي كان واقعا بديهيا. كان الجميع يعلم أن البلاشفة وحلفاؤهم سيحصلون على أغلبية حاسمة في مؤتمر السوفييتات. لذلك اتخذ القرار بأن تتزامن الانتفاضة مع افتتاح أشغال المؤتمر. كان من الواضح أن الجانب الرسمي هنا يجب أن يأخذ المركز الثاني وراء متطلبات العملية العسكرية. إن الفكرة القائلة بأن مسألة الانتفاضة المسلحة يجب تحديدها من خلال نقاش عام في المؤتمر سخيفة مثل سخافة المطالبة بمناقشة خطط معركة حربية في جلسة علنية في البرلمان خلال زمن الحرب. أي شخص يطالب بمثل هذا الأمر سيُصنَّف بلا شك خائنا وربما يُحتجز في ملجأ للمجرمين المجانين. ومع ذلك فإن هذه الاعتبارات لم تمنع منتقدي ثورة أكتوبر من الشكوى من أن لينين وتروتسكي لم ينتظرا الموافقة الرسمية من طرف مؤتمر السوفييتات قبل شن الهجوم. ليس لمثل هذه الحجج أي منطق. لقد كان رأي الأغلبية الساحقة من العمال والجنود معروفا جيدا: يجب أن تستولي السوفييتات على السلطة. وقد تمت تسوية هذا بشكل مسبق، وجاء المؤتمر لكي يضع توقيعه عليه. وبمجرد أن تم حل هذه المسألة المركزية، صارت مهمة تحديد متى وكيف يجب القيام بالانتفاضة -والذي هو قرار تقني وعسكري بحت- مهمة الهيئات المختصة، وقد كانت في هذه الحالة هي اللجنة العسكرية الثورية، وفقا لقوانين الحرب وليس وفقا للديمقراطية الشكلية.
في الساعة 14:35، افتتح تروتسكي جلسة طارئة لمجلس سوفييت بتروغراد. وعند صعوده إلى المنصة، صاح بالكلمات التي كان الجميع ينتظرونها:
«نيابة عن اللجنة العسكرية الثورية، أعلن أن الحكومة المؤقتة لم تعد موجودة! عاشت اللجنة العسكرية الثورية!»
وبدأ يسرد مكتسبات الانتفاضة تباعا، ولم يتوقف إلا لكي يشرح الوضع في قصر الشتاء، حيث قال:
«لم يتم الاستيلاء على قصر الشتاء بعد، لكن مصيره سيتقرر قريبا… في تاريخ الحركات الثورية، لا أعرف أي أمثلة لحركة شهدت مشاركة مثل هذا العدد الهائل من الجماهير وتطورت دون سفك دماء. لقد كانت سلطة الحكومة المؤقتة، برئاسة كيرينسكي، قد ماتت، وتنتظر ضربة مكنسة التاريخ للتخلص منها… نام السكان بسلام ولم يعرفوا أنه في ذلك الوقت تم استبدال سلطة بأخرى»[3].
عند هذه اللحظة دخل لينين إلى القاعة، وهو ما يزال متنكرا في زي عامل. وفي منتصف خطابه، توقف تروتسكي مؤقتا وتوجه إلى الرجل الذي كان قد صار متحدا معه بشكل كامل كرفيق سلاح. كانت كل خلافات الماضي قد نسيت في خضم النضال. “عاش الرفيق لينين، الذي عاد إلينا مرة أخرى”، كانت هذه هي كلمات تروتسكي وهو يترك المنصة للينين، الذي خاطب المندوبين لأول مرة. وفي خطابه التاريخي أمام مؤتمر السوفييتات، في 25 أكتوبر 1917، قال:
«أيها الرفاق، إن ثورة العمال والفلاحين، التي كان البلاشفة يتحدثون دائما عن ضرورتها قد أنجزت.
ما هي أهمية ثورة العمال والفلاحين؟ إن أهميتها هي، أولا وقبل كل شيء، أنه ستكون لدينا حكومة سوفياتية، سيكون لدينا جهاز السلطة الخاص بنا، حيث لن يكون للبرجوازية أي نصيب على الإطلاق. الجماهير المضطهَدة نفسها هي من ستصنع السلطة. سيتم تحطيم جهاز الدولة القديم من أسسه وسيتم إنشاء جهاز إداري جديد على شكل منظمات سوفياتية.
من الآن فصاعدا، تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ روسيا، وهذه الثورة الروسية الثالثة يجب أن تؤدي في النهاية إلى انتصار الاشتراكية.
إن إحدى مهامنا الملحة هي وضع حد فوري للحرب. من الواضح للجميع أنه من أجل إنهاء هذه الحرب، المرتبطة ارتباطا وثيقا بالنظام الرأسمالي الحالي، يجب النضال ضد رأس المال نفسه.
وستساعدنا في ذلك حركة الطبقة العاملة العالمية، التي بدأت بالفعل تتطور في إيطاليا وبريطانيا وألمانيا.
إن الاقتراح الذي نقدمه للديمقراطية الأممية من أجل سلام عادل وفوري، سوف يوقظ في كل مكان استجابة حماسية بين الجماهير البروليتارية الأممية. يجب نشر جميع المعاهدات السرية على الفور من أجل تعزيز ثقة البروليتاريا.
داخل روسيا، قال قسم كبير من الفلاحين إنهم راهنوا فترة طويلة بما يكفي على الرأسماليين، وإنهم سوف يسيرون الآن مع العمال. إن مرسوما واحدا يضع حدا للملكية العقارية سيكسبنا ثقة الفلاحين. سيفهم الفلاحون أن خلاصهم ممكن فقط بالتحالف مع العمال. سوف ننشئ رقابة عمالية حقيقية على الإنتاج.
لقد تعلمنا الآن بذل جهود متضافرة. والثورة التي تم تحقيقها للتو هي دليل على ذلك. إننا نمتلك قوة التنظيم الجماهيري الذي سيتغلب على كل شيء وسيقود البروليتاريا إلى الثورة العالمية.
يجب أن نبدأ الآن في بناء دولة اشتراكية بروليتارية في روسيا.
عاشت الثورة الاشتراكية العالمية!، (تصفيق عاصف)»[4].
آلان وودز
ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي
هوامش:
[1] A. Kerensky, Memoirs, p. 437.
[2] J. Reed in Ten Days That Shook the World, p. 107.
[3] A. Rabinowitch, The Bolsheviks Come to Power, p. 278.
[4] LCW, Meeting of the Petrograd Soviet of Workers’ and Soldiers Deputies, 25 October (7 November), 1917, vol. 26, pp. 239-40.