صمت المنطقة الغربيّة: الأسباب، الواقع، والنتائج!
سلام عبود
2019 / 11 / 29 - 15:13
ماذا يحدث في المنطقة الغربيّة؟ لا جديد في الجبهة الغربيّة: صمت ميدانيّ مصحوب بتحريض طائفيّ إعلاميّ صاخب وموجّه.
بدءاً لا بدّ من بعض التصحيحات الجغرافيّة المهمّة. الصمت لا يشمل المناطق الغربيّة، بل يشمل المناطق الشماليّة والغربيّة أجمع. وهي مناطق يحكم الكرد جزءاً منها، ويحكم القادة العرب المحليّون، الشركاء المباشرون في الحكومة الفاسدة المركزيّة، الجزء العربيّ. أي المنطقة، التي هي في المحصلة العامة تحت عباءة مكوّن طائفيّ واحد. هل هي وحدة طائفيّة واصطفاف مذهبيّ؟ هذا سؤال غير مسموح لأحد القفز عليه، أو تجاهله.
فإذا كان صمت الجزء الكرديّ ذا دوافع مفهومة، بسبب سيطرة القوى الانفصاليّة على مقدرات الشعب الكرديّ، رغم أنّ هذا لا يبرر للقوى الكرديّة المعارضة الصمت، فما سبب صمت سكان المناطق العربيّة؟
وهنا لا بدّ من تصحيح آخر ضروريّ. الصمت هنا يعني الشلل الميدانيّ، الذي لا يشبه صمتاً آخر. صمت يحمل طابعا فريداً، فهو مصحوب بحملة إعلاميّة صاخبة جداً، موجهة توجيهاً دقيقاً ومحدداً وصارماً: التحريض الشيعي الشيعي. أهي مصادفة محضة أن يقترن الصمت الميدانيّ بالضجيج الطائفيّ الصاخب؟ هذا سؤال آخر غير مسموح لأحد القفز عليه، أو تجاهله.
ما سر ذلك؟ ومن يقوم به، ولماذا؟
هذه الأسئلة الخطيرة، لم تزل حبيسة في أفئدة الجميع، لا أحد يجرؤ على النطق بها. ربّما لجسامتها، وغرابتها في تاريخنا، أحسّ بها، قبل الجميع، صبية ثائرون وشباب متوقّدون وهم على السواتر وفي الساحات يتساقطون برصاص سلطة القتلة المجرمين. وهذه ظاهرة خطيرة أخرى، تستدعي التفحّص والتأمل، غير مسموح لأحد أيضاً القفز عليها، أو تجاهلها. كيف مرّ عليها الناس مرور الكرام ولم توضع موضع التساؤل والحوار، البارد أو الساخن، باعتبارها معضلة وطنية عالية الحساسيّة والخطورة؟ لماذا وضعت في الظلّ؟ من جعلها أمراً واقعاً أو هامشيًّا، لدى الجميع، من يحبّ ومن يكره؟
إذا كانت صناعة الظاهرة جزءاً من مهارات هذه الجهة أو تلك، فمن صنع الصمت حولها، من منع الجدل فيها؟
هذا أمر محيّر، يشبه السحر!
عند سقوط الموصل بيد القوى المحليّة المعارضة للسلطة المركزيّة، التي سلّمت القيادة الميدانيّة إلى القوى التكفيريّة، ظهر موقف القيادات الكرديّة العنصريّة الانفصاليّة واضحاً وصريحاً وجارحاً في درجة قبحه الوطنيّ. جاء ذلك على لسان جبار ياور، ثم على لسان مسعود البارزانيّ شخصيًّا: نحن غير معنيين بالصراع الدائر مع المركز، وسندافع ضد داعش فقط في حال مهاجمة المناطق الكرديّة. فهم أكراد وليسوا عراقيين. أي أنّهم يخرجون الكرد من المعادلة الوطنيّة جهراً، بأعلى صوت. عن أيّ دستور أخرق يتحدثون!
وبالصدق الدستوريّ نفسه، والوضوح نفسه، أعلن أسامة النجيفيّ الموقف ذاته، في ما يتعلّق بالموقف من الانتفاضة الشعبيّة في الوسط والجنوب: الشيعة ينتفضون ضد حكامهم الشيعة، ولا علاقة لنا نحن السنّة بذلك. أي أنّه يخرج نفسه، ويُخرج من يتحدث باسمه من المعادلة الوطنيّة، لأنّه وفق تصريحه "سنّيّ"، لا صلة له بصراع المواطن الشيعيّ. أي أنّنا في محاصصة أبديّة، سواء كنّا في قلب السلطة أو كنّا خارجها، في جحور داعش.
