أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - معاذ جمايعي - رسالة إلى أمي














المزيد.....

رسالة إلى أمي


معاذ جمايعي

الحوار المتمدن-العدد: 6438 - 2019 / 12 / 15 - 03:42
المحور: الادب والفن
    


لم أجد أبلغ من الكلمات لأعبر لك عن عرفاني وامتناني لك بالجميل، وبكل ما قدمته لي من محبة وعطف وعناية طيلة الطفولة وإلى حدود هذه اللحظة. لذا أخذت القلم والورقة وقررت أن أكتب لك عبارات لا توفي حقك ولا تكفي لشخصك. أنت التي حملتني في أحشاءها تسعة أشهر وكلك استبشار وفرح لقدومي، واحتضنتني أيام الطفولة والصبا، وعلمتني معاني كثيرة للحياة، يا مدرستي الأولى.
اليوم وأنا شاب تجاوز عمري العقد الثلاثين، لا تنفك صورتك تفارق خيالي كل وقت وحين، بدءا بذكريات الطفولة وصولا إلى هذه اللحظة. وكم هي كثيرة الذكريات والأحداث، غير أني سأقتصر على ذكر بعضها، أي تلك التي تركت أثرا في نفسي وظلت محفورة في ذاكرتي.
لا أنسى أيام الطفولة عندما أمرض أجدك ساهرة بقربي لساعة متأخرة وكلك حيرة وألم لما أتعرض له من مرض. ولا أنسى أيام العيد، ويا لها من أيام. كنت تختارين لي أجود الثياب وأجملها، كي يكون ابنك وسيما وحسن المظهر. دون أن أغفل عن ذكر لعبة العيد التي هي بمثابة الغنيمة والرمز الذي يضيف بهاء للعيد ونكهة خاصة. وقتها كنت أفرح بلعبتي وأرتمي في حضنك في غمرات حب وقبل.
عشنا لحظات سويا، يوم كنا لوحدنا في البيت. والدي يعمل في المهجر وأختي تعمل ممرضة في العاصمة. كنا وقتها صديقين ورفيقين، نتقاسم أشغال البيت والاعتناء بالحديقة وورودها العطرة. فأنت من غرست الوردة الحمراء، ذات العبير المنعش. كنت أسقيها وأقول: هذه وردة وردتي. كنت ولازلت جيشي الوحيد وسندي الوحيد وملهمتي في الحياة. ولا أنسى أيضا دعاءك لي عند إجراء الامتحانات. كنت وقتها أدخل قاعة الامتحان وكلي ثقة أنه سهل. لأن في داخلي فكرة تقول: " لا يرد الله دعاء الأمهات". وظللت على يقين بهذه الفكرة وأنا أجتاز امتحانات الجامعة في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بالعاصمة، وأهاتفك قبل الدخول لإجراء الامتحان وبعده.
أماه، ضل العمر يتقدم وكل مرة أرى العالم بنظرة مغايرة. ولا أعلم هل هي نظرة نضج أم نظرة صدمة بسيرورة الحياة. فالعاصمة يا أمي تخضع لمقولة" الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، وأنا ابن الجبل والمناطق الداخلية، اعتدت الفطرة والبساطة. لكن الوعي وصدمة الحياة جعلتني أوقن أنه ينبغي خلق وعي للوعي، أي أن وعي الحياة وحده غير كاف. فالطريق وعرة يا أمي. لذا، من الضروري خلق وعي إضافي يتماها مع مجريات الأحداث وسرعة الحياة الجنونية.
أذكر لحظة يا أمي لن تمحى من ذاكرتي، ولم يسبق أن حدثتك عنها. كنت يوما في المكتبة الوطنية أمرغ فكري بين مقولات العلوم الإنسانية وأشبع روحي بمعاني الكلمات والعبر، وفجأة أحسست أن شيء ما أطبق على صدري، كأن صدمة ما حصلت، ولم أعد أستوعب المكان والزمان، وامتلكني شعور كره للعاصمة التي طالما اعتبرت نفسي غريبا عنها. وجالت بخاطري عديد الأسئلة والقضايا. العمر يتقدم، لا شغل، لا دخل، لا استقرار، لا بيتنا الدافئ، لا حديقتنا الغناء، ولا وردة أمي الحمراء. أصارع الحياة في عاصمة مجنونة، الشارع فيها ممتلئ بالفخاخ، والوحدة تتربص بي بين الفينة والأخرى لتجهز على آخر نفس لي. عندها خرجت للساحة الكبرى أمام المكتبة، سحبت الهاتف من جيبي، ترددت، ثم هاتفتك. قلت لك: أماه.. ابنك يتألم، وصار يرفض كل ما هو محيط به، ويشتاق لحضنك الدافئ، وتعب من المعيش اليومي الفارغ الذي لا يحمل معه أي أمارات وبشائر خير للمستقبل، ولم أعد أجد طعما للحياة، وأنا أتجرع مرارتها يوما تلو الآخر وكأني مجبر على تناول العلقم مع كل إشراقة يوم جديد.
عندها أجبتني بكل لطفة وعناية وحكمة أمومة قائلة: بني.. لا تحزن، أنظر للجانب المشرق من الحياة. أنت شاب متعلم وجامعي، ذو أخلاق عالية وأنا سعيدة لما وصلت إليه من مستوى دراسي. يكفيني فخرا أنك مجتهد ولا تضيع وقتك فيما لا يعني مثل بقية الشباب. أنت سر سعادتي. فلا تأبه لصعوبات الحياة، لأن المثل يقول" محال دوام الحال". فلن يطول الأمر، ستشتغل، وتتزوج ويكون لك بيت ثان دافئ وأسرة تلتف من حولك، ويكون لك شأن كبير في الحياة، وهذا احساسي يا ابني الغالي، واحساس الأم لا يخطئ أبدا. بعد الشتاء يأتي الربيع، وستزاح كل الغيوم. عد لقاعة المطالعة وأنرني بعلمك في لقائنا القادم، فأنا أنتظر قدومك بفارغ الصبر لتحدثني ككل مرة عما اكتسبته من معارف جديدة. احرص على أن تنكب على دراستك، وألا تدع سبيلا للحزن ليخطف ابتسامتك من على وجهك يا بني، فهي تبعث في نفسي الحياة. اقطع مع الحزن واليأس وثق أن الأيام القادمة ستكون مشرقة. لذا، كن قويا عزيزا يا غالي.
عندها تماسكت وانبعثت في روحي الحماسة وقلت لك: حسنا يا سيدة النساء، من أجلك سأكون ناجحا، وسأعمل على أن أبعث في قلبك السرور عبر تفوقي في الدراسة.
ثم دخلت مباشرة لقاعة المطالعة بالمكتبة، والذكريات الجميلة تنهال علي، ذكريات أمي، صديقتي وسندي، ورفيقة الطفولة والصبى. رحت أتذكر كيف تعدين لي الطعام الشهي، وترتبي لي غرفتي بكل عناية، وتعمدين إلى اختيار ثياب متناسقة لي كل صباح قبل الذهاب إلى المدرسة، وكيف تقومين بالدعاء لي في كل صلاة، حتى أني أمازحك قائلا: هل ذكرتي اسمي عند الدعاء؟ أم كان دعاء في المطلق؟ فتضحكين قائلة: بل ذكرت الاسم واللقب.
اليوم يا أمي، تغيرت مجريات الأحداث المتسارعة والمتصارعة مع الأيام. صرت أشتغل والحمد لله، وازدادت تحديات الحياة. لكن أبشرك أني صرت أكثر صلابة من قبل، وأكثر تحملا للمسؤولية. وأني لازلت على عهدي ووعدي يوم أعلنت لك قائلا: "أماه، مثلما كنت صديقا لك في الأربعين ورفيقا في الخمسين، سأكون سند الستين وعكاز الثمانين. لن أخذلك أبدا يا غاليتي."
لك أن تفخري يا أمي أنك ربيت ابنا ثابتا على حب الوطن والأسرة والدين، وهذا يحسب لك، فأنت من زرع فيا هذه الخصال. وأقدم لك جزيل الشكر والامتنان على حسن تنشئتك لي يا مدرستي الأولى. فكل خطوة أخطوها وكل نجاح في الحياة أحققه، سيكون نجاحا لك أيضا، لكن بطعم آخر، وبرائحة أخرى، رائحة الوردة الحمراء، وردتي الجميلة.
أطال الله في عمرك وغمرك بموفور الصحة. دمت تاجا على رأسي يا سندي الغالية.



#معاذ_جمايعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
- يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
- معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا ...
- نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد ...
- مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
- مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن ...
- محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
- فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م ...
- ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي ...
- القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - معاذ جمايعي - رسالة إلى أمي