موقف النجيفيّ والبارزانيّ ليس محض كلمات، بل هو حفر دقيق لخارطة طريق تحدّد نهجهما السياسيّ، بها يرسمان خطوط التماس، وحدود الحركة والاتصال والانقطاع، والتواصل والمشاركة والتحفّظ. أي يحددان بدقّة بالغة حدود الانفصال العاطفيّ والذهنيّ، الممهد للانفصال الحسيّ والميدانيّ.
صمت النجيفيّ صمت ميدانيّ مخطط. ولكن، هل يمثل النجيفيّ حقاً سكان المناطق العربيّة السنيّة كلّها؟ من دون أدنى شكّ: لا. إذاً، أين صوت الآخرين؟ وفي الحدود الدنيا أين صوت المتنورين، والقوى المدنيّة، وصوت من هم أكثر جذرية من هذا وذاك؟
الجواب على ذلك: إنّهم موجودون في ساحات التواصل، على الهواء وعلى الورق، وهم يعرفون أن المعركة تدور في الميادين وعلى السواتر، وأن غذاءها اليوميّ دم زكيّ، وليس كلمات في أقنية التواصل الاجتماعيّ وفي الجحور المظلمة. يصنع لهم الشهداء ثورة بالإنابة!!
مع هذا، لنتأمل ساحات التواصل الإعلاميّ.
على صفحات التواصل الاجتماعي نجد آراء متنوعة، متباينة، عفوية وموجّهة، نختار منها ما هو أكثر قرباً من موضوعنا. وهي أراء تصدر عن مواقع وقنوات ومنصّات خفيّة وعلنيّة، يحاول فيها أصحابها الظهور بمظهر المؤيّد للحراك الاجتماعيّ، ولكن... لنتأمل هذه اللكن.
يقول أحدهم مبرراً سبب الصمت:
"إنّ الخشيّة من أن يُتهم الناس بأنّهم مع داعش دفعتهم الى التردّد في الوقوف في صف أبناء الانتفاضة"
" لقد تمّ شراء ذمة الكثير من شيوخ العشائر".
هذان السببان لا يجيبان عن السؤال، بل يعمّقان الشكّ في غلبة فكرة الانتقام الطائفيّ. لأنّ استمرار الثورة لأكثر من شهر من دون رد فعل ميدانيّ ولو اسميّ وشكليّ يعمّق فكرة وجود "داعش"، ليس كسبب للامتناع عن المشاركة في الانتفاضة، بل كسبب من أسباب الميول الانعزاليّة المناطقيّة الأنانيّة والثأريّة المرفوعة باسم داعش، أو غير داعش كالتحفّظ مثلاّ. أمّا رؤساء العشائر فهو أمر صحيح جدًّا، لكنّ الجنوب والوسط أيضاً خضعا للابتزاز نفسه، ولم يمنع المواطن من الخروج على السلطة الفاسدة.
التبرير الثاني يقول حرفيًّا: ""قبل أسابيع كنا متحفظين من انضمام المنطقة الغربية للتظاهرات ومشاركة العراقيين ثورتهم وكنا نرى حينها الوقت لم يحن بعد لذلك كي لا تتهم هذه المناطق باتهامات باطلة الآن وبعد انحياز المرجعية بالكامل لثورة العراقيين وممارسة حقهم الدستوري حان الآن وقت انضمام الغربية لهذه التظاهرات السلمية حتى التاريخ يكتب ان العراق قد ثار من اقصاه الى اقصاه في ثورة تاريخية عارمة نظيفة وحدت ابناءه وجعلتهم جسدا واحدا لا طائفية تفرقهم ولا احزاب او كتل تصادر قرارهم وتفسد حياتهم وتسرق ثرواتهم". "موقع ..." 16تشرين الثاني 2019.
وهذا النصّ لا يخرج عن مضمون سابقه من حيث الجوهر. لكنّ صياغاته تعكس بشكل خفيّ، لا إراديّ، ظهور مفهوم يتضمن وجود أكثر من شعب: "مشاركة العراقيين ثورتهم"، بدلاً من "مشاركة شعبنا ثورته" و"ثورة العراقيين" بدلاً من ثورتنا. هناك انفصال دلاليّ لم يتمكّن الكاتب من تحسسه، لأنّه غارق في خدر المتحفّظين. ربّما سوء تعبير، لكنّه سوء تعبير غير إراديّ، له خلفياته وضغوطاته العقليّة والنفسيّة، والايديولوجيّة أيضاً. أمّا الأمر الثاني الجديد في هذا التبرير فهو "التحفّظ"، الذي يدل على وجود إرادة جماعيّة منظّمة، موحّدة، استطاعت بقدرة قادر أن تسيطر على نصف العراق! لكنّ الأكثر إثارة هو ربط التحفّظ "بانحياز المرجعيّة"، التي لا ينتسب المعنيين لها، والتي هي مصدر شكّ من "العراقيين" و"ثورة العراقيين" الذين ينتسبون الى هذه المرجعية! وهنا تكمن المفارقة المبكية الكبرى.
إنّ الظاهرتين الأكثر شيوعاً في المجال الناطق تكمنان في تطوير آليّات التحريض، من طريق استخدام التأليب الشيعيّ الشيعيّ عنواناً رئيساً للمعركة وبوصلة لتحديد وجهة الصراع. وقد ظهر هذا التأليب في ناحيتين: الأولى، استعادة جو الحرب العراقيّة الإيرانيّة بأغانيه وأهازيجه ورموزه وشعرائه وموروثاته النفسيّة المرضيّة والآيديولوجيّة. والأهم في هذا هو الغياب العلنيّ لشخصيّات بعثية كبيرة، والاكتفاء بدفع صغار متملقيّ البعث من كتاب الحرب و"كواليهم" الى الواجهات. أمّا الثانية فهي توجيه الصراع نحو إيران، وجرّ الجماهير الغاضبة، المستثارة، الى وجهة فرعيّة، تجعلهم في مواجهة خصم جديد، ودوافع جديدة، وحجج إضافيّة للسلطة ولأعداء الثورة الشرسين وللمتربصين بها. وهذا ما أسميناه بحرف البوصلة.
وقد تفنن هذا الطرف تفنناً عجيباً في قيادة عملية التأليب، وفي أدلجة المشاعر، استخدمت فيها الرموز والتاريخ والسياسة والصناعة والتجارة وحتّى الرياضة، والقفشات. فقد ظهر فجأة شعور "عراقي" خالص يطالب بمقاطعة البضائع الإيرانيّة "حماية للصناعة الوطنيّة". ولا يعرف المرء لماذا الإيرانيّة وحدها والأسواق تغرق ببضائع العالم أجمع! ثمّ سرعان ما تطوّر الأمر الى دعوة لمقاطعة شراء البضائع الإيرانيّة حتّى في مناطق اللجوء والمهجر، من دون أن نعرف حماية لأيّة صناعة هذه المرّة. وظهرت الصحافيّة الشهيدة "أطوار بهجت"، ولكن "معدومة" على يد قاسم سليماني، في "سرّ" تمّ كتمانه لعشر سنين ولم يظهر إلّا في هذه اللحظة الضروريّة. وحال انتهاء مباراة العراق وإيران رفعت "قناة الشرقيّة" لوحة بالخط الأحمر خُطت عليها بحروف كبيرة عبارة: " العراق يسحق إيران"! استمر الإعلان لبضع دقائق، ثمّ حلّ محلّه الخبر التالي: " الفريق العراقي يفوز على الفريق الإيراني بكرة القدم...". وتبدأ قناة "هنا بغداد" إحدى نشرتها الإخباريّة ليوم الأربعاء 28 تشرين الثاني بالخبر التالي: " جماهير راوة وعانة وهيت وتكريت والموصل تستنكر إيقاف بث قناة هنا بغداد"! ويضع سعد البزاز قلادته الذهبيّة في رقبة شاعر القادسية الطاهرة، ثمّ يتوّجه بـلقب "حنجرة الحقّ في انتفاضة تشرين"!! وفجأة عادت تعابير الفرس والعجم والمجوس والصفويين تتردد على ألسنه مواطنين يعرّفون أنفسهم أنّهم ينتمون الى جهات يساريّة أو تقدميّة أو مدنيّة، وتعالت مجدّداً تعابير الثأر والانتقام والوعد والبيعة والعهد. وقد تمّ تتويجها حسيًّا بشعارات التوجه نحو المؤسسات الدبلوماسية الإيرانيّة، إحدى أثمن الهدايا الأميركيّة. ما يميز هذا التهييج أنّه كان منظّماً تنظيماً عالياً، من طريق شبكة محكمة مبثوثة في المواقع كافّة من اليسار الى اليمين، مترابطة الحركة، عند الهجوم أو الانسحاب، أو عند تكثيف الضغط أو تليين وتغيير المواقف، بقيادة ميدانيّة عليا تحرّك المشهد العام، تذكّر الى حدّ كبير بقيادة ما عرف بـ "إعلام المقاومة". (نستطيع كشف الأسماء عند الضرورة القصوى في حال وجود اعتراض حقوقيّ فقط. رغماً عن أنّنا لا نجد ضرورة لذلك على الإطلاق، لأنّ هدف المقال هذا هو إثارة الجدل لا الغرق في الأسماء والتفاصيل، التي لن تنتج سوى تعميق الخلافات لصالح أعداء الانتفاضة الوطنيّة). وقد يصل التحريض حدوداً بارعة وعميقة في درجة خبثها حينما يتمّ توجيه نداء يقول: " أنا لا أعتقد أن ثوار النجف سيضطرون الى التوجه نحو مقر المرجعية الدينية ويقومون بسحل جثة السيستاني في الشوارع، وهذا ليس غريب الشعب"!!! وهو استدراج ايحائيّ بريء المظهر، لكنّه عصابي، غريزيّ، إجراميّ من طراز بشع، يهدف الى اصطياد مشاعر الناس المثارة والمستفزّة، استخدم من قبل سلاحاً ماضياً ودمويًّا مجرَّباً في حقبة الحرب الطائفيّة، عقب تفجير مرقد الإمامين في سامراء.
لقد استعاد وأشاع التوجيهُ الدعائيُّ البعثيُّ أجواءَ الحربين العراقيّة الإيرانيّة وحقبة "فوبيا" الحرب الطائفيّة، مستخدماً الإمكانات الواسعة، التي يتمتع بها، داخل السلطة وخارجها، من قنوات تلفزيونيّة ومسلسلات ونشرات صحفيّة وصحف كبيرة وقنوات التواصل الاكترونيّ، لصناعة جوّ نفسيّ معاد شعوريًّا وعاطفيًّا لمناخ الانتفاضة، في حملة موحدّة تنادي في الظاهر باسم الثورة، وتعمل في الواقع على تجميد المشهد الثوريّ وتغيير بوصلته، فتصبح القذيفة القاتلة في نشرة أخبار قناة " الشرقية" آلة محايدة يتم الاصطدام بها: " وقد أصيب أحد المتظاهرين نتيجة اصطدامه ( ضرب، تصويب، إطلاق) بعبوة مسيلة للدموع"!، أو كما تقول قناة "هنا بغداد" " بلغ عدد المتوفين (الشهداء) 260"، ولم تُسمع كلمة واحدة، طوال ستة أسابيع، تدعو أو تحثّ المواطنين في مناطق "المايكدرون" على الخروج الى الشارع.
الى أين يريدون الوصول بالأمرين: بالصمت الكريه وبالضجيج الأكثر إثارة للكره؟
إنّ تضييق أو إغلاق جزء من جبهة المواجهة مع الفساد والظلم الاجتماعيّ والسياسيّ، ومع الأخطاء الوطنيّة الكبرى، هي حماية أكيدة لظهر السلطة الفاسدة ميدانيًّا وسياسيًّا ومعنويًّا وحتّى قمعيًّا (أمنيًّا وعسكريًّا)، ومساعدة القوى الفاسدة على تركيز طاقاتها الواسعة، من طريق الاستفراد، وهو السبب المباشر لظاهرة استقواء السلطة واستهتارها واسترخاصها لدماء أبناء الشعب. إنّ قوّة سلطة الظالم ليست مستمدة دائماً من جبروته حسب، بل من ضعف مواجهته، وبخلاف ذلك فإنّ عروش أقوى الطغاة أوهى من بيوت العنكبوت.
حينما نتحدث عن فساد نظام الحكم أو ما يعرف بالعمليّة السياسيّة، يذهب الذهن مباشرة الى سرقة الثروة الوطنيّة، وتحاصص المناصب، وهدر كرامة المواطن من قبل الأحزاب، وفقدان سلطة الدولة لصالح القوى الدوليّة والإقليميّة، وهي أمور صحيحة جدًّا، لكنّها أمور تنسينا أمرين أساسيين لا ينظر اليهما المواطن في الأحوال العامة، ولا يهتم بهما، لأنّهما شأن نظريّ وتخصصيّ. ونعني بهما الطابع التخطيطيّ المنظّم للتطور الاجتماعيّ (حتّى الآن لا نملك تعداداً للسكان!) والجانب الثاني هو بنية النظام الاجتماعيّ بكلّ ما تحويه من علاقات بين المكوّنات ومن مشاعر وطنيّة وهوية ثقافيّة. وهما جانبان دستوريّان بامتياز، لم يفقه دستور "بريمر- بهاء الأعرجيّ" شيئاً عنهما! والجانبان الأخيران لا يظهران للعيان بشكل واضح في ظلّ الانهماك في الحياة اليوميّة في الفترات القلقة والمضطربة، لكنّ نتائجهما التدميريّة تظهر واضحة في اللحظات التاريخيّة الفاصلة، كاللحظة الراهنة، التي هي اختبار جديّ يضع قضية المواطنة والهوية الوطنيّة موضع الاختبار. إنّ تأثير هذه القضيّة يلقي بظلاله الداكنة على الجميع، لأنّ البنى الاجتماعية في ظلّ نظام قلق، غير مبنيّ على قواعد متينة وصحيحة، يخضع لعملية تأثير وجوديّة متبادلة غير متوقّعة، قد تأخذ طابعاً سلميًّا أو عنيفاً يشبه الهزّة، بهدف إعادة توزيع الأدوار الاجتماعيّة. فحينما نتحدث عن غرس مشاعر الانفصال العاطفيّ، كممهد للانقسام الجغرافيّ أو السياسيّ، فإنّ ذلك لا يشمل طرفاً معيناً، بل يشمل الأطراف كافّة، بما فيها الطرف الثالث، الذي تؤكد الأحداث أنّ فيه أيضاً من يدفع الى ترويج وتعزيز مشاعر الانفصال لدى الآخرين، لمآرب أنانيّة كامنة فيه، قوامها إحلال الطائفة محل الوطن. إنّ حلّ الجيش العراقيّ، ورفض قيام مصالحة وطنية قائمة على مبدأ إعادة إعمار الذات الوطنيّة على أسس جذريّة، ومسرحية اجتثاث البعث، التي لم تكن سوى عمليّة محاصصة لإرث البعث، والقسوة المرعبة التي عاشتها المناطق التي قاومت الاحتلال الأميركي بالسلاح، ودور قيادات الأحزاب الحاكمة في تبرير جرائم الاحتلال ممثلاً في مجلس الحكم وعلاوي ثمّ الجعفريّ فالمالكيّ، والاستهتار البشع الذي مارسه المالكي وحكومته وهو يواجه مشكلات الواقع في ما يعرف بالمناطق الغربيّة، وسوء إدارة ملف كردستان، وأخيراً دور العبادي في مرحلة التخلّص من التكفيريين بالتدمير الشامل والتهجير وبغياب الحلول الاجتماعيّة للمناطق المحرّرة وللمهجرين والنازحين، التي كانت عاملاً أساسيًّا من عوامل تعزيز نزعة العزلة بين المكونات، والتي ربّما تضع الأساس لصدامات أعمق وأكبر الآن وفي المستقبل، وكل هذا نراه الآن في الخطابات، التي تستعيد أغاني الحرب العراقيّة الإيرانيّة وهتافاتها وشعاراتها ومشاعرها وشعرائها ورموزها وحتّى كتاب قصصها. إنّه استثمارٌ للخزين العاطفيّ والنفسيّ، الذي لم تتمكن السنوات الماضية من التغلب عليه ولجمه، أجبر السياسة الحكوميّة الخاطئة على الاحتفاظ به، عبرها، في دواخل الناس، واستنطاقه في لحظة غير موفقة، لحظة خروج الشعب على حكومته الفاسدة. فالفاسدون، من الأطراف كافّة، يتوارثون فساد سابقيهم، بما في ذلك فسادهم الشعوريّ والعاطفيّ والأخلاقيّ.
هل نحن أمام ظاهرة عابرة، أم أنّنا أمام ظاهرة لم تزل جنينيّة، لا يمكن التغلّب عليها، لأنّها في طورها كي تصبح مصدر خطر مستحكم؟ وهل الانعزال الوطنيّ وسيلة نافعة لتحصيل الحقوق والمنافع أم أنّها وسيلة أكيدة، مجرَّبة، لتضييع الحقوق الوطنيّة كافة؟
هذه أسئلة تبحث عن إجابات شجاعة وصادقة.
وهذا وطننا يذبح على مرأى ومسمع منّا جميعاً!